«محمد على» ينتصر ل "ابن الفلاحين". بجلد الطالب المخطئ 300 جلدة «عباس» نفاه إلى السودان 4 سنوات.. وعاد فى عهد «سعيد» لمواصلة مشروعه عفاف لطفى السيد: الوالي كان يؤمن بقيمة التخصص والمتخصصين ويستشير من حوله ليس معروفاً على وجه الدقة، السبب الذى دفع الطالب عبدالله وهو ألبانى برتبة يوزباشى كان يدرس فى مدرسة الألسن، الى صفع الشيخ رفاعة الطهطاوى ناظر المدرسة على وجهه، لكن يمكننا أن نستنتج بسهولة، أن ألبانية الطالب هى التى شجعته على التطاول على «ابن الفلاحين»، الذى يبقى مهما علا شأنه وارتفعت وظيفته، أدنى إنسانياً. ما جرى بعد ذلك هو ما يعنينا، إذ ينص القانون ازاء مخالفة من هذا النوع على تنزيل رتبة الطالب وسجنه 5 سنوات، لكن مختار بك المدير الأول لنظارة المدارس، اكتفى بتنزيل الطالب رتبتين وهو ما أغضب محمد على، وبعث الى مختار بك يستفسر منه عن عدم تطبيق القانون، وكان رده أن الطالب المخطئ كان ضمن بعثة ارسلت الى فرنسا وأنفقت عليه مبالغ طائلة، ولذا فقد رأينا- مختار بك- أن نكتفى بتنزيل رتبته حتى لا تضيع أموال الدولة التى أنفقت عليه هدراً. لكن الوالى رد بحسم: الطالب المخطئ يجب أن يجلد 300 جلدة ثم يطرد من المدرسة، لأن رفاعة بك درّب الكثير من الطلبة وعلمهم، واسترضاؤه أكثر ربحاً لنا من الانشغال بالأموال التى انفقت على الطالب. موقف محمد على المناصر للشيخ رفاعة «»، لا يمكن القياس عليه، ففى مواقف مماثلة تصرف الوالى بطريقة مغايرة منتصراً لبنى جلدته من الألبان، أو العناصر المميزة من الموظفين الأتراك، وغض الطرف عن اخطائهم. لكن الشيخ رفاعة لم يكن وجهاً عابراً فى مسيرة الثقافة المصرية المعاصرة ولا نهضتها الحديثة، بل إن كثيرين يعتبرونه عنواناً فارقاً فى جهود التحديث التى بدأها محمد على، فالشيخ الذى ولد فى السنة ذاتها التى غادرت فيها الحملة الفرنسية مصر، 1801، ودرس فى الأزهر الشريف لمدة 6 سنوات، وعمل بالتدريس به لمدة عامين، قبل أن يتم اختياره واعظاً لإحدى فرق جيش محمد على عام 1824، اختير اماماً للمبعوثين الذين أرسلهم محمد على الى فرنسا عام 1826 بترشيح من شيخه حسن العطار، وهناك فى باريس، درس الفرنسية، وانكب على علوم العصر ينهل منها ويترجم الكتب فى فروع العلم المختلفة فى الجغرافيا والقانون والاجتماع وغيرها، وحين عاد الى مصر عين مترجما بمدرسة الطب ثم بمدرسة الطوبجية «المدفعية» فى طرة، وأسس مدرسة الألسن فى العام 1834 بهدف تخريج مترجمين للمصالح الحكومية، وترأس تحرير جريدة «الوقائع المصرية» عام 1842، واستمرت انجازاته الثقافية حتى جاء الخديو عباس حلمى الأول الذى انتكست فى عهده العديد من مشروعات محمد على الكبرى، فأطيح بالطهطاوى، وأغلقت مدرسة الألسن وعينه الخديو مديراً لمدرسة ابتدائية فى الخرطوم، وحين تولى سعيد أعاد رفاعة وعينه وكيلاً للمدرسة الحربية التى تولى نظارتها آنذاك سليمان باشا الفرنساوى. وفى عهد اسماعيل أشرف على قلم الترجمة وأصدر فى 1870 جريدة «روضة المدارس» قبل أن يرحل عن دنيانا فى العام 1873 تاركا أكثر من 30 مؤلفاً. ولد رفاعة فى أسرة متواضعة واعتنى به أخواله بعد وفاة أبيه، فحفظ على أيديهم الكثير من الكتب، وانتقل للدراسة بالأزهر الشريف، وتأرجح مشروعه العلمى فى الترجمة والتأليف ما بين رضا الوالى الكبير محمد على باشا الى سخط عباس الذى نفاه تقريباً الى السودان لمدة 4 سنوات، قبل أن يعود فى عهد سعيد لمواصلة مشروعه، وحين توفى كان جملة ما حصله من عطايا الولاة نحو 1600 فدان، وعددا من العقارات اشتراها فى طهطا والقاهرة. والحقيقة أن اهتمام محمد على بالتعليم بدأ باكراً حين أنشأ مدرسة للهندسة فى ساحة القلعة عام 1816، كما أنشأ مدرسة للطب فى أبى زعبل عام 1827، بناء على اقتراح من كلوت بك، وكان طلابها يختارون من بين طلبة الأزهر، المؤسسة التعليمية الوحيدة فى ذلك الوقت، وكانت هناك أيضاً مدرسة للمعادن واخرى للمحاسبة وثالثة للفنون والصنائع ورابعة للصيدلة وخامسة للزراعة وسادسة للطب البيطرى، وكان الهدف من انشاء هذه المدارس امداد الجيش بما يحتاج إليه من الخريجين فى هذه التخصصات وكان ديوان المدارس هو الوزارة التى وضعت نظاماً لإنشاء المدارس فى أقاليم مصر، وأقرت فى العام 1837 انشاء نحو 50 مدرسة فى البحيرة والمنوفية والغربية والشرقية والدقهلية والاسكندرية والقليوبية وغيرها، بلغ تلاميذها نحو 9000 تلميذ، وقد أغلق معظمها عباس حلمى الأول فور توليه. أما بعثات محمد على فقد بدأها الى ايطاليا عام 1816 بهدف دراسة الفنون العسكرية وبناء السفن والهندسة، وكان أشهر مبعوثيها «نيقولا مسابكى» أفندى الذى أوفد الى روما وميلانو لمدة 4 سنوات لدراسة سبك الحروف والطباعة، وتولى ادارة مطبعة بولاق عقب عودته عام 1821، واستمرت بعثات محمد على حتى 1847 «9 بعثات كبيرة»، لكن بقى الشيخ رفاعة هو الاسم الأشهر بينها. نعود الى ما بدأنا به، هو الموقف الايجابى لمحمد على تجاه الشيخ رفاعة، واصراره على معاقبة الطالب الذى صفعه وتطبيق القانون ضده دون هوادة. نؤكد من جديد أن هذا الموقف قابلته مواقف اخرى عبر فيها الباشا عن رؤية برجماتية أحياناً، وعن ميل شخصى فى أحيان أخرى. كان الباشا بحسب كثير من المؤرخين رجلاً عملياً. كان أحياناً ينتهك بعض القوانين والقواعد التى وضعها بنفسه لتحقيق مصلحة معينة، حتى موقفه الصارم ضد الفساد بين موظفيه كان قابلاً للمساومة احياناً حين يكون ذلك مفيداً. ويسوق خالد فهمى فى «كل رجال الباشا» أمثلة عدة على هذا المنحى فى سلوك الباشا.. وصل الى علم الباشا أن المدرب الفرنسى لآلاى المشاة التاسع عشر سرق 30 أردباً من الشعير، فكتب الى ناظر الجهادية «هذا المدرب كان يجب أن يفصل من الخدمة فى الحكومة بعد اعطائه مرتبه، لكن نظراً لأنه خبير فى عمله، وأننا نحتاج لخدماته، فإننا يجب أن ننسى الأمر ونتكتم عليه». وفى حالة أخرى عقدت محكمة عسكرية لضابطين كانا يحاربان فى الشام وقد فر أحدهما أثناء المعركة، ورغم أن القانون ينص على اعدام الضابط الا أنه ارسل إلى الليمان مدى الحياة، وضابط آخر فر للمرة الثالثة، وبدلا من الاعدام حكم عليه بالجلد والسجن 3 أشهر. وحين وجد محمد على أن الحكمين مختلفين أرسل خطاباً شديد اللهجة الى محمد بك ناظر الجهادية، يأمر فيه بأن تتبع المحكمة نص القانون، وطالب بأن يرسل الاثنان الى الليمان مدى الحياة، رغم أن الحكم فى الحالتين هو الاعدام. وفى رأى خالد فهمى إن ما دفع الباشا لاتخاذ هذا الموقف هو أن الرجل الميت لا ترجى منه فائدة، بينما يمكن لرجل أنفق عليه الباشا أن تكون له بعض الفائدة اذا ما حكم عليه بالأشغال الشاقة فى الليمان، على الأقل فى شكل عمل شاق منتج. كان الباشا يحتاج الى تكوين نخبة حوله وحول اسرته، وهو ما دفعه لأن يهب لهم امتيازات غير مستحقة، وأن يغض الطرف فى أحيان كثيرة عن اخطاء يرتكبونها. هناك مثلاً قضية على بك الذى عين «يوزباشي» ثم فصل بسبب «سلوكه الفاجر المنحل»، لكن الرجل قدم طلباً ليعود للخدمة فوافق الباشا، لأن الرجل ابن أخت على بك المرعشلى الذى كان يعمل بالجهادية وهو من عائلة قديمة. هناك أيضاً يعقوب أفندى الذى أمر بأن يذهب الى قبرص ليلحق بقوات الباشا هناك لكنه تأخر عن تنفيذ الأمر ثلاثة أشهر مضافاً اليها 45 يوما منحت له ليستعد للرحلة، وحين عرض الأمر على الباشا قال: طالما أن الرجل مكث فى القاهرة أربعة شهور ونصف الشهر فقط تحفظ القضية. اما سبب حفظ القضية فيفسره اسم الرجل «يعقوب أرناؤوط» أى أن الرجل ألبانى مثل الباشا، ولذا استحق الاستثناء. وفى حالة أخرى أجرى الأميرالاى عمر بك تفتيشاً على آلاى تحت قيادته، فوجد أن آلاى سليم بك المعسكر فى رشيد به مخالفات خطيرة تخص أوضاع الجنود وأحوالهم الصحية، وحين حوكم سليم بك وجد أنه المذنب، وحكم عليه بالسجن 15 يوماً، ثم خفف الحكم الى 5 أيام فقط، وقد كتب محمد على خطاباً الى سليم بك يدعوه الى فرض الانضباط ويحذره من أنه فى المرة التالية لن يتدخل. ويشير خالد فهمى أيضاً الى اختيارات محمد على العائلية لترتيبات الجيش العليا، حيث تشكلت المراتب العليا من ضباط ينحدرون من صلب الباشا وأصهاره وعبيده الذين اعتقهم، فكان قائد الأسطول فى حرب المورة هو محرم بك زوج ابنة الباشا، كما عين فى هذا المنصب محمد سعيد باشا رابع أبنائه، وكان ابراهيم باشا هو قائد الجيش الذى غزا سورية، وابراهيم باشا يكن ابن اخته هو قائد قوات المشاة، وعباس باشا حفيده هو قائد قوات الفرسان، وبعد الاستيلاء على سورية عين محمود باشا شريف أحد أبناء اخواته والياً عليها، وكان ناظر الجهادية الجديد عقب اندلاع الحرب فى سورية بأربعة عشر شهراً هو أحمد باشا يكن، الذى كان قائدًا عسكرياً على الحجاز وكان هو أيضاً ابن أخت الباشا. الأمر ذاته أكدته عفاف لطفى السيد فى «مصر فى عهد محمد على» إذ تؤكد أنه بعيداً عن اسرته المباشرة، فقد كان شركاء الوالى الرئيسيون ألبانيين من «قولة» مسقط رأسه أو عثمانيين من انحاء الامبراطورية: شركس ولاظ ويونانيون. ومن أقربائه كان ابنا أخيه- الأخوين يكن- يحملان رتباً عسكرية ومدنية عالية، وكان ابن أخيه محمد الشريف مديراً للمالية ثم محافظاً لدمشق، وزوج ابنته محمد الدفتردار محافظاً للاسكندرية، ومحرم بك زوج ابنته توحيدة قائدا للبحرية، ويوسف كامل زوج ابنته زينب باشا معاونًا، ومحمد لاظ أوغلى نائباً للوالى، ومحمد الخازندار رئيساً للخزانة. لكن عفاف السيد تؤكد من ناحية ثانية، أن محمد على لم يكن يتصرف وفق هواه، وكان دائما يستشير المحيطين به، وكان قليلون منهم موضع احترامه، كما انه يؤمن تماما بقيمة التخصص والمتخصصين، وكان يبحث عنهم ويتعلم منهم، وسعى دائما لأن يتولى تعليم أبنائه أفضل الخبراء فى مجالاتهم، وفى كل مهمة عسكرية يكلف بها أحد أبنائه يرسل معه خبيرين، ويأمره بألا يتخذ قراراً أو يقطع أمراً الا بعد الرجوع لهما. وفى رسالة لابنه اسماعيل الذى كان معروفاً عنه التهور والاندفاع كتب يقول: إن منصب قائد الجيش «سر عسكر» لا يتحقق الا من خلال البطولة التى نطلق عليها البسالة، ومن خلال حسن التدبير ومن خلال السؤال المستمر والتشاور مع ضباطك حول كل الأمور، فعليك أن تسأل وتستفهم حتى تستطيع أن تتعلم ما يقودك إلى النصر».