لا أحد يعرف... فيما كان يفكر عندما أبحرت السفينة، وبدأت تشق عباب البحر، ترفعها أمواج وتخفضها أمواج هذه هى مصر المحروسة القريبة أصبحت بعيدة، ولا شىء سوى زرقة ورائحة البحر، وسماء مفتوحة تخفف من حال خوفه. دعونى أقل لكم، اننى لا أستطيع صراحة أن أصف مشاعره، فكل إنسان فى هذه الدنيا يخفق قلبه إذا ما غادر أرضه، فما بالكم به وهو الشيخ المعمم رفاعة رافع الطهطاوى الذى يسافر إلى باريس للمرة الأولى فى حياته فى تجربة لم يعرفها قبله كثير من أهل مصر. لا بأس فهناك ما يطمئنه، فنحن الآن فى شهر أبريل عام 1826، الموافق شهر رمضان المبارك، وهو شهر فضل وإحسان وقد استخار الله تعالى فى رحلة السفر التى ستمتد إلى شهر كامل فى أبسط تقدير. كما أنه مازال فى عز الشباب، فى الخامسة والعشرين، وقد سبقه أستاذه الشيخ حسن العطار بالسفر برا وبحرا إلى بلاد الشام والحجاز والأستانة إيمانا بقول الامام الشافعى «وقيل على بن ابى طالب كرم الله وجهه» .. فى الأسفار خمس فوائد. والشيخ العطار نفسه صاحب تجربة خاصة عند وصول حملة الفرنسيين بر مصر بقيادة بونابرت ، صحيح أنه كان ممن قاوموهم، ولكن على طريقته الخاصة حين اطلع على علومهم، فعرف أن مصر قد فاتها الشىء الكثير، وأنها لابد تاركة ميراث الحكام المماليك و العثمانلية، لتقرأ هذه العلوم الحديثة وتبحث عن مكانتها من جديد. إذن هى فرنسا يا شيخ طهطاوى، ولكن ألم يكن مناسبا لك أن تكتفى بترشيح أستاذك العطار لتكون إماما ل «آلاى» حسن بك المانسترلى و«آلاى» أحمد بك المنكلى أهم فرق جيش محمد على والى مصر الكبير. لكن الوالى نفسه يطلب إماما لبعثة فرنسا، وقد وجدها العطار فرصة لا تعوض وبابا يفتح أمام تلميذه الأثير رفاعة الطهطاوى الذى طلب منه تدوين كل ما يتيسر له من معرفة ومشاهدات قد تنفع العباد من أهل البلاد. تصل السفينة إلى مرسيليا، ليبدأ أعضاء البعثة فى تعلم تهجى اللغة الفرنسية قبل إدراك باريس التى أقام فيها تلاميذ البعثة سنة كاملة فى بيت واحد، يقرأون معا- كما يقول رفاعة- اللغة الفرنسية، وهذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل عظيم مزية إلا مجرد تعلم النحو الفرنساوى. عزلة غير محمودة، والحل أن يتفرق كل اثنين أو ثلاثة من أعضاء البعثة فى بيت فرنسى على أن يخصص مبلغا للأكل والشرب والسكنى والتعليم. فهذا الحل سيمنحهم فرصة أفضل للاختلاط و التعلم. أما رفاعة فلم ينتظر لكى يبدأ وخصص صباحه ومساءه للقراءة والتعلم حتى أصيبت عينه اليسرى من فرط ما شاقها. رغم هذا، لم يهتم رفاعة الذى نذر عقله لتحصيل كل ما تصل إليه يده، لينقضى عامه الأول فى باريس وقد تأهل مثل بقية الزملاء لامتحان آخر العام الذى اجتازه بتفوق، دفع مسيو جومار مدير البعثة لمكافأته بسبع مجلدات مذهبة من «رحلة انخرسيس فى بلاد اليونان». يستمر رفاعة حتى يتقدم للامتحان النهائى بعد خمس سنوات– كما يحكى جمال الدين الشيال فى مؤلفه «رفاعة الطهطاوى زعيم النهضة الفكرية فى عصر محمد على» - بخلاصة مجهوداته فى الترجمة، وهى اثنتا عشرة عملا منها نبذة عن تاريخ الاسكندر الأكبر، دائرة العلوم، مقدمة جغرافية، نبذة فى علم سياسات الصحة، والدستور الفرنسى بالإضافة لمخطوط لكتاب يوشك أن يصدره وهو «تخليص الابريز فى تلخيص باريز». كان الامتحان تحريريا وشفهيا، لينجح رفاعة رغم الاعتراض على مدى مطابقة الترجمة للأصل، فمن أراد أن يترجم كتبا عليه أن يخترع تغييرا مناسبا للمقصود. عودة للمحروسة ينتهىالمشهد سريعا، فلا يصدق أحد كيف تمر الأيام كلمح البصر.كانت الاسكندرية هى أول الأبواب المصرية ليلتقى القائد الفذ إبراهيم باشا إبن محمد على الذى يكافأه بستة وثلاثين فدانا فى منطقة الخانكة، وليرحل إلى القاهرة حيث يصدر الوالى محمد على أمره العالى بتعيينه مترجما بمدرسة الطب. لا غرابة فى هذا الاهتمام، فقد انضم رفاعة إلى طبقة التنوريين. صحيح أن آخرين سبقوه منذ أوفدت أول البعثات إلى إيطاليا عام 1809، ولكن بعثة عام 1826 كانت كما أشار المؤرخ سعيد الدمرداش هى الأهم، وقد ضمت محمد مظهر مهندس القناطر الخيرية، وحسن الاسكندرانى أسد البحار، ومصطفى مختار بك أول «ناظر» وزير مصرى للمعارف. أما رفاعة فقد كان أكبر انجازه هو المشروع الحضارى المصرى. فالرجل الذى ولد فى نفس عام رحيل الحملة الفرنسية إلى مصر يذهب إلى بلادهم ليشرح لأهل مصر المعنى الحقيقى للقانون . فكل دولة لابد وأن تملك ملامحها الخاصة، وكل شعب لابد له من حقوق وواجبات. أحد البيوت المصرية القديمة
الفكرة ليست جديدة وجودها أصيل فى منهج الاسلام، فلم تؤثر اقامته بباريس أدنى تأثير على أخلاقه وعوائده كما وصفه على باشا مبارك. ولكنها هذه الخلطة بين ما هو أصيل فى الجذر المصرى وما هو جديد فى فكر الغرب هو ما عرفه رفاعة. وتبدأ رحلة جديدة فى مصر من خلال عمله كمترجم فى مدرسة الطب، ثم الطوبجية، ومنها إلى مدرسة التاريخ والجغرافيا التى كانت اقتراحه الخاص لتلحق بمدرسة المدفعية. جدير بنا أن نتعرف على موقعنا، وعلى حقيقة وادينا ونهرنا العظيم، وكيف حبا الله تعالى مصر بهذه النعم وفضلها تفضيلا على بلاد أخرى على خارطة العالم ، وأما التاريخ فهو علم معرفة بالإنجاز والفن والحضارة الذى لا وجود له دون ذكر لعبقرية واسهامات أهل مصر المحروسة . يمكن لهذه المدرسة أن تستمر، فتثقيف الجيش مهمة وطنية، ووجود مدرسة للإدارة الملكية تقوم بمهمة مشابهة فى الدواوين الحكومية اختير لها ثلاثون تلميذا يمكن أن يحسن من اداء الدولة المصرية الحديثة. ولكن رفاعة لا يكتفى بعلم ويفضله عن غيره، فيتقدم لوالى مصر الكبير بفكرة مدرسة الترجمة او مدرسة الألسن التى جعل مقرها -كما جاء فى الخطط التوفيقية- ببيت الدفتردار بحى الأزبكية. ويذهب رفاعة إلى ربوع مصر والأقاليم ليختار 80 تلميذا، يزداد عددهم بعد إلغاء مدرسة الإدارة الملكية ليصبح 150 تلميذا، وتتحدد مدة الدراسة بخمس سنوات وقد تزاد إلى ست، فلشورى المدرسة الداخلى الحق فى تعديل مناهج الدراسة كما جاء فى «تاريخ الترجمة والحركة الثقافية فى عصر محمد على» لتدرس اللغات العربية والتركية والفرنسية والفارسية ثم الانجليزية، وتتضح مدرسة الألسن التى اعتبرها الطهطاوى مشروع عمره التى يسهر بها حتى الساعات الأولى من الصباح. مثل هذا الكيان الضخم مثال مبسط لاحتياجات الدولة المصرية الفتية بعد ما ألحقت بها المدرسة التجهيزية، وأنشئت أقسام لدراسة الإدارة والزراعة المتخصصة والعلوم الفقهية. ويجلس عباس الأول على عرش مصر، وهو كما وصفه ساماركو المؤرخ الأيطالى- شديد العداء لحضارة الأوربيين وكارها لجميع الأعمال التى كونت مجد جده محمد على باشا، فبدأ بالغاء قسم الفقة من المدرسة، قبل أغلاقها، ويبعد الطهطاوى إلى السودان، ويغفل حتى مرسوم إنشاء مصلحة للآثار المصرية الذى كان الطهطاوى سببا فى صدوره. نهاية محزنة لطموح يقتل فى نفس اللحظة التى يشهد فيها على نجاحه، ولكنها الحياة فى مصر المحروسة التى علمت الفلاح الصبر فى انتظار مجىء الفيضان وانحساره حتى يزرع أرضه. ولكن لماذا تعمد عباس إهانة رفاعة الذى قام بواجبه لثلاث سنوات كاملة فى السودان ويتسلى بترجمة «مواقع الأفلاك فى وقائع تلمياك». كثرت التفسيرات وسواء كانت كما يقول مؤرخ تاريخ التعليم فى مصر د. عزت عبد الكريم فى صف رغبة على مبارك الانفراد بعطف عباس الأول، أو معارضة المشايخ المتعصبين لرفاعة فإن مقتل الوالى عباس على يد خدمه ليلا واختفاؤه المفاجئ من الحياة أعاد رفاعة مرة أخرى. ويأتى الوالى سعيد باشا الذى لم يكن يملك تلك العصا السحرية التى تزيل الغبن عن كاهل رفاعة الذى شعر باليأس من عودة يرضى عنها حتى عينه ناظرا للمدرسة الحربية الجديدة. مفاجأة غير متوقعة وحل قد يبدو مقبولا لرفاعة الذى يحاول استعادة مجد الترجمة فى هذه المدرسة، ليضيف إليه الوالى إدارة مدرستى الهندسة الملكية والعمارة، وتفتيش مصلحة الأبنية. ولكن حتى هذا الحل، رغم اجتهاد رفاعة فى الترجمة وتقديم الكتب التراثية، كان يشبه المسكنات التى لا تعالج الداء، ليترك رفاعة نظارة المدرسة حتى زمن الخديوى إسماعيل. يبدو أن الخديوى الشاب إسماعيل ابن بعثة الأنجال عارفا بقدر رفاعة فينشئ قلم الترجمة الجديد الذى يواجه النجاح والعثرات، ولكنه من أولى العزم الذى لا يذهب عزمهم فقدان منصب أوتقرب من حاكم. ويتابع رفاعة مشروعه الحضارى المصرى وضمنه دعوته إلى تعليم الفتاة فى كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين» ويصدر مجلة روضة المدارس، وقد أثبت وجوده كصحفى قدير حين كان ممن تولوا المسئولية فى أول جريدة «الوقائع المصرية». أما ما كتبه عن الحرية والديمقراطية فى كتابه «مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية» فهو توصيف متميز ...إن الحرية هى الوسيلة العظمى فى إسعاد أهالى الممالك. فإذا كانت الحرية مبنية على قوانين حسنة عدلية كانت واسطة عظمى فى راحة الأهالى وإسعادهم فى بلادهم وكانت سببا فى حبهم لأوطانهم. يرحل الطهطاوى فى عام 1873 كواحد من أولى العزم أصحاب الحياة الممتدة. وقد جعله الله تعالى سببا فى كل كلمة يكتبها مثقف أو يختارها ثائر، فهو الأب الروحى لمصر المتحضرة.. ولهذا لا نعتبره مجرد قصة عابرة فى بر المحروسة، فمثله ألف شاب ينظر إلى البحر ويطمح إلى العلم ولعل له عودة أخرى إلى بر مصر .