لا يمكن أن تتم عملية إصلاح التليفزيون المصرى المملوك للدولة بصفة خاصة والإعلام المصرى بصفة عامة دون القيام أولا بعملية فض إشتباك بين جهازى الأمن والإعلام،.. لا بد من إنهاء سيطرة وهيمنة جهاز أمن الدولة أو الأمن الوطنى على هذا الجهاز الحساس الذى ينبغى أن يكون معبرا عن كل قطاعات الشعب المصرى – المالك الحقيقى - بدلا من أن يكون بوقا للحاكم وللسلطة الحاكمة وليس الشعب الذى هو مصدر السلطات، .. ما هى مؤهلات ضابط فى أمن الدولة مهما علت رتبته كى يقرر من الذى يظهر أو لا يظهر على شاشة التليفزيون سواء من الضيوف أو من المذيعين والمذيعات،.. بأى حق تفرض أجهزة الأمن وجوها بعينها على الشاشة الصغيرة، وتحجب وجوها أخرى شريفة ووطنية لكن تختلف مع الحكومة وتنتقد النظام؟! إن التدخل الصارخ المشين لأجهزة الأمن منذ سنوات وعقود فى كل كبيرة وصغيرة فى عمل الإعلام المصرى هو إعتراف عملى من النظام الحاكم بأنه لا توجد فى مصر حرية صحافة وإعلام حقيقى أو ديمقراطية حقيقية وإنما مجرد ديكور ديمقراطى لإقناع دول الغرب التى نحصل منها على معونات سنوية كبيرة بأن فى مصر حرية وديمقراطية،.. هل نحن نضحك على هذه الدول أم على الشعب أم على أنفسنا؟! إن الصحف وأجهزة الإعلام هى مدارس وأدوات تعليمية وتنويرية للشعب، أو هذا هو ما ينبغى أن يكون، .. إنها أجهزة لكشف الفساد وتسليط الضوء على المشكلات التى تواجه الناس للعمل على حلها ، وللبحث عن الحقيقة، وإذا إستمرت أجهزة الأمن تسيطر على الإعلام والصحافة، فماذا لو أن ثمة فساد أو سوء إستخدام للنفوذ والسلطة من جانب أحد الأجهزة الأمنية،.. كيف سنعرف به إذا لم يكن لدينا إعلاما حرا ونزيها ومستقلا ويتمتع بالمصداقية عند الناس؟، .. طبعا المشكلة الآن أصبحت أكثر تعقيدا وتحولت إلى أزمة بعد أن تسلل الفساد منذ سنوات إلى داخل أجهزة الإعلام والصحافة ذاتها وهى المنوطة بكشف الفساد كنوع من الرقاية الشعبية كما ذكرنا آنفا. إن الصحف وأجهزة الإعلام الرئيسية فى مصر مملوكة للدولة أو بمعنى أدق للشعب لأنها تدار بأموال دافعى الضرائب، وأموال دافعى الضرائب مال عام، والمال العام فى مصر مال سائب لا حرمة له للأسف، وإذا أردنا حقا وبجدية وإخلاص أن نصلح جهاز الإذاعة والتليفزيون الرسمى فيجب إدارة هذا الجهاز كما لو كان مؤسسة قطاع خاص بعقلية إقتصادية رأسمالية متفتحة تحقق التنوير والربح فى آن واحد، وليس بعقلية جمال مبارك وأفراد عصابة النظام البائد الذين لم يفهموا أصلا كيف يعمل نظام الإقتصاد الرأسمالى الحر فى الدول الغربية، وكيف تطور هذا النظام خلال القرنين الماضيين حتى أصبح يتضمن العديد من المزايا الإجتماعية للمواطنين من تعليم مجانى حتى المرحلة الثانوية ورعاية صحية جيدة ومجانية لكل أو معظم أفراد الشعب،.. مزايا لا توجد حتى فى كثير من الدول التى تعتبر نفسها إشتراكية وتصدع أدمغتنا ليلا ونهارا بالحديث عن الإهتمام بمحدودى الدخل وبالبعد الإجتماعى والبعد البؤرى والبعد القطرانى الزفتاوى. من حق الدولة أن يكون لها جهاز إعلامى يعبر عنها، وكل الدول فى العالم لها أجهزة إعلام تعبر عنها بما فيها الويات المتحدةالأمريكية ( إذاعة صوت أمريكا) وكندا (هيئة الإذاعة والتليفزيون الكندية- السى . بى. سى) والمملكة المتحدة ( هيئة الإذاعة البريطانية – البى . بى . سى)، لكن هذه الهيئات والمؤسسات المملوكة للدولة لا يسمح القانون للدولة ذاتها أن تتدخل فى طريقة عملها أو فى سياساتها التحريرية، فهذا وقف خاص وخالص للإدارة والجمعيات العمومية لهذه المؤسسات والتى تعمل جميعها وفقا لميثاق شرف ومعايير مهنية ولوائح وتنظيمات تضعها مؤسسات قومية أخرى مستقلة تماما عن سيطرة الدولة وإن كانت مملوكة للدولة، تملك سلطة منح الرخص وسحبها، وتراقب الأداء وفقا للمعايير الدقيقة المتفق عليها مسبقا، وتفصل فى النزاعات بين أجهزة الإعلام المختلفة، وفى نقل ملكيات الصحف ومحطات الإذاعة والتليفزيون والإشراف على الإنترنت وقطاع التليفونات ومنح رخص شركات التليفون المحمول، وكل ما يتعلق بوسائل الإتصال والإعلام. إن حق الدولة فى أن يكون لها جهاز إعلامى مستقل يتبنى ويدافع عن وجهة نظرها لا يعنى أن يمتد هذا الحق لكى تسيطر الدولة على كل أجهزة الإعلام والصحف فى مصر وتتدخل فى كل صغيرة وكبيرة. إن أى عملية إصلاح جادة لجهازى الإذاعة والتليفزيون الرسميين واللذان يعمل بهما نحو 43 ألف أو يزيد لابد وأن تمر بخمس مراحل ضرورية هى : إنهاء السيطرة والتسلط الأمنى على أجهزة الإعلام، ثم التفكيك، ثم إعادة الهيكلة ثم التطهير من خلال التخلص من كل الفاشلين الغير مؤهلين للعمل الإعلامى الذين تم تعيينهم عن طريق الواسطة والمحسوبية ، ثم إعادة البناء على أسس علمية حديثة للجانبين الوظيفى والإعلامى. إن عملية تفكيك ثم إعادة هيكلة جهاز الإذاعة والتليفزيون لا يجب أن تتم كلها من داخل الجهاز ذلك لأن كثير من القيادات التنفيذية على مدى سنوات طويلة كانوا جزءا من المشكلة فكيف يكونوا جزءا من الحل؟!، وإنما توجد شركات عالمية معروفة بتخصصها فى تفكيك وإعادة هيكلة الشركات العملاقة والمؤسسات الكبرى على أسس إقتصادية وعلمية يمكن الإستعانة بأحدها،مع إستخدام بعض كبار الإعلاميين القدامى من جيل الرواد الذين أثبتوا خلال سنوات عملهم كفاءة ومهنية وحرفية لا يختلف عليها أحد للإستفادة بآرائهم ومقترحاتهم وخبراتهم التراكمية ،.. وعملية التفكيك هذه لا تعنى بالضرورة أن نلقى بعدد كبير من ال 43 ألف من العاملين فى مبنى الإذاعة والتليفزيون فى الشارع بتسريحهم من العمل، وإنما يتم إستيعابهم وإعادة توظيفهم من خلال عملية إعادة الهيكلة التى يمكن مثلا أن تتضمن إنشاء من 20 إلى 25 إذاعة وقنوات تليفزيونية صغيرة فى معظم محافظات الجمهورية تعمل بطريقة تنافسية إلى جانب المحطات والقنوات التليفزيونية بالفعل، وتقوم بتغطية أخبار المحليات فى كل محافظة، مع ربط هذه المحطات والقنوات المحلية الجديدة بالشبكة الرئيسية الأم من خلال شبكات الميكروويف والقمر الصناعى المصرى، وعند وقوع أى أحداث هامة أو طارئة فى أى محافظة من محافظات الجمهورية، يمكن أن تقوم المحطة المحلية بالتغطية للحدث فى الحال بالصوت والصورة ، ونقل هذه التغطية خلال دقائق إلى الشبكة الرئيسية فى القاهرة التى تبث إرسالها فى أنحاء الجمهورية، وهذه هى الطريقة التى تعمل بها كل شبكات الإذاعة والتليفزيون فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا ومعظم دول أوروبا الغربية. إن مشروع إنشاء هذه القنوات التليفزيونية الجديدة فى كل المحافظات من شأنه أن يساهم مساهمة كبيرة وفعالة فى إصلاح أجهزة المحليات فى مصر، أس ومنبع الفساد الحقيقى فى البلاد، وليس هناك ما يمنع من أن تكون بكل محافظة أكثر من محطة تليفزيونية محلية تتنافس فيما بينها لخدمة المواطنين فيها وتفعيل الديمقراطية الحقيقية. بالطبع إن تنفيذ هذا المشروع الكبير (إعادة هيكلة وبناء جهاز الإذاعة والتليفزيون المصرى الرسمى) يفوق إمكانيات وزارة الإعلام التى ستلغى يوما ما، والجهة الوحيدة الآن فى مصر التى تملك القدرة على تنفيذه هى المشير حسين طنطاوى والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم، ذلك لأن المشير طنطاوى بالإضافة لكونه وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة يقوم مقام رئيس الجمهورية، والمجلس العسكرى فى هذه الفترة الإنتقالية وطبقا للإعلان الدستورى المؤقت يجمع فى يده السلطتين التشريعية والتنفيذية. إن المرحلة الإنتقالية فى تاريخ أى شعب من الشعوب ليست مرحلة لتسيير الأعمال كما نفعل نحن، بل هى من أخطر المراحل إن لم تكن أخطرها جميعا، لأنها مرحلة التأسيس وإعادة البناء على أسس متينة وراسخة. -------------------------------- كاتب صحفى مصرى-كندى