صوت العرب من القاهرة.. رنة نغم اخترقت مسامعنا أبحرت في زماننا، داعبت حواسنا، كان الصوت الوحيد آنذاك، حمل عبر أثيره طموحات مصر والوطن العربي، طربنا بسماع أم كلثوم، أغمضنا أعيننا علي همس صوت عبدالوهاب وأصوات المقرئين. سبق هذا، المطبوعات والأفلام المصرية. وبظهور التليفزيون بعد ثورة 23 يوليو، تضافر الإعلام عبر قنواته المرئية والمسموعة والمقروءة حينذاك، فكان مرآة لأيدلوجية وفلسفة تلك المرحلة، التي عبر من خلاله عن فكر الثورة ونهجها، حاملاً صوت التحرر والوحدة الوطنية ونبذ الاستعمار، فكان صوت الثورة للشعب المصري والجماهير العربية، المحمل بآمال وأحلام الإنتماء الوطني والوحدة العربية. وبعد حرب أكتوبر، وما آلت إليه من تحولات سياسية، تحول الإعلام من صوت الجماهير إلي إعلام الصوت الواحد، متوجهاً لمتلق أوحد هو النظام، وفي ظل التحول السياسي والهيمنة، عمل الإعلام علي تحقيق أهداف النظام بمبادئه وتوجهاته التي كانت سلبية في معظم الأحيان، مما فرغ الإعلام من مضمونه، وبالتالي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام وأصبح توأمه، ابتعد عن الشعب، لما كان لهذا البعد أثر سلبي علي علاقة الشعب المصري بمحيطه العربي، ومع تولي النظام السابق لمقاليد الحكم، انتشرت المحسوبية في هذا الجهاز وما أشيع حولها من فساد مالي وإداري، معبراً عن نظامه، فكان من الطبيعي أن يظهر الإعلام بهذا الشكل متردياً ضعيفاً في ظل العاملين به والقائمين عليه من غير المؤهلين، وكان هذا التحول بداية الانهيار، فعندما سقط النظام، تهاوت رموز الإعلام وفقدت مصداقيتها. إذن ماذا جري لهذا الجهاز المهم والحساس بعد الثورة؟ هل أفاق الإعلام من غيبوبته من جراء حقنة البنج المسرطنة التي سممت أفكاره من خلال محلول الريادة «الكلمة الزائفة» التي تفشت داخل جسده لسنوات طوال، قضت علي خلايا فكره وآدائه، وما تبقي من خلايا متهالكة، تالفة كانت من نصيب الثورة، ليظهر الإعلام اليوم مترنحاً، لا موقف ولا مبدأ، وإن كان هناك صوت فهو ظاهري، ومازال بوجوده المنافق يتلصص، باحثاً عن القوي المهيمنة والحاكمة، ساعياً وراءها، متلمساً الطريق إليها، علي نهج ثلاثين عاماً مضت، هذا ما تخيله ونسي أن الوقت الآن قد اختلف، نلمس هذا من خلال متابعتنا لكثرة البرامج الحوارية، التي تخلق غصة في قلوبنا كمشاهدين، ومدي شعور مقدميها بالخوف والتردد، فمازالت الكلمة تقف في حلقهم، وحبال حنجرتهم مازالت متجمدة علي الرغم من سخونة الأحداث، بدلاً من أن تتمدد لتقذف بالخبايا والحقائق، تخاطب عقولنا ولا تناورها، فقد استخف بعقولنا بما يكفي، وإذا كان أمن الدولة باعثاً للخوف قبل الثورة في هذا الجهاز، فقد اختفي، ولكن اكتشفنا، أنه مازال داخل كل إعلامي ضابط أمن دولة، ذهب وبقي ظله، ويبدو أن ظله هذا، جعل ارتباط الإعلام مازالت وطيدة الماضي، من خلال ظهوره متخبطاً، دون استراتيجية واضحة تتناسب مع هذه المرحلة الحرجة، تجعله يخلع ثوب الماضي ليلبس روح الثورة الطاهرة أم أن الثورة لم تصله بعد، ولم يحس بها، وبالتالي لم يظهر نوره وإشعاعه المؤثر المستمد من بريقها. هل لم يدرك الإعلام دوره الحقيقي والصحيح في تكوين الرأي العام وتوجيهه من خلال التعبير عن روح الثورة بمبادئها وقيمها المتمثلة بروح الحرية والعدالة والتوجه القومي، وأن يكون منحازاً لها، معبراً عنها وعن آمالها وطموحاتها، ناطقاً باسمها، متقمصاً روحها، يسير أمامها وليس بجانبها أو خلفها. هل لأن الإعلام لم يؤمن بالثورة، بل اقتنع بالثوار، فأجري لقاءات مع شباب الثورة، ظنا انه بهذا فهم الثورة، غير بعض الوجوه من العاملين في جهازه، ولم يعرف ان تغيير الوجوه لا فائدة منه إذا لم يغير أفكاره العقيمة المضطربة، وصدر لنا علي شاشتي نفس الضيوف المقررين والمكررين، مع اختلاف موديل بدلهم ولون رابطة العنق، التي خنقوننا بها، وكرر بعض مقدمي البرامج، أن المعتصمين نظفوا الشوارع بعد فض اعتصامهم، ظناً منهم أنه من ضمن أهم مكتسبات الثورة تنظيف الشوارع، هل أدرك القائمون علي هذا الجهاز الإعلامي الخطير أهميته كمحرك لمجري الأحداث في حياة الشعوب، كونه معقلاً للإشعاع التنويري والفكري والحضاري والتنموي. متي سنتخلص من أكذوبة حيادية الإعلام التي لا نعرفها؟ فحياديته أن يكون له موقف وصوت واضح، يتحري من خلاله صدق الخبر، ينقله بوقائعه، يسلط الضوء علي سلبياته محاولاً علاجها، ويعظم ما هو إيجابي منها لصالح الوطن، حتي في دول