عندما سافر رفاعة الطهطاوي إلي باريس ضمن أفراد البعثة العلمية التي أرسلها محمد علي إلي هناك في عام 1826 لتلقي العلوم الحديثة، لم تكن له صفة المبعوث طالب العلم بل ذهب كمرافق ديني مكلف بوعظ طلاب البعثة وإرشادهم وإمامتهم في الصلاة، ولم يكن يتصور أحد أنه سيكون الشخصية الرئيسية في عصر التنوير الثقافي الذي ستشهده مصر، الذي بدأت إشعاعاته تظهر عقب عودة البعثات من أوروبا إلي مصر، لقد أصيب رفاعة عند وصوله إلي فرنسا بصدمة كبيرة كادت تفقده رشده بعد أن رأي النساء الفرنسيات يسرن في الشوارع بلا حجاب، تكشف ملابسهن عن الأكتاف والرقاب كما أن الأذرع عارية، والوجوه مكشوفة في الطرقات، يراقصن الرجال، ويشربن الخمر، بينما كانت قيود العادات والتقاليد تكبل المرأة المصرية وتجعلها تعيش في عصر الحريم حبيسة الحرملك لا تخرج منه سوي مرتين مرة من منزل والدها إلي بيت زوجها، ومرة أخري إلي قبرها، وعلي الرغم من هذا التناقض العجيب الذي شاهده رفاعة، فإنه لم ير في سفور المرأة الفرنسية ما يجلب الفساد بطبيعته، وإنما رأي أن الصلاح والفساد ينشأ من التربية الصالحة أو الطالحة، كما قارن بين نساء الطبقة الوسطي ونساء الأعيان والطبقات الدنيا، فقال: إن العفة تستولي علي قلوب نساء الطبقة الوسطي، بينما الشبهات تقع كثيراً عند الأخريات ويجمل رأيه في ذلك فيقول: »في فرنسا الفرنساوية ذوات العرض، ومنهن من هي بضد ذلك وهو الأغلب، لاستيلاء فن العشق في فرنسا علي قلوب غالب الناس ذكوراً وإناثاً، وعشقهم معلل لأنهم لا يصدقون بأنه يكون لغير ذلك، إلا أنه قد يقع بين الشاب والشابة فيعقبه الزواج. ويري رفاعة أن مشاركة المرأة الفرنسية في المجتمع تكسبه جمالاً وتملأه أُنساً وبهجة، ومع ذلك فإن إعجاب رفاعة بدور المرأة الفرنسية في المجتمع لم يثنه عن ذكر ما رأه في باريس في الفواحش والبدع والاختلالات الخلقية، لقد ذهب رفاعة إلي باريس حاملاً عقيدته الإسلامية وحدها، وعرف كيف يحافظ عليها في مدينة كهذه، وهذا ليس بالأمر الهين علي شاب في الخامسة والعشرين من العمر عاش في فرنسا نحو خمس سنوات، وربما الذي ساعده علي العيش في نطاق مغلق هو حبه للمعرفة والاطلاع، وطبعه المتشدد، وتمسكه بما تعلمه في الأزهر، لقد أعجب رفاعة بنظافة الفرنسيين وحسن عاداتهم في تناول الطعام علي الموائد والنوم علي الأسرة ورش الطرق والميادين بالماء ونظافتها، ورأي الباريسيين يتصفون بذكاء العقل ودقة الفهم، كما أعجبه في فرنسا نظمها السياسية القائمة علي مبادئ الدستور، وأعجبه توخيهم للعدل في حكومتهم وتمسكهم بالقوانين وكراهيتهم للظلم، وحبهم للعلوم والمعارف، وتندر من أكلهم بالشوكة والسكينة. وبعد عودة رفاعة إلي مصر وقف من قضية المرأة المصرية موقفاً مستنيراً فدعا إلي تعليمها وفتح أبواب العلم أمامها، كما ربط التعليم عند المرأة بالعمل، موضحاً أن البطالة إذا كانت مذمومة في حق الرجال فهي مذمة في حق النساء، وأن قدرات المرأة العقلية وملكاتها الحسية تمكنها من تخطي العديد من مشاكل الحياة. وعلي الرغم من أن الصراع حول قضية عمل المرأة قد استمر لفترة ليست بالقصيرة، فقد انتهي الأمر بنجاح التيار الليبرالي حيث حققت المرأة المصرية النجاح في العديد من المجالات، فاقتحمت ميدان العمل، وزاملت الرجل في كل شيء تقريباً، ووصلت إلي منصب الوزارة، واستطاعت كسر التبعية الاقتصادية للرجل، كما نالت حقوقها السياسية، وأظهرت من التفتح العلمي، ومن الثقة بالنفس، ومن القدرة علي التعبير عن نفسها ما يدعو إلي الإعجاب.