حالة من «الشيزوفرينيا» أصابت بعض كبار مخرجى السينما المصرية فى الفترة الأخيرة وأصبحوا يعيشون حالة انفصام عن الواقع، ولا يرون إلا ما كل هو سلبى أو إباحى تحت شعار حرية الإبداع، لكن فى الحقيقة هو تحيز أعمى لأفكارهم التى نفثوا عنها من خلال خيط رفيع بين واقعين، هو واقع ما قبل ثورة 25 يناير، وواقع ما بعدها ووجدوا ضالتهم فى هذه الثورة التى ما زالت وستظل محل خلاف إلى أن يقول التاريخ كلمته. ومنذ أيام عُرِض فى السينما ثلاثة أفلام أثارت الجدل فى الوسط السينمائى، واختلف الجمهور على اثنين منها، وهما فيلم «نوارة، وحرام الجسد» وأخيراً فيلم «قبل زحمة صيف» وبالأخص فيلمى «نوارة» و«حرام الجسد» استلهما الحدوتة من ثورة 25 يناير وكأن العملين يقدمان طرحاً جماهيرياً هل ثورة 25 يناير ثورة أم مؤامرة خارجية، وهو طرح يحمل فى طياته نوعاً من «الخباثة» صعب أن تمسك له طرف أو رأى «مع أم ضد». فى فيلم «نوارة» للممثلة منة شلبى ومحمود حميدة والممثل أمير صلاح الدين وشيرين رضا ورجاء حسين، وتأليف وإخراج هالة خليل مؤلفة ومخرجة موهوبة وتقترب من المدرسة الواقعية وتعتمد على بساطة الحدوتة دون فلسفة أو تنظير، لكن فى فيلم «نوارة» وضعت السم فى العسل وسربت «الشك واليقين» في آن واحد حول شرعية ثورة 25 يناير من خلال تأثير هذه الثورة على عالمين فى منتهى التباعد والتناقض، عالم «نوارة» المتشبع فى الفقر حتى النخاع فهى فتاة بسيطة ومثالية بشكل كبير وكأنها ليست فى هذا البلد كما يقدمها الفيلم، وتعيش مع جدتها «رجاء حسين»، وهى قدمت دوراً بسيطاً لكنه مقنع ويشع إبداعاً، وتعيش نوارة قصة حب مع جارها «حسين» «أمير صلاح الدين» الذى يجد نفسه يعيش على الهامش مثل الملايين من الشباب العاطل فى طابور البطالة، وزيادة فى تأكيد هذه الحالة المزرية للفقر نقلت كاميرا «هالة خليل» بعضاً من معاناة المهمشين فى رحلة العلاج بالمستشفيات الحكومية، ورغم كل ما تعانيه «نوارة» فى حياتها من بؤس وشقاء وحب على حافة الهاوية مع الشاب «النوبى» الذى رصدت خليل قضيته فى خيط درامى قصير للعلم فقط، لكنها تخدم فى قصر وزير سابق «محمود حميدة وزوجته شيرين رضا» وابنته وابنه الذى يعيش فى الخارج، وهنا يظهر حالة الفقر واللاحياة فى الحى الذى تسكنه نوارة وحالة الثراء بلا حدود داخل القصر حتى يهرب الوزير السابق وأسرته بعد القبض على «مبارك» ويترك القصر أمانة فى يد «نوارة» والحارس أحمد راتب وتعيش نوارة حالة من الصراع النفسى بسبب تخبط خطيبها الذى عقد قرانه عليها منذ سنوات ولا يجد مكاناً يجمعه بزوجته وبين الأزمات التى تحملتها نوارة بعدم دخول أحد القصر حتى تسمح له بالحياة معها وخطف ساعات المتعة الشرعية، كما يصورها الفيلم، وللحقيقة أجادت المخرجة بنقلات الحوار والصورة من حياة البؤس والشقاء لحياة الثراء وتأثير ثورة 25 يناير على كلتا الطبقتين، لكن فى النهاية تظهر وجهة نظرها بأن الثورة قضت على أحلام البسطاء، وأنهم دائماً ما يدفعون ثمن جرائم الأثرياء. عندما تجد فجأة لجنة من النيابة تتحفظ على قصر الوزير الهارب ويتم اتهامها بالسرقة والقبض عليها وتبدد حلمها بالزواج والحياة وتدفع ثمن وفائها الذى أسقطته هالة خليل من عالمنا عندما تم قتل كلب ابنة الوزير «بوتش» على يد شقيقه الوزير الهارب وهو يردد «إحنا هنفضل أسياد البلد» فى مشهد يؤكد أن عالم الأثرياء سيستمر، وأن الفقراء ما هم إلا خدم. الواضح من سياق الفيلم أن «نوارة» هى رمز لمصر التى تضحى وتناضل وتتحمل ودائماً تدفع ثمن تهور أبنائها وقدمتها فى مثالية شديدة استفزت الجمهور رغم الأداء الراقى والمتميز لمنة شلبى التى استغربت الدور وشربته حتى النخاع لدرجة الإبداع وتفوقت على نفسها، وإن كان يحتاج شيئاً من «التمرد» الذى عاشه معظم المصريين بعد ثورة يناير مثلما حدث مع زوجها حسن وجدتها «رجاء حسين» عندما احتدت على موظفى الحى الذين جاءوا ليوصلوا مواسير المياه الحلوة للحارة لكنهم طلبوا ثمناً مبالغاً فيه، وهو مشهد له مغزى درامى كبير. أمير صلاح الدين قدم دوراً متميزاً يعلن عن مولد بطل سينمائى قادم لكنه يحتاج لحيوية وتحرر أكثر فى الأداء، محمود حميدة مايسترو تمثيل وهو نجم فى الأداء حتى لو فى مشهد واحد. شيرين رضا أكثر أدوارها تمثيلاً رغم أنه قصير، رجاء حسين ممثلة كبيرة، أحمد راتب ممثل كبير فى دور عادى. هناك تميز فى الصورة والإضاءة والديكور، رغم النجاح الفنى للفيلم والأداء وحصول بطلته «منة شلبى» على جائزة أحسن ممثلة من مهرجان دبى وتطوان بالمغرب، إلا أن الجمهور بينه وبين هذه النوعية من الأفلام فجوة.