لم يكن شابًا عاديًا فقد كان جاذبًا للانتباه كل من يراه ويرى أسرته يحسدهم عليه، فقد كان صاحب أفكار لامعة.. طموحات لا يوقفها أحد.. ممتلئ بالحماسة والنشاط، لكن في النهاية سقط في بئر بعد أن أحب فتاة كانت بداية النهاية لطموحه وتألقه. «عم سعيد» يروي قصة ابنه وهو متكئ على أحد جدران المحكمة بظهره ينظر للسماء ويحرك يديه عاليًا وكأنه يحلم بما كان ينتظر نجله من نجاح وفخر بين أشقائه الذين كانوا يحسدونه على ذكائه وفطنته. منذ نعومة أظافره، وهو طفل هادئ جميل ومميز في كل شيء، حتى التحق بمدرسته الابتدائية في قريتنا بكفر الشيخ ومن أول أيام دراسته علمت وأحسست بتفوقه.. السنوات تمر وابني ينهي كل مرحلة من حياته متفوقاً مميزاً عن الجميع.. الأول في كل شيء لا أحد يلحق به حتى تمكن من الحصول على الشهادة الثانوية بأعلى الدرجات، وكان من الأوائل على قريتنا الصغيرة، وتمكن من الالتحاق بكلية الطب.. كلية الأحلام ليبدأ تنفيذ حلمه.. يبتعد عن القرية التي كانت أحلامه أكبر من حدودها. وفي تلك اللحظة يبكي «عم سعيد»، الرجل السبعيني، ويستند بيده الى ابنه الأصغر ويتمتم بكلمات أشبه بلعن الأيام وتتساقط دموعه التي لا تستطيع يده أن توقفها، كأنها شلال مياه وينظر للأرض في عجز وانكسار، يسرق النظرات خائفًا من أن يكون الحاضرون بقاعة المحكمة ينظرون إليه نظرة العطف ولكنه لا يعلم أن الجميع لديهم مصائبهم وكُرباتهم بحاجة لمن يعطف عليهم. أحضر الابن الأصغر زجاجة مياه لوالده ليشرب منها القليل ويغسل وجهه.. قائلاً: (ابني لمّا كان في الكلية كان كل حياته مذاكرة في مذاكرة.. كل الناس كانت بتحسدني.. أصحابه بينادونه «عبقرينو الدحيح».. مكنش عنده وقت يضيع.. لحد ما ظهرت اللي ما تتسمى في حياته، بدأت بطلب محاضرات، بعد كده، بقى يوماتي بيقعد يشرح لها الدروس، لغاية ما بقي مش قادر مايشفهاش، ولو غابت ما يحضرش محاضراته، ويقعد يكلمها في التليفون، مكنش يعرف أن ست الحسن، ست البنات، حبيبة القلب، بتتعلم سرقة لحم البشر، مش عشان تخدم الناس.. لا عشان تتاجر فيه، وتبيع الناس للناس اللي يدفعوا أكثر.. وفي يوم جالي وقال لي: إنه حب بنت زميلته في الكلية وأنه مش قادر يعيش من غيرها وأنها بنت مؤدبة ومحترمة وبتشجعه على الدراسة، ففرحت أنا وأمه وملأت الزغاريد البيت وقلنا له حدد ميعادًا مع أهلها). في تلك اللحظة يقرر الأمن إخلاء قاعة المحكمة من الحضور بناء على تعليمات القاضي لتتوقف دقات قلب «الأب والابن الصغير» وكأنهما أحسا بأن النهاية أوشكت، ...الأب يدعو الله بأن يرحم ضعفه، وقلة حيلته، وأن يخرج ابنه من الكرب الذي يمر به مرددًا: «يارب.. يارب.. لله الأمر من قبل ومن بعد». وأكمل العجوز فضفضته عن ابنه السجين، المحكوم عليه بالمؤبد داخل قضبان السجون قائلاً: (حبيبي.. ضحكت عليه الشيطانة.. بضحكتها الخبيثة، وبلسانها المعسول بالسم، وبدأت تماطله، وتقول له أهلي مش هيقبلوا إننا نتجوز غير لما تبقى شغال، ومعاك فلوس، هيطلبوا شبكة وشقة، وانت لا تملك، وأخذ هو يقنعها بأنه على الطريق اللي هيحقق به أحلامهم، له أن يعمل يشتغل في مستشفى عمها «تحت التدريب» وهياخد مرتب خيالي وطبعا ابني بسذاجة وافق.. دي فرصة هايلة وأنا وأمه طرنا من الفرح). استكمل الأب حكايته: ابني الفالح راح المستشفى، اشتغل شهرين شاف حاجات غريبة، ومش تمام، بتحصل، ولما اعترض هددته «حبيبة القلب» بأن تتركه.. وكمان طالبته بأن يشترك معها في سرقة أعضاء المرضى! ابني رفض في الأول وثار ولكن وافق في النهاية واشتغل وبدل الجنيه بقوا ميت ألف جنيه ووصل للمليون جنيه وأكتر كمان..كلوا من الحرام)!! ليقاطع الابن الصغير والده قائلا: (أخويا كانت إيده تتلف في حرير بشهادة كل زمايله.. وكل أساتذته كانوا بيقولوا عليه إنه «جراح ماهر» كان بينقل العضو اللي محتاج له من أي مريض.. والنكسة الأكبر إن العملية كان بيبقى تمنها غالي.. وكمان بيسرقوا المريض.. والتحقيقات أكدت إنهم كانوا بيسرقوا كمان من جثث الناس اللي بتموت في المستشفى.. بس أخويا مكانش ليه علاقة بمافيا تجارة الأعضاء.. لأن اللي كان بيتعامل هو «عم البنت» صاحب المستشفى.. واتهموا شقيقي وأحضروا شهودًا يأكدون كلامهم.. بعد إنكار شقيقي. وهنا غضب العجوز وارتفع صوته قائلاً: (لأن الحرام آخرته سودا.. واحد من المرضى اللى سرقوا أعضاءه قدم بلاغا في المستشفى في ابني.. وحصل تفتيش مُفاجئ على المستشفى.. وظبطوا ابني وهو بيسرق مريض في غرفة العمليات، واتعملت قضية كبيرة له.. وشالها لوحده.. والمستشفى أنكر صفتها واختفت حبيبة القلب عن الأنظار واعترفت في التحقيقات إنها حذرته كتير.. بس هو كان بيحب الفلوس كتير.. وظلت النيابة تحقق في القضية وحبس مرة.. واثنين.. وتلاتة.. واتحال للمحاكمة.. وآدي النهاية اتبهدلنا أنا وأمه وجالها جلطة.. وأخوه مش قادر يروح كليته هربًا من نظرات الناس.. لتنزل الدموع من عيون الأب، مرددًا (الناس بيعايروني.. وبقينا بنستخبى... الكل بينفر منا.. بس في النهاية مش هقول غير حسبي الله ونعم الوكيل. أكد الأب أن النقابة وجهت لابنه تهمه الاتجار في الأعضاء ومُخالفة ضميره المهني، والإتيان بفعل مُشين غير أخلاقي، واستغلال الأبرياء من أجل الوصول للمال، وهو ما يعد مُخالفًا للقانون وتمت إحالته للجنايات وثلاثة من الأطباء المُساعدين، وصدر حكم بسجنه 25 عامًا، إلا أنه قدّم طعنًا على الحكم، ونظرته محكمة النقض، وتم قبوله وأُعيدت لمحكمة الاستئناف لتحديد جلسة أخرى لنظر القضية. ونحن في الانتظار. هنا انتهت كلمات الأب العجوز ربما يأتي ميعاد الجلسة ولكن حينها قد يكون الأب نفسه غير موجود.