السيناريوهات المحتملة تنصب جهود الحملات الاعلانية المتعددة بالتركيز على تردي الاحوال الاقتصادية بالدرجة الاولى، مواكبة بذلك نبض الشارع، بينما يستعرض كلا المرشحين قدراته الخطابية لابراز اهليته في تبؤ المنصب الرئاسي والظهور بمظهر رجل الدولة الرزين في كافة المحطات الانتخابية. في حين يجمع المراقبون للشأن السياسي والانتخابي تحديدا على جهود حشد الوعي العام لصالح الانجازات الاقتصادية، الا ان ما يرقد تحت السطح من جدل وتحالفات واصطفافات وارهاصات تشير بمجملها الى ان حقيقة الصراع تتمحور حول الرؤيا الاستراتيجية لنظام الاقتصاد الرأسمالي التي تعود بنا الى بدايات تشكيل الكيان السياسي الاميركي، والتداعيات الناجمة عن اطول حرب واكثرها دموية في تاريخ الولاياتالمتحدة – اي الحرب الاهلية الاميركية. في هذا السياق، يمكننا القول ان بذور الاحتجاجات والاضطرابات الشعبية التي سادت اجواء اندلاع الحرب الاهلية تجد ارضية خصبة في مناخ ما ستسفر عنه نتائج جولة الانتخابات المقبلة. يصادف عام الانتخابات الحالي الذكرى الخمسون بعد المائة للحرب الاهلية الاميركية، وقد حشدت الماكينة الاعلامية الضخمة والمناهج الدراسية المختلفة الوعي الشعبي بتبرير اهم اسباب اندلاع الحرب كان موضوع مأسسة العبودية، اضافة الى صلاحيات سيادة السلطة المركزية (الفيدرالية) في مواجهة حقوق وصلاحيات الولايات المختلفة في ادارة شؤونها العامة، وتحديد ادق لتلك الصلاحيات التي لا تستطيع السلطة المركزية ابطالها او الغاءها قانونيا. من جانب آخر، تجدر الاشارة الى ان عملية تطور النظام الرأسمالي وحاجته الماسة الى مواد خام رخيصة الثمن، وما اسفر عنه من تمركز الصناعات والمراكز التعليمية للنخب وصناع القرار في الشطر الشمالي من البلاد، وتخلف المناطق الجنوبية عن اللحاق بالتطور الاقتصادي بشكل اكبر؛ بل الاهم برزت مسالة تحديد حصة الاطراف المتعددة (السلطة المركزية والولايات المكونة) من الثروات الطبيعية، لا سيما مع اكتشاف مناجم الذهب في مساحات الشطر الغربي لنهر الميسيسيبي. انتهت الحرب بفوز "الشطر الشمالي الصناعي" للحرب، وبقيت مسألة الصلاحيات المتداخلة بين المركز والاطراف على نار هادئة دون حل. بل، اضحى لفترة ان السلطة المركزية ستستولي على صلاحيات المكونات والتي ستتلاشى اهميتها مع مرور الزمن، خاصة بعد البرامج الاقتصادية التنموية التي شرعت بها السلطات المركزية، فيما عرف لاحقا "الخطة الجديدة" للتنمية في عقد الثلاثينيات من القرن المنصرم للتغلب على تداعيات الكساد الاقتصادي، وبروز حركة المطالبة بتساوي الحقوق المدنية في الخمسينيات من ذات القرن. العلاقة السياسية بين المركز والاطراف شهدت مدا وجزرا بين الطرفين، خفت اوارها ابان النهوض الاقتصادي، لتعود مرة اخرى للصدارة عند تفاقم الازمات. في المرحلة الراهنة، ستفضي نتائجها ربما الى نتائج اقسى مما تعود عليه المجتمع برمته. خرج الصراع للعلن عام 2009 عندما صادقت ولاية اريزونا، المحاذية للحدود مع المكسيك، على قانون خاص بها يتناول مسألة "الهجرة اللاشرعية" لعابري الحدود الاميركية وحق الولاية التعامل معها بما تراه يخدم مصالحها بمعزل واستقلالية عن حق السلطة المركزية الاشراف والتعامل مع تلك الظاهرة. شكل قانون اريزونا منصة انطلاق لبعض الولايات الاخرى في تحدي صلاحيات السلطة المركزية في برنامج الدولة المركزية للرعاية الصحية الشامل، حديث العهد، وتصاعدت الجولة بين الطرفين الى ان وصلت لمستوى المحكمة العليا للبت في الامر. في هذه الاثناء، استغلت بعض الولايات الاخرى مسألة تجديد الصراع مع السلطة المركزية وقامت بسن تشريعات وتعديلات لدساتيرها تحظر تطبيق بعض البنود الخلافية في قانون الرعاية الصحية. المحكمة العليا، بتركيبتها التي توازن بين الفريقين السياسيين لا تبتعد عن الاصطفافات السياسية بخلاف ما يروج له، اصدرت حكمها الفاصل بأن قانون ولاية اريزونا لشؤون "الهجرة اللاشرعية" لا ينتهك اي قوانين اخرى، مشرعة الباب بذلك امام شرعيته في منح الصلاحيات للسلطات المحلية، ومترافقا مع تشديد بعض النصوص وتقييد حركة التطبيق نسبيا لدرء الاتهامات بالتحيز العنصري. اما قانون الرعاية الصحية الشامل (اوباما كير – مجازا) فقد صادقت المحكمة على شرعيته القانونية، مرفقا بقرار عدم السماح للسلطة المركزية اتخاذ اجراءات عقابية بحق الولايات التي ترفض تطبيق مستلزماته وما يترتب عليها. التجاذب المتصاعد بين السلطتين اتخذ منحى آخر مؤخرا جاء لصالح سلطة الاطراف، اذ وبخت محكمة الاستئناف للمنطقة الجنوبية من البلاد هيئة حماية البيئة (الفدرالية) لتجاوزها صلاحياتها القانونية في رفضها بعض القيود التي سنتها ولاية تكساس بدافع عدم امتثالها ومطابقتها لمتطلبات "قانون حماية نقاء الجو" الفدرالي. الانتخابات الرئاسية وصلاحيات الولايات القرارات الفاصلة للمحاكم الفدرالية لم تسهم في اخماد معركة الصلاحيات المتداخلة، بل على العكس ارسلت رسائل ملتبسة لطرفي المعادلة، ساهمت في تعميق الشرخ العمودي في المجتمع: مؤيدوا صلاحية السلطة المركزية في تسيير الامور اضحوا في معسكر الرئيس اوباما، بينما مؤيدوا اعطاء صلاحيات اكبر للولايات لتدبير امورها فهم يدعمون خصمه رومني بتردد. فوز اوباما في الانتخابات الرئاسية المقبلة سيفرض تحديا هائلا، لعله الاكبر، منذ الصراع على برنامج الرعاية الصحية الشاملة – اوباما كير – امام معارضة قوية من زهاء نصف الولايات المكونة والتي مضت قدما في الحد من تطبيق البنود التي تعتبرها مغايرة لقوانينها ورغبات صناع القرار فيها. اصطفاف المحاكم العليا الى جانب الولايات في صراعها مع السلطة المركزية، شجع بعض حكام الولايات الى التصريح علنا بنيتهم اعاقة وعدم تطبيق تلك البنود من برنامج "اوباما كير،" مما سيفرض على الرئيس اوباما اللجوء الى اساليب اكثر تشددا في التعامل مع خصومه. الامر السابق لا يعدو ضربا من الخيال. ففي الماضي القريب، ومع اطلالة العام الدراسي في شهر ايلول / سبتمبر1957، استنجد حاكم ولاية اركنساس، اورفال فوباص المشهور بالتطرف العنصري، بالحرس الوطني التابع لسلطة الولاية للمحافظة عل بقاء نظام الفصل العنصي ومنع 9 طلبة من السود دخول قاعات التدريس في مدرسة ثانوية كافة طلابها من البيض. رد السلطة المركزية كان حادا وفوريا، اذ اتخذ الرئيس الجمهوري آنذاك، دوايت آيزنهاور، قراره باخضاع الحرس الوطني للسلطة الفدرالية المركزية وعززه ايضا بارسال الفرقة 101 المحمولة جوا. وتبعه الرئيس جون كنيدي عام 1963 حين اقدم على "تأميم" قوات الحرس الوطني وتبعيتها لسلطة الدولة المركزية واستخدامها لتطبيق القوانين الفدرالية، لا سيما في توفير الحماية الشخصية للطلبة السود عند دخولهم حرم جامعة ولاية الاباما. في العرف القانوني البحت، استند الرئيسين المذكورين الى قانون مكافحة العصيان المسلح الصادر عام 1807، الذي يخول الرئيس استخدام القوة العسكرية للقضاء على حركات التمرد او في تطبيق الحقوق الدستورية (الفدرالية) عند اخفاق السلطات المحلية في ولاية ما القيام به. كما يخول القانون المذكور الرئيس اعلان حالة عصيان مدني وتدخل القوات المسلحة لاخمادها. في المقابل، سيواجه اوباما صعوبة كبيرة لو قرر اللجوء الى تطبيق برنامج الرعاية الصحية بالقوة المسلحة اشد من ثمة محاولة حماية بضعة طلبة الانضمام الى مدرسة ثانوية. فضلا عن ان القوات العسكرية عينها قد تجد نفسها تتحرك في بيئة معادية، مما سيحفز اندلاع مظاهرات قد تتخذ طابعا عنفيا. في التاريخ القريب، بل القريب جدا، لا يسع المرء الا النظر الى محاولات بعض القوى اليمينية منع المجلس التشريعي لولاية ويسكونسن (الكونغرس المحلي) من الانعقاد جراء نشاط بضعة آلاف من اعضاء النقابات العمالية العام الماضي. فرضية الصدام المشار اليها ليست ضربا من الخيال، اذ تناولت الامر دورية "سجل الحروب الصغيرة،" لشهر تموز الماضي في مقال بعنوان "عمليات (عسكرية) شاملة في الداخل: "رؤيا" للمستقبل." تجدر الاشارة الى ان دليل عمل القوات العسكرية البرية الاميركية، لاعوام 2016 الى 2028، يحاكي مسألة العمليات العسكرية الشاملة في داخل الاراضي الاميركية، بوصفها مسألة لم تحظ بأهمية بحثية كافية، يحدد فيه كيفية شن وادارة عمليات مماثلة ضمن حدود الدولة الاميركية. السيناريو التي اعتمدته الدورية اعلاه، يلخص بالتالي: "الركود الاقتصادي العظيم الذي حل بالتزامن مع بداية القرن الحادي والعشرين استمرت تداعياته لفترة اطول بكثير مما كان متوقعا ... مع قدوم عام 2016، ستظهر علامات الصحوة على الحالة الاقتصادية، لكن الشرائح الوسطى والدنيا من الطبقة الاجتماعية الوسطى لن يطرأ على اوضاعها اي تحسن ملحوظ في مستوى تعدد فرص العمل المتوفرة او ارتفاع في مستويات الدخل. اما معدلات البطالة فستحافظ على تأرجحها في مستويات مرتفعة خطيرة، المؤسسات التجارية الصغرى لا تستطيع التأهل لشروط المصارف المالية للاقتراض والتوسع في اعمالها، فضلا عن ان مستويات الضريبة المرتفعة ستستمر بنهش مداخيل الطبقة الوسطى. وبعد انقضاء عقد من الزمن اسهمت حملات الازدراء العنصرية وتقريع كتل المهاجرين حديثا من قبل قوى اليمين وخطابها الديماغوجي، في اشاعة مشاعر البغضاء بين الاميركيين لحملات الهجرة، سواء الشرعية او اللاقانونية، بلغت نسبة 20%؛ كما ان اجيال المهاجرين من غير الاوروبيين والمولودون في الولاياتالمتحدة تعرضوا للاستهداف المباشر احيانا من قبل غوغاء اليمين من البيض. وأضافت الدورية، انه بحلول شهر ايار / مايو 2016، تستجمع قوى اليمين المتطرف قواها ومجموعاتها المسلحة، بحشد وتحفيز من "حركة حزب الشاي" الموغلة في التطرف والعنصرية، لتنقض باحتلالها مقر السلطة المحلية في مدينة دارلينغتون بولاية كارولينا الجنوبية، وتسيطر على مقر البلدية وتسرح المجلس البلدي واقالة رئيسه ووضعه تحت الاقامة الجبرية. بينما تقوم عناصر اخرى بتسريح قادة جهاز الشرطة المحلي والسعي اما لتجريد عناصر وقوى الشرطة المختلفة من اسلحتها المتوفرة، او اعاقة تدخلهم بمقاومة الوضع الناشيء. تمضي الدورية بالقول، انه في حقيقة الأمر يستبعد ان تنحو الاوضاع باتجاه الصدام الموصوف اعلاه، اذ ان عددا من مسؤولي الاجهزة الامنية يتعاطفون مع توجهات واهداف "حزب الشاي،" ويقيمون علاقات ودية مع الكثير من الاعضاء المعنيين، بل اعربوا بوضوح عن عدم رغبتهم بالتصدي لمحاولات الاستيلاء على مقار الاجهزة الرسمية." السيناريوهات المرئية بداية، السيناريوات التي سنتناولها ادناه هي نتيجة تصورات وتكهنات تستند الى تحديد اهم بؤر التوتر التي سترافق حملة الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل. 1 - نتائج غير حاسمة للانتخابات تنذر باعادة عد الاصوات في محطة او ولاية محورية: تحاكي هذه الفرضية ما جرى من نتائج لانتخابات عام 2000 التي اسفرت عن تفوق جورج بوش الابن بفارق عددي لا يتجاوز 300 صوت في عموم ولاية فلوريدا وحسم الامر لصالحه ضد خصمه آل غور. في مثل هذا الحال، قد يلجأ مؤيدو احد المرشحين الى مداهمة مقار اللجان الانتخابية واماكن اعادة عد الاصوات والتخلص من السجلات الانتخابية واوراق الاقتراع. سيؤدي هذا الوضع الى تداعيات على مستوى المشهد القومي برمته. اذ ستقود الشكوك بامكانية العبث باوراق الاقتراع الى طرح تساؤلات اكبر حول صلاحية ومصداقية العملية الانتخابية برمتها. اما المضي بالنتائج المثيرة للجدل الى خواتيمها بتبوأ احد المرشحين مقر البيت الابيض، خاصة ان جاء عبر الاستفادة من الاجواء المضطربة، فقد تؤدي الى انتشار الاضطرابات في مناطق اخرى. 2 – تهديد وتخويف الناخبين: مساعي تخويف الناخبين لم تنقطع يوما خاصة ضد الشرائح الفقيرة والسود والاقليات الاخرى. عند التثبت من حالات التهديد للناخبين، لا سيما في الدوائر والولايات الحيوية لكلا المرشحين، فقد تتجدد وتنتشر الاضطرابات. 3 – تهديد المراقبين والمشرفين على اصوات الناخبين: سجّل المراقبون على سير الانتخابات التابعين لحملة جورج بوش الابن، عام 2000، تلقيهم التهديدات. بما ان الجولة الانتخابية الراهنة تتميز بحدة الاستقطاب للطرفين، فان امكانية تعرض المراقبين للتهديد تبقى قائمة مما قد يستدعي تدخل اجهزة الشرطة لتقديم الحماية الامنية وقمع اية محاولات لاستهداف اماكن سكناهم او حين قيامهم الادلاء باصواتهم في مقر عاصمة الولاية المعنية، كما ينص عليه الدستور المحلي للولايات. 4 – تقاعس حكام بعض الولايات عن تطبيق برنامج الرعاية الصحية الشاملة، او اجراءات رقابية مركزية: قد تشكل هذه المسالة احدى اكبر التحديات، لا سيما وان عددا منهم قد اعرب بوضوح لا لبس فيه عن عزمهم لعدم تطبيق بعض الاجراءات الصادرة عن ادارة الرئيس اوباما. بالمقابل، فان الخيارات المتاحة للادارة الاميركية للتعامل مع ظاهرة من هذا القبيل تظل محدودة ، لا سيما وان تطبيق الخيار العسكري، على نمط استخدامه من قبل الرئيسين ايزنهاور وكنيدي، بغية التلويح بمزايا وحوافز استثمارية لحمل الولايات المعنية على تغيير سياساتها سيؤدي الى نتائج محدودة . نجاح حسم المسألة مرتبط عضويا بتوفر الارادة السياسية والعزم على التطبيق لكل من الرئيس اوباما وحكام الولايات المعنيين، اضافة الى ارتباطها ايضا بالقضايا ذات الاهتمام العام. في عقد الخمسينيات، واجه مؤيدي استمرار التمييز العنصري، للفصل بين السود والبيض، رأيا عاما وتنامي الحشد الجماهيري ضد الظاهرة. في الوضع الراهن، لو اقدم احدهم على استخدام القوة لمقاومة تطبيق برنامج الرعاية الصحية الشامل فانه يغامر بمستقبله السياسي ويضع حدا سريعا لطوحاته. أما الرئيس اوباما فقد يلجأ لنشر بضعة اعداد من موظفي الدولة المركزية في ولايات بعينها لسعيه الالتفاف على الجدل. اما في حال سعي اوباما استغلال وجود الموظفين لتطبيق الاجراءات الواردة في برنامج الرعاية الصحية، فقد يؤدي الى تحول هؤلاء الى نقطة استقطاب واندلاع الاحتجاجات المدنية. مقابل هذا الوضع المستجد، سيلجأ حاكم ومسؤلو الولاية المعنية الى تصرفات من شانها حماية ارواح الموظفين حتى في ظل بغضهم للدور المنوط بهؤلاء الموظفين. الخلاصة تتميز الجولات الانتخابية الاميركية بسلميتها، لكن قد تسري حالة استثناء العنف في الجولة الحالية. التوترات والاستقاطابات بلغت مستويات مرتفعة هذه السنة، ونال الرئيس اوباما حظا اكبر من خصمه رومني من الاتهامات بوقوفه حجر عثرة امام السعي التاريخي للقوى المعنية بتحديد ادق لصلاحيات الولايات مقابل السلطة المركزية. أما القوى المتضررة من نتائج الانتخابات، كيفما جاءت، فهي "حزب الشاي" في تيار اليمين، وحركة احتلوا وول ستريت، في التيار الليبرالي؛ وستثبت القوى المختلفة لطرفي المعادلة قريبا عن حقيقة مقدار سمك القشرية الحضارية التي تغلف مواقفها. --------------------------------------------------------------------- *د. منذر سليمان مؤسس ورئيس مركز الدراسات الامريكية والعربية