وفي ظل اعتراف متبادل بين الجمهوريين والديمقراطيين بصعوبة الانتخابات، فقد تبادل الجانبان الاتهامات حول المشكلات الأمريكية الراهنة سياسيا واقتصاديا علي الصعيدين الداخلي والخارجي. فالرئيس أوباما الذي يواجه تحديا كبيرا اتهم الإدارة الجمهورية السابقة بالتسبب في الأزمة الاقتصادية التي لا تزال تعصف بالاقتصاد الأمريكي، مع العجز عن تحقيق الدرجة المنشودة من الانتعاش الاقتصادي، هذا، بينما تشعر نسبة كبيرة من الأمريكيين، والجمهوريين، بعدم الرضا عن الأداء الضعيف لإدارة أوباما للاقتصاد الأمريكي في ظل استمرار معدلات البطالة المرتفعة (.96%) بالإضافة إلي احتجاج عدد من الليبراليين من مؤيدي ومناصري أوباما بسبب عدم تحقق وعوده حول إنهاء حربي أفغانستان والعراق، وإغلاق معتقل جوانتانامو، وإصلاح قوانين الهجرة. وجاءت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في ظل تراجع شعبية أوباما إلي حوالي 46 % بعد عامين في منصبه، الأمر الذي مهد الطريق للجمهوريين لتحقيق الفوز في الانتخابات، كما جاءت الانتخابات في ظل تطور " الحركات الجديدة " التي فعّلت الساحة السياسية الأمريكية، وفي مقدمتها " حركة حزب الشاي " التي تنتقد بقوة سياسات أوباما، وحركة " حزب القهوة " التي تدعو إلي ماتسميه "الإصلاح الأمريكي الشامل " . مؤسسة الكونجرس يعد الكونجرس الأمريكي هو المؤسسة الدستورية الأولي في الولاياتالمتحدة، ويمثل الهيئة التشريعية في النظام السياسي الأمريكي، وليس من حق الرئيس الأمريكي حل الكونجرس، وهو يتألف من مجلسين : مجلس النواب، ومجلس الشيوخ . ويقوم الكونجرس بسن القوانين، ويشارك الرئيس في تعيين كبار الموظفين والقضاة، وله الحق في الاعتراض علي التعيينات، كما أن له حق تعديل الدستور . ويضم مجلس النواب 435 عضوا، يمثلون المناطق الانتخابية في جميع الولايات، بواقع ممثل واحد عن كل منطقة، بينما في مجلس الشيوخ، فإن كل ولاية أمريكية من الولايات الخمسين يمثلها عضوان، ليتكون المجلس من 100 عضو فقط، وبدون تمييز بين الولايات، علي عكس مجلس النواب، حيث كلما كبر عدد سكان الولاية، زاد عدد ممثليها في المجلس. ويتقدم نحو ثلث أعضاء الكونجرس للانتخابات العامة كل سنتين، وبذلك يصبح الكونجرس هيئة تتسم بالاستمرارية، لأنه لا يكون جديدا بكامله علي الإطلاق، وعموما ينظر إلي مجلس الشيوخ علي أنه الأعلي، وهو مكان التشاور والتداول، ويمكن أن يصل عدد ما يصدره الكونجرس من قوانين إلي 600 قانون خلال دورته التي تستمر عامين. وفي السياق العام، يبدو مجلس النواب الأقرب للقضايا الداخلية، بينما مجلس الشيوخ يتميز بنفوذ أكبر في القضايا الخارجية. وتتمثل أهمية انتخابات التجديد النصفي للكونجرس 2010 في أنها تحدد نوعية " الكونجرس " الذي يقدر له أن يقود الولاياتالمتحدة نحو "التغيير " في مسار السياستين الداخلية والخارجية خلال المرحلة القادمة، بالإضافة إلي تحديد فرص السياسات التي يتبناها الرئيس أوباما خلال ما تبقي له من فترة رئاسته الأولي (عامان) واحتمالات التجديد له لفترة رئاسة ثانية في انتخابات الرئاسة لعام 2012 . وفي حالات سابقة، فإن انتخابات التجديد النصفي للكونجرس جاءت بهزيمة لحزب الرئيس، ففي عام 1994، مني الحزب الديمقراطي بهزيمة كارثية في انتخابات الكونجرس، ومع ذلك، فإن الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون نجح في إعادة انتخابه في عام 1996، الأمر الذي يحتمل أن يتكرر مع الرئيس باراك أوباما. ومنذ بدايات عملية الاقتراع في انتخابات الكونجرس للعام 2010 ، نجح الجمهوريون في اقتحام معاقل الديمقراطيين الحصينة في ولايات الشمال الشرقي، ديمقراطية الطابع، وولايات الغرب الوسط، وليعلن الجمهوريون في سبق واضح إمكانية استعادة سيطرتهم علي المعاقل الجمهورية التقليدية . اما علي مستوي حكام الولايات، فقد حقق الجمهوريون تقدما في عدة ولايات من أصل 37 ولاية جرت الانتخابات بشأنها . وفي تطور رمزي، واجه الديمقراطيون هزيمة بخسارتهم مقعد أوباما في مجلس الشيوخ في ولاية ايلينوي شمالا والذي فاز به الجمهوري مارك كيرك . وفي ظل اقبال قياسي من الناخبين، حصد الجمهوريون 60 مقعدا ديمقراطيا في مجلس النواب، وهو ما يزيد كثيرا علي سقف 39 مقعدا كانوا يحتاجونها ليفوزوا بالسيطرة علي الأغلبية المكونة من 218 صوتا في مجلس النواب الأمريكي، وليصبح للجمهوريين 239 مقعدا من أصل 435 مقعدا. أما في مجلس الشيوخ، فخسر الديمقراطيون 6 مقاعد، ليصبح لديهم 51 مقعدا فقط بعد أن اقتربوا من الأغلبية المطلقة قبل عامين في المجلس. ومع اعلان النتائج، دعا الجمهوري جون بونر الذي سيصبح رئيسا لمجلس النواب الرئيس أوباما لاحترام إرادة الشعب الأمريكي، وأن يغير من توجهاته، ويتعهد بتحقيق التغيرات التي يريدها الأمريكيون، فيما اعتُبر مقدمة لفرض الجمهوريين تسوياتهم علي الرئيس، انطلاقا من توجهاتهم المعارضة للاصلاحات التي نفذها خلال عامين . وعموما، فقد كشف الاقتراع ميلا كبيرا للناخبين في اتجاه اليمين، خاصة داخل الحزب الجمهوري الذي فاز التيار المتشدد فيه وتحديدا من حركة حفل الشاي بمقعدين في مجلس الشيوخ والذي لن يضم في تركيبته الجديدة أي نائب أسود. هذا، بينما حقق الديمقراطيون فوزا له أهميته في كاليفورنيا، حيث انتخب جيري براون حاكما لأغني الولاياتالأمريكية، وأكثرها اكتظاظا بالسكان. الكونجرس الجديد اعترف الرئيس الأمريكي باراك أوباما بمسئوليته عن نتائج الانتخابات التي جاءت انعكاسا لحالة الإحباط التي يشعر بها الأمريكيون من جراء استمرار الأزمة الاقتصادية، وعجز الميزانية، الأمر الذي جعل ( أصعب ) انتخابات في تاريخ الكونجرس تنتهي بكونجرس "معلق " لايحظي فيه أي من الحزبين المتنافسين بالأغلبية المطلقة. ومن العلامات البارزة في المشهد الجديد للكونجرس الأمريكي سطوع نجم حزب الشاي في الانتخابات، بحيث إنه من المتوقع عندما تصدر لجنة أمريكية مختصة بقضية العجز توصياتها في ديسمبر المقبل بشأن خفض الإنفاق والعجز، يمكن أن يشارك حزب الشاي بصوت مسموع في المناقشات، الأمر الذي يعني تحول الحركة إلي عنصر فاعل في الساحة السياسية. غير أنه علي الجانب الآخر، فقد تحدث انقسامات داخل الحزب الجمهوري، نتيجة تشدد حركة حزب الشاي، والتي ربما تسببت جزئيا في عدم حصول الجمهوريين علي مزيد من مقاعد مجلس الشيوخ. أما في مجلس النواب، والمكون من 435 مقعدا، يمكن أن يكون 33 محافظا يرتبطون بحركة حزب الشاي جزءا من الأغلبية الجمهورية الجديدة في المجلس. وفي ظل الكونجرس الجديد، يتوقع أن ترتفع الدعوة إلي خفض الضرائب، والتراجع عن كثير من بنود الإصلاح المالي، وأن يطلب الرئيس الجديد لمجلس النواب جون بوينر إلغاء القانون المعدل للرعاية الصحية أو تعديله بسبب ارتفاع تكلفة متوسطات أقساط التأمين الصحي، وبالجملة يمكن ان تطالب لجان الاستماع بمراجعة السياسات الحالية للإدارة الأمريكية، والاستماع لشهادة المسئولين بموجب الصلاحية الدستورية غير أن الأمر ينطوي علي وجه آخر للأحداث، لأنه مع احتفاظ الديمقراطيين بأغلبية مجلس الشيوخ، فإن الجمهوريين سيواجهون مقاومة قوية لتمرير إصلاحات الضرائب، فيما يمكن أن يبرز زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، باعتباره من أهم الشخصيات المؤثرة بجانب الرئيس الأمريكي، في المرحلة القادمة، في سياق فترة التحولات السياسية الأمريكية من مرحلة الطفرة الليبرالية التي واكبت صعود أوباما، إلي مرحلة السياسات المحافظة للحزب الجمهوري. أما علي صعيد السياسة الخارجية، فإنه نظرا لسيطرة الكونجرس علي " الميزانية " فإن ذلك سيكون أهم أسلحة الجمهوريين في التأثير علي توجهات الإدارة الأمريكية، عن طريق التحكم في مخصصات المساعدات الخارجية، فضلا عن مسائل تعيين كبار المسئولين، هذا، علي الرغم من أن مسائل الدبلوماسية والأمن القومي عموما في الولاياتالمتحدة، تقع في إطار عمل السلطة التنفيذية بالدرجة الأولي. ومع ذلك ستراقب الأغلبية اليمينية الجديدة سياسات البيت الأبيض بالنسبة للحرب في أفغانستان، وملفي العراق وإيران، وكوريا الشمالية، ومواقف أوباما تجاه الصين وروسيا، ومن التوقعات العامة في هذا الصدد المطالبة بتخفيض القوات في أفغانستان والاقتصار علي احتواء طالبان، ومكافحة الارهاب في باكستان، وتقوية الموقف الأمريكي تجاه الصين وروسيا بدلا من المواقف المرنة الحالية للرئيس أوباما، أما بالنسبة للشرق الأوسط، فإنه يبدو أن عملية السلام هي أول الخاسرين من صعود الجمهوريين، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو هو من أكثر المستفيدين من (هزيمة الديمقراطيين وأوباما) لأنه في ظل الكونجرس الجديد، سيخف الضغط علي إسرائيل التي ستجد دعما مباشرا من الجمهوريين في مواجهة مطالب عملية السلام . دلائل انتخابية كشفت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي ملامح من "الأزمة" التي تواجه الإدارة الأمريكية علي مستوي العمل الحكومي، والناخب الأمريكي، في المرحلة الراهنة . فمن ناحية يؤكد الرئيس أوباما أن عددا كبيرا من الجمهوريين رفضوا تماما التعاون معه منذ توليه منصبه في بداية عام 2009، وذلك بالرغم من الأزمة الاقتصادية العاتية التي تواجه الولاياتالمتحدة، والتي عصفت بحوالي 8 آلاف وظيفة منذ عام 2008، وهو ما كان يستوجب من الجمهوريين العمل علي إنهاض الاقتصاد، وخلق الوظائف، وبالعكس من ذلك، ففي خضم المعركة الانتخابية، فإن كل ما كان يشغل الجمهوريين هو هدف رئيسي ومحدد تمثل في "محاولة زلزلة الأرض" تحت أقدام الرئيس، وإلحاق الهزيمة بالديمقراطيين، ولو علي حساب السياسات التي تتعلق بمصالح الأمريكيين. وبعد اعلان نتائج الانتخابات، سارع الرئيس أوباما بالاتصال برموز الجمهوريين، طلبا للتعاون معهم، والاتفاق علي قواسم مشتركة ممكنة بين الجانبين لتحقيق ما يتمناه الأمريكيون لحل مشكلاتهم، فيما لايبدي الجمهوريون أية بوادر للتعاون مع الرئيس الديمقراطي. من ناحية أخري، أثارت عدة دوائر أمريكية القلق فيما يتعلق بمسألة "الإنفاق الانتخابي "، حيث أكدت مصادر عدة أن حملات انتخابات التجديد النصفي للكونجرس 2010 وصلت نفقاتها إلي حوالي خمسة مليارات دولار، وهو الرقم الأعلي في تاريخ الانتخابات الأمريكية . ويتردد أن الجزء الأكبر من هذا الإنفاق كان في صفوف الجمهوريين الذين تلقوا دعما هائلا من مؤسسات أمريكية عملاقة، بعد أن رفعت المحكمة الدستورية العليا في يناير الماضي القيود علي تمويل الحملات الانتخابية من قبل المؤسسات (جماعات ضغط- شركات- نقابات) مما علق عليه الرئيس أوباما بأنه مقدمة لتشن المصالح المالية ضغوطها علي الحياة السياسية الأمريكية . وفي هذا الإطار تساءلت دوائر أمريكية عما يطلق عليه " بيع وشراء الديمقراطية الأمريكية " في إشارة إلي استعراض قوة رأس المال في الانتخابات، وفرض السيطرة علي النظام السياسي في ظل أغلي انتخابات في تاريخ أمريكا. أما علي مستوي الناخب الأمريكي، فقد كشفت الانتخابات مدي عمق الحالة الاستقطابية في التوجهات السياسية للأمريكيين، ففي استطلاع الرأي الذي نشرته مؤسسة جالوب الأمريكية لدراسات الجمهور، جاء أن 48 % من الأمريكيين يعتبرون أنفسهم محافظين، و22 % يرون أنفسهم معتدلين، بينما يري 20 % أنهم ليبراليون . ولايخفي هنا أنه في خضم هذا الاستقطاب، هناك نسبة كبيرة من الأمريكيين تصنف سياسات أوباما علي أنها بمثابة " ثورة اشتراكية " تهدف إلي التحكم الفيدرالي في مشاريع الصحة والاقتصاد. أيضا جاءت انتخابات الكونجرس لعام 2010 كاشفة فيما يتعلق بدور السياستين الداخلية والخارجية، كقضايا انتخابية . فالناخب الأمريكي لايبالي بقضايا السياسة الخارجية بوجه عام إلا في أحوال استثنائية. وفي الآونة الراهنة رأي 60 % من الناخبين أن القضايا الرئيسية التي تحتل مكان الصدارة هي الاقتصاد، وسبل خلق وظائف جديدة، وبينما كانت قضية الحرب في أفغانستان والعراق من القضايا الانتخابية الرئيسية في انتخابات الرئاسة لعام 2008، ففي انتخابات الكونجرس 2010 لم تحتل هاتان القضيتان أهمية سوي عند 3% فقط من الناخبين، وقد يكون ذلك انعكاسا للحادث الذي لفت الانتباه قبل أيام من الانتخابات، حيث تم اكتشاف طردين مفخخين كانا في طريقهما من اليمن إلي معابد يهودية في ولاية شيكاغو، حسب مصادر أمريكية. ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلي تأثير التيار الذي ينادي بالعزلة الأمريكية، وابتعاد أمريكا عن الخوض في مشكلات العالم، وتوجيه الاهتمام للداخل الأمريكي، وهو ما ينادي به عدد من حركة " حفل الشاي " ذات التوجهات اليمينية، حيث طالب المرشح الجمهوري لمجلس الشيوخ في ولاية ألاسكا " جو ميلر " بوقف مساهمة الولاياتالمتحدة ماليا في الأممالمتحدة ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي. أما المرشح الجمهوري في ولاية كنتاكي "راند بول" فقد شكك في دستورية انضمام أمريكا لهذه المنظمات، داعيا إلي الانسحاب منها.