نحن لا نستسلم... ننتصر أو نموت.... وهذه ليست النهاية... بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه... أما أنا... فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي كان لاعتقاله في صفوف العدو، صدىً كبيراً، حتى أن غراتسياني لم يصدّق ذلك في بادئ الأمر، وكان غراتسياني في روما في طريقه إلي باريس للاستجمام والراحة تهرباً من الساحة بعد فشله في القضاء على المجاهدين في الجبل الأخضر، حيث بدأت الأقلام اللاذعة في إيطاليا تنال منه والانتقادات المرة تأتيه من رفاقه مشككة في مقدرته على إدارة الصراع. وفي حينها تلقى برقية مستعجلة من بنغازي مفادها إن عدوه اللدود عمر المختار وراء القضبان. فأصيب غراتسياني بحالة هستيرية كاد لا يصدق الخبر. فتارة يجلس على مقعده وتارة يقوم، وأخرى يخرج متمشياً على قدميه محدثاً نفسه بصوت عال، ويشير بيديه ويقول: "صحيح قبضوا على عمر المختار ؟ ويرد على نفسه لا، لا اعتقد." ولم يسترح باله فقرر إلغاء أجازته واستقل طائرة خاصة وهبط ببنغازي في نفس اليوم وطلب إحضار عمر المختار إلي مكتبه لكي يراه بأم عينيه. عمر المختار في الأسر لم يصدق وزير المستعمرات الخبر في البداية. وغراتسيانى الذي كان متوجها إلى باريس نزل من قطاره ليعود مسرعًا إلى بنغازى. ثم انقلبت دهشتهم إلى فرح هستيرى، والإصرار على "محاكمة فورية والإعدام بصورة صاخبة ومثيرة" كما جاء في برقية دى بونو وزير المستعمرات إلى بادوليو حاكم ليبيا. لكن ما فاجأ الطليان حقا، هو هدوء الأسير وصراحته المذهلة في الرد على أسئلة المحققين، بثبات تام ودون مراوغة: "نعم قاتلت ضد الحكومة الايطالية، لم أستسلم قط. لم تخطر ببالى قط فكرة الهرب عبر الحدود. منذ عشر سنوات تقريبا وأنا رئيس المحافظية. اشتركت في معارك كثيرة لا أستطيع تحديدها. لا فائدة من سؤالى عن وقائع منفردة. وما وقَع ضد إيطاليا والطليان، منذ عشر سنوات وحتى الآن كان بإرادتي وإذني. كانت الغارات تنفذ بأمري، وبعضها قمت به أنا بنفسي. الحرب هى الحرب. أعترف بأنه قبض علىّ والسلاح بيدى، أمام الزاوية البيضاء(مدينة البيضاء)، في غوط اللفو، هل تتصورون أن أبقى واقفا دون إطلاق النار أثناء القتال؟ ولا أشعر بالندم عما قمت به." كما يذكر غرسياني في كتابه، وصل غرسياني إلى بنغازي يوم 14 سبتمبر، وأعلن عن انعقاد "المحكمة الخاصة" يوم 15 سبتمبر 1931م، وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة رغب غرسياني في الحديث مع عمر المختار، يذكر غرسياني في كتابه (برقة المهدأة): "وعندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية. يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطا لأنه كان مغطيا رأسه (بالَجَرِدْ) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح." غراتسياني: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة لفاشستية ؟ أجاب الشيخ: من أجل ديني ووطني. غراتسياني:ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه ؟ فأجاب الشيخ: لا شيء إلا طردكم ... لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند الله. غراتسياني: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك إن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم ؟. فأجاب الشيخ: لا يمكنني أن أعمل أي شيء ... وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الأخر، ولا نسلم أو نلقي السلاح ويستطرد غرسياني حديثه "وعندما وقف ليتهيأ للانصراف كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء. ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد، فانهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء، وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يديه كانت مكبلة بالحديد." إنه عمر المختار الذى تحل ذكراه الواحد والثمانين (20 أغسطس 1861 - 16 سبتمبر 1931) الملقب بشيخ الشهداء أو أسد الصحراء قائد أدوار السنوسية في ليبيا. مقاوم ليبي حارب قوات الغزو الايطالية منذ دخولها أرض ليبيا إلى عام 1931. حارب الإيطاليين وهو يبلغ من العمر 53 عاماً لأكثر من عشرين عاما في أكثر من ألف معركة, واستشهد باعدامه شنقاً وتوفي عن عمر يناهز 73 عاما. وقد صرح القائد الإيطالي "أن المعارك التي حصلت بين جيوشه وبين السيد عمر المختار 263 معركة، في مدة لا تتجاوز 20 شهرا فقط".