تكمن أزمة الحركة الإسلامية في شكل ونوع البداية، وأنها بداية حداثية كُليّا وجزئيًّا، قلباً وقالبا. فقد قبل المودودي والبنا رحمهما الله، باعتبارهما أبوي الحركة الإسلامية المعاصرة ومؤسسا أكبر تنظيمين في تاريخها (الإخوان المسلمون وجماعت إسلامي)؛ قبلا بالدولة القومية الحديثة، وآلياتها ونظمها وروابطها. وبرغم أنهما سعيا لأن تكون حركتيهما روابط أممية فوق الدولة؛ روابط تحلّ محل الخلافة التي تم تقويضها؛ إلا أن طبيعة النسق المادي الذي أدمجت فيه الجماعتان فرض نفسه على المنتج النهائي، فلم يغن عنهما حسن النية وإخلاص القصد شيئا!! لقد قبل المودودي (احتذاءا لإقبال) خطة التقسيم البريطانية للهند؛ وهاجر هو نفسه إلى باكستان الوليدة؛ ليس قبولاً بالغطاء السياسي الجديد فحسب، بل ومحاولة التنافس معه على نفس الأرضية (غير الإسلامية) بأدوات تُنسب للإسلام! أما البنا الذي عرف عنه نقده الشديد للتجربة الحزبية، فقد أدمج أيضا في بنية الدولة القطرية، وسعى للتنافس معها في الإطار الإلحادي الذي يشكل بنيتها؛ وذلك بدخول الانتخابات ولو على سبيل التجربة، وكأن البنية غير الإسلامية يمكن أن تؤدي لتمكين الإسلام! الأخطر من هذا وذاك؛ هو التصوّر نفسه الذي تشرّبه الإمامان المجددان بغير وعي. ويتجلى ذلك بشكل فج في دفاع البنا عن "الحقوق العربية" في فلسطين! إذ برغم أن البنا كان من أكبر معارضي المشروع السياسي الصهيوني، ومن أوائل من وعوا به وحشدوا المال والمجاهدين لمواجهته؛ إلا أنه تشرَّب ديباجاته الغربية من خلال نموذج الممارسة الحركية والسياسية. إن المطالع للخطابات والبيانات التي أصدرها البنا والجماعة بشان فلسطين؛ يجد أن خطابه هو مجرد مقلوب للخطاب الصهيوني؛ فهو يتحدث (في الثلاثينيات والأربعينيات) عن "حقوق عربية" لم تكن ملامحها المادية قد تشكلت بعد على يد الناصرية والبعث؛ يتحدث عن وطن لا يمكن تعريفه هويّاتياً إلا بانه نقيض للوطن اليهودي! إن اختزال قضية فلسطين في كونها قضية عربية، وليست قضية الامة بأسرها، كان أحد الإفرازات اللاواعية للرعيل الأول للإخوان المسلمين (حقبة البنا، أو الجماعة الأولى التي انتهت باستشهاده)، ومن ثم، فإن الناصريين والبعثيين الذين استولوا على الحكم في قلب العالم العربي لم يجدوا معارضة من الجماهير حين تبنّوا نفس الخطاب وطوروه، فقد كان النموذج يسير في طريق التقسيم (مثل الحدود السياسية التي بنيت على أساسها الدول القومية) وتضييق تعريف الإنسان (من مسلم؛ إلى مسلم غير عربي ومسلم عربي؛ ثم ينقسم العربي إلى قومي وإسلامي وماركسي،؛ وينقسم هؤلاء بدورهم إلى قومي بعثي عراقي وقومي ناصري مصري، وماركسي غير مؤمن بالقوميات، وإسلامي مسلح، وإسلامي منبطح ... إلخ). إن أزمة الخلل في تصوّرات الإمامين يمكن تتبع آثارها في الفكر السياسي عند كلاً من مصطفى كامل ومحمد إقبال؛ واللذين كانت نماذجهما قد بدأت بالانغلاق. فقد أمست صحوة المسلمين ودعوتهم العالمية عند مصطفى كامل "مسألة شرقية"؛ استسلاماً لإمبريالية المقولات، وهو ما ضاق على يد البنا. كما بدأ إقبال -تأثراً بالغزو الاستشراقي- بالتنظير لأهمية السلطة السياسية في الإسلام، وهو ما تلقفه المودودي وضيّقه بخطابه الاعتذاري عن غير وعي رحمه الله. كان البنا والمودودي يواجهان حالة لم تتعرض لها الامة من قبل؛ خصوصاً في ظل الهيمنة الكاملة (عسكريّا وسياسيّا واجتماعيا واقتصاديا ومعرفيا) للغرب، وتقويضه لاستقلال ممالك المسلمين. كان لا بد لهما من الوقوع في الخطأ، بسبب جدة التجربة؛ لكن هذا لا يسوغ لأتباعهما "استصنام" هذه التجارب والمسارات كأنها هي ذاتها الإسلام! فإن كان البنا والمودودي قد يؤجرا بأجر المجتهد المخطيء، إلا أن من يحذو حذوهما بغير تدبُّر وتروي، لن يكون سوى مقلد أحمق ...