«الثورة» فعل أخلاقى .. قيمى .. جماعى تقوم به كتلة حرجة واسعة من كل أطياف مواطنى وطن ما .. من أجل هدم «نظام» فاسد يحكم .. ولكن بالأساس من أجل بناء «الدولة» وإصلاح مؤسساتها إصلاحا جذريا. الثورة إذاً .. هى الإصلاح الجذرى أو «الراديكالي» .. ويكون ذلك إما ب«الهدم» ثم البناء .. أو بالإحلال الإجرائي العميق والمتسارع .. لكل مؤسسات الدولة موطن الثورة. لكن يبقى شرطا أساسيا لكى يصبح الفعل «ثوريا» أيا كان نوعه أن يظل هدفه الأوحد بناء «الدولة» والحفاظ على «معناها». كذلك يبقى لكل نمط ثورى محدداته التى لا يكتسب شرعيته إلا من خلالها. ويبقى مصدر الشرعية له واحد وهو عموم أبناء الوطن الواحد بتوافق كتلتهم الحرجة للنمط الهدمى أو الإحلالي. فأما شرعية ثورة «الهدم ثم البناء»، فهى تقتضى أن يكون التوافق أو الإجماع بشأنه توافقا أو إجماعا مجتمعيا وليس لقوى سياسية تمثل تيارات مؤدلجة. أما إذا حدث تململ مجتمعى بشأن تعريف فساد المؤسسة الواجب إصلاحها أو عدم إقرار لنمط الهدم الثورى، صار اللجوء إلى هدم المؤسسة المستهدفة—حتى وإن صح فى تقديره— فعلاً وصائياً على المجتمع. يكون فساد الوصاية فيه أعظم من أى إصلاح مرجو. ذلك لأن رأس المكتسبات التى تأتى بها أى ثورة لمجتمعها هى رفع الوصاية عنه من أى أحد .. إلا لمنظومة قيمه التى يرتضيها لنفسه. مثال على ذلك أنه رغم نبل أهداف ثورة يوليو 1952، إلا أن الفعل الوصائي الذى مارسه الضباط الأحرار على المجتمع—وإن كان فى دروب رفع المظالم واستعادة الحقوق— إلا أنه أَسَس لمظالم أكبر، وضيّع حقوق آكثر فى معنى الدولة. وفى ثورة المصريين فى يناير 2011، حين قيل «الشعب يريد إسقاط النظام»، كان الذى أعطى شرعية تحقيق هذا الهدف الثورى بمسار هدم رأس السلطة التنفيذية (مؤسسة الرئاسة ذاتها)، هو التوافق المجتمعى، والذي ليس فقط متبديا فى مشاهد ميادين التحرير، ولكن قبله الظهير المجتمعى الذي بارك فعل التحرير. ولو رفع هذا الظهير مباركته عن التحرير—كما كاد أن يحدث يوم 1 فبراير عشية موقعة الجمل— لكان لزاما علينا القبول بالتغيير الجذرى الإجرائي واستكمال الضغط الشعبي الهادف إلى إحلال عميق داخل مؤسسة الرئاسة، لم يكن بالضرورة ليبدأ بإسقاط رأس الدولة. بمثلها نقول أن الثائر للمبدأ .. هو الذى يجعل الإطار الأخلاقى لفعله محددا بشرطين: أولهما الإعراض عن «الوصاية» على المجتمع—حتى وإن كان متيقنا من حِكمِة ما يفعله، وثانيهما أن يفضى كل تحرك له عن تكريس لمؤسسات دولته القائمة أو القادمة ، معنى وواقعا مؤسسيا. وإن كنا اخترنا نموذجا من الثورة المصرية لكى نوضح ما نقول، نجد أن ملمح الاستبداد العسكرى الحالى المتمثل فى الإعلان الدستورى المكمل و توابعه. ورغم كونه مرفوضا منا بالقطع لطبيعة استبداده التى تبدو فى تجاوز الوكالة الشعبية لإدارة الانتقال. لكنه أيضا ليس محلا لإجماع أو توافق مجتمعى بشأن كونه ملمحا لاستبداد، حتى وإن كان محلا لتوافق قوى سياسية بعينها وقوى مجتمعية أخرى. وعليه الدفع به على كونه الفساد الذى حاز شرعية «صدام الهدم الثورى» ضد المؤسسة العسكرية، وليس «النضال من أجل إصلاحها الجذرى»، يكون فيه شبهة الوصاية على المجتمع—حتى وإن كان رأيي كما أسلفت أن الاستبداد بادٍ— فلا يمنعنا ذلك من أن نبصر بنوع الخطر الوارد وقوعه—على مؤسسة نملكها نحن قبل أن يملكها فاسدوها—حال الدفع فى هذا الاتجاه. كذلك، إذا خيرنا بين القبول بحكم الدستورية فى شأن حل البرلمان أو عدم الامتثال له بحجة فساد المؤسسة القضائية. فحتى يشرعن الجسد المجتمعى الأوسع (والجسد المجتمعى الأوسع ليس بالقطع الفصائل السياسية الأظهر إعلاما أو الأخرى الأقدر حشدا) الصدام الهدمى مع مؤسسة القضاء، حين يعلنها مؤسسة مارقة، فليس أمامنا اختيار إلا الامتثال لحكم الدستورية صيانة لهيكل المؤسسة القضائية— التى نملكها نحن قبل أن يملكها فاسدوها— ثم العمل الشعبى على تطهيرها جذريا من داخلها. هكذا تكون ثورتنا ضدها. هكذا كان عمق ثورتنا المصرية و عبقريتها حين استطاعت ولم تزل، أن تعرف متى وكيف تصعد وتصطدم، وبأى شرعية تهدم، ومتى وكيف تهدأ وتعذر درءاً لمظنة الوصاية على شعب هو مصدر شرعيتها وقوتها. وهى تهادن دون أن تقبل الدنية فى وطنها وألا تحال من «ثورة» إلى «فتنة»، رغم كيد كائديها .. فسادّاً و جُهالاً. «شعرةُ» تلك التى تفصل بين الثورة والفتنة. وهى شعرة «الوصاية». فمن يؤسس للوصاية على المجتمع باسم مصلحة المجتمع—حتى وإن كان مصيبا فى تقدير تلك المصلحة— يؤسس لفتنة قد تودى بالمجتمع، وتودى به هو قبل غيره. وقديما قيل الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. فكروا تصحوا!