هي مجموعة من الأساطير التي تشكل الوجدان الجمعي للسياسة والتفكير في السياسة والسياسيين، والمجتمع المصري بوجه عام. ونظرا لبزوغها في الفترة الماضية، فقد آثرنا جمع وتناول أهم ثلاثة اساطير فيها، حتى نستطيع الحفاظ على التراث الشفهي الأسطوري لحياتنا السياسية في مصر. الأسطورة الأولى تقول الأسطورة أن نظام مبارك قد سقط، أو أن المشكلة كانت في مبارك وشلته، ربما امتدت شلته لكي تشمل أسماء كثيرة، وقد ظلت هذه الأسطورة مسيطرة بشده في بدايات الثورة، لكن لحسن الحظ بدأ كثير من جوانبها بالسقوط، وتبين للكثير أن نظام مبارك يحوي بداخله الكثير. تبَقّى فقط أن البعض ما زال يعتقد أن النظام سوف ينتهي، ويبدأ العهد الجديد، حينما يتولي الرئيس القادم منصبه (إذا لم يكن شفيقا)، وهو بالطبع آخر الأوهام التي بقيت من هذه الأسطورة، فتفشي أذرع الحزب الوطني في اجهزة الدولة وسيطرة المئات من العسكريين السابقين على مفاصل الدولة (وتمتع المؤسسة العسكرية باستقلالية كبيرة عن الدولة، خاصة في الجانب الاقتصادي والإداري، بل ودورها التقليدي في حفظ النظام القديم)، والقدرة القوية في العمل لدي الأجهزة الأمنية (أمن الدولة والمخابرات وما شابه)، بالإضافة للدعم الامريكي المعتاد وطبقة رجال الأعمال والمنتفعين، كل هذا يجعل من مرحلة تولي الرئيس القادم، مرحلة جديده في الصراع مع النظام القديم. ومن ثم، فإن الحديث عن سيطرة الإخوان على الدولة في حال وصولهم للرئاسة هو أمر عبثي، فالنظرية تفترض أننا نعيش في دولة عادية ديموقراطية تسير بالقانون، ومن ثم فسيطرة تيار ما على المؤسسات والجهات السياسية (والسياسية فقط، البرلمان والحكومة والرئاسة) تجعل منه تيارا مسيطرا على الدولة، وهو بالتأكيد أمر عبثي تماما في ظل ما قلناه آنفا. الأسطورة الثانية تقول الأسطورة أن الإخوان هم تيار الاستبداد الديني، وأنهم سيسعون لإقامة دولة دينية. لحسن الحظ أن هذه الأسطورة واضحة، لكن لدى التيارات الإسلامية فقط للاسف، ففي البداية لا يتم تعريف ما هو شكل هذا "الاستبداد الديني"، فالبعض على سبيل المثال، يتحدث عن فرض مظاهر التدين بالقوة (مثل مسألة فرض الحجاب)، وهو أمر مضحك بالفعل، حيث أن المشهور عن الإخوان عدم تقيدهم الصريح ب"الهدي الظاهري" أي الالتزام في الشكل والسلوك بتعاليم الإسلام (طبقا لما يراه بعض التيارات بالطبع)، وهو ما نلاحظه على سبيل المثال في موضوع اللحية، فلا يستطيع أحد القول بأنها سمت إخواني مميز، بل إن العديد منهم لا يلتزمون بها، أما عن اللباس فحدث ولا حرج، فمسألة الجلباب ليست منتشرة اصلا بين الإخوان (ناهيك عن الجلباب القصير والعمامة أيا كان شكلها). بالطبع لا ننكر بعضا من مظاهر الهدي الظاهر (وخاصة النقاب) التي انتشرت لدى الإخوان نتيجة موجة تسلف واضحة، لكنها بالتأكيد لم تصل لتصبح نمطا عاما، فضلا عن منهج في التعامل، بل أن الامر يصبح اكثر أثارة للضحك حينما نقارن منهج وأدبيات وفكر الإخوان وسلوكياتهم بمثيلاتها لدى الجماعة الإسلامية قبل المبادرة مثلا، فلا يستطيع أحد أن يذكر حادثة واحده تبني فيها الإخوان منهجا لفرض مظاهر التدين، كما كانت تفعل الجماعة الإسلامية في الثمانينيات (وهي تختلف عن الجماعة الإسلامية او الجمعية الدينية التي كانت في الجامعات في السبعينات، وبالتأكيد تختلف عن جماعة الجهاد وجماعات التكفير الأخرى). بل إنك لا تستطيع أن تلحظ مثل هذا الفكر أصلا في أدبيات ومنهج الإخوان، حتي مع موجة التسلف التي حلت عليهم، وهذا لان التيارات السلفية في الاصل لا ترى— بشكل عام— مسألة فرض التدين بالقوة (وهو ما كان أحد مظاهر الاختلاف بينها وبين التيارات الجهادية بشكل عام، والجماعة الإسلامية بشكل خاص). أما الحديث عن مسألة الدولة الدينية، فهو يثير الشفقة أكثر مما يثير الضحك، فبغض النظر عن أن تعريف "الدولة الدينية" أصلا لا ينتمي للإسلام، ولا يعرفه الإسلام كنسق فكري وكنموذج معرفي، وبالرغم من تبني الإخوان للإسلام كمنهج للتغيير، فإن الانتقاد الاكبر للإخوان من قبل التيارات الإسلامية الأخرى هو عدم جديتهم في تطبيق الشريعة ومنهج الإسلام. حتي في المقارنة بين موقف مرشد الإخوان والخميني في إيران، حتى هذه المقارنة لا تصب في اطار أسطورة الدولة الدينية، فالخميني في إيران هو مرجعية سياسية وفكرية وفقهية، بينما المرشد العام في الإخوان يمثل مرجعية سياسية وحركية فقط، بينما تقع المرجعية الفكرية/الفقهية على عاتق علماء مثل القرضاوي أو محمد الغزالي او سيد سابق (أو بعض دعاة السلفية في العصر الحالي)، ناهيك عن أنه لا يعرف أصلا للمرشد الحالي أو حتى لمرشدين سابقين (ربما باستثناء البنا تحديدا) اجتهادات فقهية متكاملة أو مذاهب فكرية، فضلا عن أنه إن وجدت بعضا من هذا أو تلك، أن تكون ملزمة لاعضاء الجماعة. ومن ثم فالحديث عن دولة دينية نظرا لوجود مرشد الإخوان هو أمر غير منطقي بالمرة. هذا لا يعني موافقتنا على مثل هذه العلاقة، ففي نهاية الامر، دولة القانون تعني أن الجميع يخضع للمحاسبة وقواعد الشفافية، ومثل تلك العلاقة، بين رئيس الجمهورية ومرشد الإخوان تنتهك ابسط صور الشفافية والمحاسبة، ولكنها بالتأكيد لا تعني دولة دينية مثل ايران. الأسطورة الثالثة تقول الأسطورة أن الإخوان المسلمين هم شعب الله المختار الذين سيتحقق على ايديهم عصر التمكين عن طريق مشروع النهضة وما شابه. حسنا تبدو الأسطورة جميلة، ويتم التأكيد عليها بين الحين والآخر، لكن النظر المتبصر قليلا في مشروع الإخوان السياسي يجد الكثير مما ينتقص من هذه الأسطورة، بل ويخسف بها تماما. فمثلا، يتبني الإخوان (في برنامج مرشحهم وفي مشروعهم للنهضه على سبيل المثال) أطروحات اقتصاد السوق بامتياز، بل وتميل الفلسفة الاقتصادية الإخوانية ليس فقط نحو الرأسمالية المتحررة، لكن أيضا نحو سياسات نيو ليبرالية أيضا، مما يخلق بيئة مناسبة كي تغوص مصر أكثر فأكثر نحو مزيد من الالتصاق بالنظام العالمي القائم، ومن ثم الخضوع له (وهو ما يتنافى مع رؤية العديد من التيارات الأخرى عن النموذج الإسلامي، وبالتأكيد فانه يتنافي مع فكرة أستاذية العالم لدى البنا). أما على الجانب السياسي فنحن نشهد تغليب مصلحة الجماعة والتنظيم في كثير من الأحيان (إن لم يكن كلها) فوق مصلحة الجميع— بما فيها الوطن أو حتى الإسلام—لا يعني ذلك بالضرورة أن مصلحة الجميع والوطن والإسلام ليست من ضمن مؤثرات القرار الإخواني، فالقول بهذا بالتأكيد يعبر عن فشل في الرؤية، بل وفشل في تفسير القرار الإخواني الذي تحمّل من الاعتقال والاضطهاد والتعذيب ما لا يحتمله سوى أصحاب القضايا المؤمنون بها والمستعدون لبذل الغالي والنفيس من أجلها. لكن نظرا للقمع المستمر (منذ عهد عبد الناصر)، فقد حدث نوع من تزاوج الرؤية بين القضية والمؤمنين بها، بين "المشروع" وبين "الجماعة" التي تقوم به، وهو ما خلق حالة تغليب مصلحة الجماعة والتنظيم التي أشرنا اليها. رأينا ذلك كثيرا في ما قبل الثورة وفيما بعدها، رأيناه في 6 أبريل 2008، ومن قبله في مظاهرات ربيع 2005، ثم رأيناه في أول أيام الثورة مع تأخر قرار الجماعة، ثم رأيناه بعد الثورة في كثير من المواقف التي تتصف بأنها كانت سعيا من الجماعة لاكتساب أكبر مكاسب ممكنة، مما بدا أنه كعكة سهلة المنال. ومن ثم فالحديث عن الإخوان كحملة مشعل الإسلام وخطباء منبره وطليعة مرابطي ثغوره هو أمر به أوهام كثيرة تنحو نحو تمجيد القيم المعنوية من أجل اضفاء الشرعية (وفي بعض الأحيان التبرير النفسي) للأفعال المادية. لكنه بالتأكيد لا يدفعنا إلى الأسطورة المقابلة والتي تقول بأن الإخوان ما هم إلا تجار دين، فما تعرض له الإخوان والتيار الإسلامي من تنكيل واعتقالات بالآلاف والمحاكمات العسكرية والتعذيب في السجون (حتى الموت أحيانا كما في حالة الأستاذ كمال السنانيري وغيره) كل هذا وغيره مما لم يتعرض له في حجمه (لا نقول في نوعه) باقي التيارات السياسية، يجعلنا نثق في إيمان هذا التيار بقضيته، اختلفنا او اتفقنا معها. هذه بعض أهم الأساطير المؤسسة للسياسة المصرية، نرجو من الله أن نتمكن من الإضافة إليها وتطويرها. ملحوظة أخيرة: كانت فكرة المقال لدينا منذ فترة، لكن فكرة الأسلوب قد أوحى بها الاخ العزيز راجح السياجي، وكتبها في مقال له، فتوسعنا فيها استلهاما لاسم كتاب روجيه جارودي المعروف، لذلك لزم التنويه حفاظا للحقوق الفكرية وإقرار بالفضل لأهله.