في أيطاليا نهر يسمى «الروبيكون» Rubicon يقع شمال روما، يتميز بمياهه حمراء اللون بسبب الطمي الذي تحمله ومن هنا جاء اسمه الذي يعنى (الياقوتي). في الدولة الرومانية القديمة، كان هناك قانون يقضي بأن القائد العسكرى العائد من المعركة يترك جيوشه على ضفة هذا النهر، ثم يعبره بدون جنوده و يدخل روما ليقدم تقريره لمجلس الشيوخ. بعدها يدخل الجيش بدون قائد. وإن عبر القائد النهر بجنوده فهذا يعتبر انقلابا، حتى وإن لم يدخل القائد روما، فالروبيكون هو نقطة اللاعودة وعبوره بالجنود، يساوى إعدام القائد ومعاقبة الجنود. هذا قانون من أقدم القوانين التى تنظم العلاقة بين الجيش والدولة، ويهدف لمنع الجيش من التدخل في شئون الدولة أو المشاركة في أي عمل مدني، بفصل الجيش عن قيادته (أو بعبارة أخرى تفكيك الجيش) قبل دخولهم روما. من ناحية أخرى، يمكن التفكير في هذا القانون علي أنه يجعل من النهر حاجزا نفسيا يمنع القادة من التفكير في الانقلاب العسكري، ومازالت عبارة (عَبَر الروبيكون) تستخدم في الثقافة الغربية حتى اليوم للتعبير عن شخص فعل فعلا لا عودة عنه. الجنرال الذي تجرأ علي عبور الروبيكون بجنوده والقيام بانقلاب عسكري في روما كان يوليوس قيصر، وهي حادثة مؤثرة بشكل عميق في الفكر السياسي الغربي الحديث، بداية من روبسبيير أشهر قادة الثورة الفرنسية، الذي تحدث عن هذة الحادثة في أكثر من موضع، وتساءل عما جعل قيصر يجرؤ علي عبور الروبيكون بجنوده. بداية من هذه النقطة، فكر السياسيون في القوانين التى تنظم علاقة الدولة بالجيوش، وتمنع تكرر هذا السلوك مستقبلا. هنا نتناول القواعد التى يتم تطبيقها من خارج المؤسسة العسكرية، ويضعها المجتمع والهيئات الرقابية والتشريعية لتنظيم علاقة المؤسسة العسكرية بالدولة و المجتمع. لا سلطات كبرى لغير المنتخبين قادة الجيوش هم أشخاص ترقوا حتى وصلوا لهذه المناصب التي تمنحهم قوة كبيرة، لكن لم ينتخبهم الشعب. والفكر الديمقراطي عموماً ينفر من تركيز سلطات ضخمة في يد قلة من الأشخاص أيا كانوا، فما بالك إن لم يكونوا منتخبين؟ بالتالي، من المنطقي أن يكون رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش في معظم الدول الديمقراطية، و لكن ألا يسمح هذا بدرجة من الديكتاتورية، حتى لو كانت ديكتاتورية شخص منتخب؟ كان أحد القوانين القديمة في روما تقضي بأن يتقاسم قائدان قيادة الجيش، وفي أيام المعارك يتولى كل منهما القيادة يوما ويتركها للآخر يوما، لكي لا ينفرد أحدهما بقيادة الجيش. هذا في الماضي فماذا عن تطبيق الفكرة اليوم؟ ماذا عن رئيس الجمهورية في الدول الحديثة، القائد الأعلى للقوات المسلحة؟ ما الذى يمنعه من أن يصدر أوامر غير مدروسة للجيش؟ هنا تظهر فكرة تقاسم السلطة على الجيش بين رئيس الجمهورية والبرلمان، وهو وضع مطبق في أمريكا حيث يمكن للكونجرس أن يلغى أمراً أصدره الرئيس للجيش. إن رفض العسكريين قراراً للرئيس متعلقا بدخول حرب لا يرغب الجيش بدخولها أو قرار بتحديد الميزانية، إلخ ..، فكل ما عليهم هو تكوين رأي عام في هذه القضية يدفع الكونجرس لمناقشتها وبالتالى يسمح للعسكريين بعرض الأمر على الكونجرس. مثلا، عندما أراد بيل كلينتون أن يتدخل عسكريا في البوسنة، وكان الجيش يرفض هذا التدخل، سربوا الأمر إلى الكونجرس والصحافة مما دفع الكونجرس لعقد جلسة استماع تحدث فيها الجنرال باري ماككافري، مسئول التخطيط في قيادة أركان الجيوش الأمريكية وقدم تصوراته عما يحتاجه هذا التدخل من ميزانية وعتاد عسكرى. البعض يرى أن ماككافري بالغ في تقديراته لما يطلبه هذا التدخل العسكري، مما دفع بالكونجرس لرفض التدخل، وأسقط في يد كلينتون. مشكلة هذا النظام الأولى أنه يدفع بالعسكريين إلى السياسة والصحافة والمجتمع، فيصبحوا زبائن معتادين في البرامج الحوارية، لأنهم يحاولون تكوين رأي عام تجاه ما يريدونه، سواء التدخل العسكري أو عدمه أو زيادة الميزانية المخصصة للجيش، وغيره. كلما أراد العسكريون شيئا لا يوافق عليه الرئيس، فعليهم أن يسربوا الأمر للإعلام، ويحاولوا تكوين رأي عام يسمح لهم بالحصول على ما يرغبونه. أحد المحللين سخر من الأمر قائلا أن القادة العسكريين الأمريكيين لا يحتاجون أن يقوموا بانقلاب! إذ أنه كما أرادوا أن يفعلوا شيئاً فكل ما عليهم هو أن يسربوا الأمر إلى صحيفة «واشنطن بوست». المشكلة الثانية الأفدح أن البعض يرى هذا يسمح بانقلاب عسكري إن لم يتفق الرئيس والكونجرس في أحد القرارات. ففي قرار التدخل في البوسنة، لم يصر كلينتون على الأمر بعد رفض الكونجرس له، لكن لو أصر الرئيس علي رأي و أصر الكونجرس علي غيره، فسيكون الجيش بكل الأحوال قد خرج على أحدهما أيا ما كان الاتجاه الذي أخذه، مما يسمح بالتمادي في الموضوع، واستقلال قادة الجيش بالجيش وربما الدولة لأن الرئيس و الكونجرس لم يتفقا. لا تقف سلطة الهيئات المدنية المنتخبة (الرئيس والكونجرس) عند قرارات دخول الحروب، بل تصل لما هو أدق بكثير من هذا. فحتى 1986، كانت وظيفة رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية أنه نقطة تواصل هيئة الأركان بالكونجرس. لم يكن يرأس قادة الأسلحة المختلفة، لم يكن من حقه إصدار أوامر لأي منهم. السبب في هذا أنه غير منتخب، والفكر الديمقراطي يميل لتقليل السلطات الكبرى لدى الأشخاص غير المنتخبين، لهذا فإن رئاسة الجيش كلها تتركز بيد الرئيس والكونجرس معا لأنهم أشخاص منتخبون، وليس في يد قائد عسكري أيا ما كانت رتبته. سبب هذا نوعا من عدم التنسيق بين قادة الأسلحة المختلفة، و ظهر ذلك في بعض معارك الحرب العالمية الثانية. ورأى البعض أن هذا كان من أسباب فشل الجيش الأمريكي في حل أزمة الرهائن في إيران. على مستوى الإنتاج العسكري أدي هذا لتقليل فائدة الإنتاج الضخم حيث يتم إنتاج احتياجات كل فرع بشكل منفرد، بدلا من الإنتاج الضخم وتوزيعه على الأفرع المخلتفة. في 1986 أقر الكونجرس قانونا، عرف بإسم قانون جولدووتر– نيكولاس، أعاد هيكلة الجيش الأمريكى مرة أخري لتلافي هذه المشكلات. جولدووتر و نيكولاس عضوان بالجزب الديمقراطي و الجمهوري اشتركا في إعداد القانون، وفيه تم إعطاء صلاحيات أكبر لرئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي، فصار من حقه إصدار الأوامر لقادة الأسلحة المخلتفة. هذا القانون مازال إلى اليوم محل انتقاد كثيرين باعتبار أنه يعطى لرئيس الأركان سلطات تهدد الديمقراطية، وتسهل القيام بانقلاب عسكري يوماً. لكن ما يهمني هنا أن أشير إلى فكرة تقليل السلطات في يد الأشخاص غير المنتخبين، وأن الكونجرس هو من يراقب أداء الجيش على المستوى العسكري و التنظيمي، و يحلل أسباب الضعف وعدم الكفاءة إن وجدت، وتصل سلطاته إلى تحديد هيكل القيادة وتنظيمها في الجيش. الأمر ليس فقط في القانون، بل هو شيء في الفكر الاجتماعي والعسكرى الأمريكي. ففي 2006، قامت مجلة «هاربر» الأمريكية بإقامة ندوة يدور فيها النقاش بين عدد من العسكريين الأمريكيين موضوعها: «كيف يمكن القيام بانقلاب عسكرى في أمريكا؟». المتحدثون على إختلافهم اتفقوا أنهم لا يستطيعوا القيام بانقلاب عسكري في أمريكا، وأحد الأسباب الرئيسة لهذا فكرة أنه إن افترضنا أن وزير الدفاع قرر أن يقوم بانقلاب فإن رئيس الأركان لن يطيعه، وإن أطاعه رئيس الأركان فإن قادة الأسلحة لن يطيعوه، وإن أطاعه قادة الأسلحة فإن الضباط كلهم من أصغر رتبة حتى أعلى رتبة لن يطيعوه، لأن فكرة أن تكون السلطة في يد المدنيين هي فكرة أساسية في العقيدة العسكرية الأمريكية. منع تدخل الجيش بالأمور المدنية في عام 1878، صدر في أمريكا قانون Posse Comitatus، و هو تعبير لاتيني يعنى سلطة الإقليم. في هذا القانون، تم النص على عدم تدخل الجيش (و فيما بعد تم تعديل القانون عام 1956 ليشمل القوات الجوية أيضا) في أي عمل مدني، إلا إن كان هناك نص في الدستور أو القانون يسمح بمثل هذا التدخل. فبالتالي، لم يكن ممكنا أن يساعد الجيش الشرطة في أعمال مكافحة المخدرات مثلا، إلا بعد إصدار قانون رسمي يسمح بمساعدة الجيش في فرض القانون داخل البلاد، وهو القانون الذى صدر عام 1981، وهو لا يزال محل انتقاد من الكثيرين. عقلية الجيش تختلف عن عقلية الشرطة في نقطة جوهرية، الشرطة هيئة مدنية عليها أن تفترض في الشخص البراءة إلى أن تثبت عليه الجريمة، بعكس الجيش الذى لا يفترض في العدو البراءة أثناء المعارك، بل يتحرك بمجرد أن يلمح هدفاً. هذا تفكير أساسى ينعكس على القوانين المنظمة لكلا الهيئتين، والتدريبات التى يتلاقاها الضباط من الجانبين، وغير ذلك. بالتالي، تدخل الجيش في الأمور المدنية مرفوض إلا أن بعض الظروف تضطر الدول للدفع بالجيش في الأعمال المدنية. فالقانون الأمريكي الذي صدر في1981 برره الكونجرس بعجز الشرطة وأجهزة مكافحة المخدرات عن إيقاف سيل المخدرات المتدفق إلى أمريكا، ورغم هذا التبرير فإن هذا القانون مازال محل انتقاد عدد من العسكريين والمفكريين السياسيين في أمريكا. ليس هذا فحسب، بل انتقد بعض المفكريين الأمريكيين أيضا تدخل الجيش في عمليات الإنقاذ التي تجري بعد الأعاصير، مثل إعصار كاترينا لأنهم يرفضون فكرة أن يعتاد الناس على قيام الجيش بالأعمال المدنية، لأنها تسمح بأن يحكم العسكريون البلاد يوماً ما. الدولة اللامركزية الدولة المركزية تسهل القيام بانقلاب عسكري لأن الناس تقبل بفكرة أن هناك انقلاب، وقد ينجح إن استطاع الجيش السيطرة على عدد من المنشآت الحيوية مثل القصر الجمهورى ومبنى التليفزيون، وهو عيب تتجنبه النظم اللامركزية مثل النظام الفيدرالى. وإن إفترضنا قيام انقلاب عسكري في أمريكا وأن الجيش نجح في السيطرة علي واشنطن كلها، فإن الناس في لوس أنجليس مثلا سينظروا للأمر على أن (واشنطن سقطت في قبضة الجيش) وليس (أمريكا سقطت في قبضة الجيش)، لأنهم أشخاص اعتادوا على أنه لا توجد مركزية في الدولة وكل ولاية لها قدر لا بأس به من السلطة ولها قوانينها الخاصة، بل لا يستبعد أن يفكروا بأسلوب (نحن في لوس أنجليس لدينا جهاز الشرطة الخاص بنا الذى يمكنه أن يدافع عن الولاية ضد هجوم الجيش عليها). إذن لا مركزية الدولة لا تحمى فقط من السلطة المطلقة للجيش، بل تحمى الدولة من السقوط إن انهزم الجيش. في إيران و قبل إنشاء الجيش المركزي، عندما كان الشّاه يواجه عدوا خارجيا، كان يحشد جيشا يشبه كرنفالا من القوميّات، كل مقاطعة ترسل رجالها: من الصّحراء فرسان البختيار، ومن الجبال ينزل أغوات الأكراد على رأس رجالهم، ومن الشرق مقاتلو البلوش والقبائل المحاربة الأفغانيّة. إذا هُزم جيش الشاه كانت هذه الأقوام تعود ببساطة إلى ديارها النائية، حيث تخوض حربا واسعة النطاق طويلة الأمد تمنع العدو—حتى لو احتل العاصمة— من تحقيق أي سيطرة حقيقية على البلاد، فضلا عن فرض الضرائب عليها أو استغلال مواردها. عندما تم إنشاء الجيش المركزي و الدولة المركزية سقطت إيران بسهولة في يد الإنجليز والروس بعد أن هزموا الجيش الإيرانى. في مصر كان الصعيد، حيث المجتمع الذي ما زال حتى اليوم محتفظا بكثير من أسباب قوته الداخلية، كالروابط العائلية العشائرية الواسعة، والاعتزاز بحمل السلاح، والحرص الشديد على حفظ الكرامة، واعتبار إهانة الفرد إهانة للمجموع، كان هو الأكثر مقاومة وصمودا ضد الحملة الفرنسية التي بمجرد هزيمتها لجيش المماليك في موقعة إمبابة، دخلت القاهرة بلا مقاومة تذكر، وتوغلت حتى بنى سويف حيث بدأت مقاومة الأهالى العنيفة بدعم من تنظيم مراد بك، واستمرت مقاومة الصعيد عشرة أشهر حتى صالح الفرنسيين مراد بك على أن يظل هو حاكم المنطقة مقابل أن يدفع لهم ضريبة، أي أن الاحتلال الفرنسى فى الواقع اقتصر على شمال مصر فقط. خاتمة في هذا الوقت الذي فيه يكثر الحديث عن العسكر وعلاقتهم بالدولة وسلطة الهيئات التشريعية والرقابية على الجيش في مصر، حاولت أن أستعرض بعض القوانين والأعراف التي تنظم علاقة الجيش بالدولة والمجتمع في الفكر السياسي. كما ذكرت سابقاً، في الوقت الذى تمتلك فيه هذه الهيئات— في الدول المتقدمة— سلطة لتغيير هيكل القيادة في الجيش ومراجعة أدائه في المعارك، فإننا مازلنا نتناقش حول ما إذا كان من حق مجلس الشعب مناقشة الميزانية العسكرية، في الوقت الذي يرفض فيه بعض المفكرين العسكريين والسياسيين تدخل الجيش في إنقاذ المصابين أثناء الكوارث لرغبتهم في فصل الجيش عن أي شكل من أشكال العمل المدني، نرى في مصر دولة رأسها العسكريون لمدة ستين عاما ومازال البعض يطالب بأن يستمر هذا الحكم العسكري. الفجوة بيننا وبينهم كبيرة. وهي فجوة فكرية واجتماعية قبل أن تكون فجوة في التشريعات والقوانين، لكننا سنعبرها إن شاء الله.