شكل الدولة الحديثة القائم في كثير من دول العالم اليوم قائم على عدة أفكار أو مبادئ ثابتة يعتبرها الكل من المسلّمات، من ضمن هذه المبادئ علي سبيل المثال مبدأ مسئولية الدولة عن توفير احتياجات الناس، إن انقطعت المياه أو الكهرباء فإن الناس تلوم الحكومة، إن لم تتوافر الخدمة الطبية يلوم الناس الحكومة، إلخ.. هذا مبدأ غير موجود مثلاً في المجتمعات القبلية حيث لا يوجد هيئة بعينها مسئولة عن توفير احتياجات الناس. من ضمن المبادئ التي جاءت بها الدولة الحديثة فكرة (مركزية العنف)، بمعنى أن هناك هيئات معينة من حقها أن تملك وتستخدم السلاح، هذه الهيئات هي الشرطة والجيش، هذا العنف يفترض أن يوجه إلى أعداء الدولة أو الخارجين علي القانون. معنى (مركزية العنف) أنه ليس من حق المواطنين حيازة السلاح، وخصوصاً الأسلحة الثقيلة مثل الدبابات والطائرات الحربية، هذه الأشياء تصير حكراً علي فئة معينة فقط هي الهيئات العسكرية، وهي تجمع لعدد كبير من الأفراد المنظمين الذين يصير من حقهم التدرب علي استخدام السلاح والقتال. يقول محمد حسنين هيكل إنه عند النظر إلي الثورات في الدول الحديثة، فأول شيء تفكر فيه هو الجيش والدور الذي قام به، لأنه عادة ما يكون الجيش هو الذي قام بالثورة (أو الانقلاب) أو هو الذي أجهضها لأنه أكبر قوة في الدولة، و ينفرد بحيازة السلاح والمعرفة بكيفية استخدامه والتنظيم الذي يسمح له باستخدام هذه القوة. علي الرغم من أن الفكرة قد تبدو منطقية للكثيرين ولها الكثير من المميزات إلا أن هذا معناه وجود فئة من الناس تنفرد دوناً عن باقي المجتمع بقوة غير مسبوقة، السؤال هنا هو ما الذي يمنع هذه الفئة أو بعض أفرادها من استخدام هذه القوة غير المتوافرة لغيرهم في خدمة مصالحهم وأغراضهم الشخصية؟ ماذا لو رفضوا استخدام القوة لصالح الدولة وحولوها لخدمتهم هم؟ هذه النقطة هي أحد الهواجس لدي السياسيين، و لهذا توصف النظم العسكرية في كتب السياسة بأنها (نظم غير آمنة Insecure Systems). لو عرفنا أن النظم الآمنة تُعرف على أنها النظم التي ليس لديها ما تخاف منه، لأمكننا أن نفهم سبب وصف النظم العسكرية بأنها غير آمنة. النظم العسكرية تعاني باستمرار من الخوف من أن يحاول بعض أعضائها أو كلهم استخدام القوة لتحقيق أغراض أخرى غير التي يريدها السياسيون أو تريدها الدولة. في النظم العسكرية الحديثة هناك عدة مبادئ وأساليب تم وضعها وتطبيقها لمنع هذا السيناريو من أن يحدث، وسنتعرض في هذا المقال لهذه الأساليب ونحاول أن نحللها سوياً. إلغاء القدرة على التفكير والنقد: في إحدى اللقاءات بين هنري كيسينجر وألكسندر هايج، رئيس أركان الجيش الأمريكي، قال هنري كيسينجر: إن العسكريين مجرد حيوانات غبية تستخدم في السياسة الخارجية كعساكر الشطرنج Military men are just dumb stupid animals to be used as pawns in foreign policy. كيسينجر كان مستشار الأمن القومي الأمريكي ثم وزير خارجية أمريكا، ولكنه قبلها كان يحمل دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد وكان له أدوار أكاديمية في تدريس العلوم السياسية في الجامعة. ما قاله هنري كيسينجر ليس رأياً شخصياً بل يحمل قدراً من العلم، و انعكاس للشخصية المناسبة للنظم العسكرية طبقاً للنظم السياسية الحديثة، فقط هو مختلط بلا مبالاة هنري كيسينجر بمشاعر الآخرين وعدم اهتمامه بتجميل آرائه. فلنحاول أن نتخيل أن الجيش الأمريكي في عهد كيسينجر كان يضم أشخاصا مفكرين ذوي توجهات أخلاقية، هل كان الجيش وقتها سينفذ سياسة كيسينجر في فيتنام؟ لاحظ أن بعض الناس رفضوا التجنيد الإجباري في الجيش الأمريكي وتعرضوا للعقوبات لرفضهم أن يشاركوا في الحرب علي فيتنام. أحد أشهر هؤلاء كان محمد علي كلاي الملاكم المعروف، الذي ساهمت مبادئه الدينية في تكوين هذا الرأي لديه، ولكن لم يكن هذا رأي قادة الجيش الأمريكي وضباطه. الجيش الأمريكي وضباطه كانوا بالضبط كما وصفهم كيسينجر، عساكر شطرنج في سياسته الخارجية، ومن يفترض فيه هذا الدور لابد أن يكون محدود الذكاء والتفكير. النظم العسكرية الحديثة تأخذ شاباً في فترة المراهقة، وهي فترة هامة في تكون الآراء والأفكار، وتعزله عن الحياة فلا يسمع الأخبار اليومية، لا يحتك بأسرته، لا يسمع سوى تعليمات من نوعية "صفا وانتباه" ومحاضرات عن طاعة القائد، وتركيز في التدريبات على جوانب القوة الجسدية، ومع إهمال تنمية العقل، بل إن العوامل الجسدية عند انتقاء العسكريين هي الأساس، وليست العوامل العقلية والشخصية. في تحليله لانسياق المواطن الأمريكي وراء الإعلام بدون أدني تفكير، قال عبد الوهاب المسيري إن السبب هو أن الأمريكي يترك البيت في فترة المراهقة فلا تصير لديه مرجعية يعرف بها الصواب من الخطأ. هو يخرج للمجتمع فيرى الكثير من الأشياء والأفكار دون أن تكون لديه أسرة تفلتر ما يراه لتخبره بالصواب والخطأ. في الأسرة التفرقة بين الصواب والخطأ لا يكون بشكل مباشر كالمحاضرات، بل فقط بالاحتكاك بين المراهق وأسرته، الحديث حول مائدة الغداء عن ما حدث في الكلية اليوم، مناقشة الأحداث السياسية مع الأب، إلخ. كل هذه وسائل تساهم في فلترة ما يراه المراهق وتساهم في تكون أرائه ومعرفة الصواب من الخطأ. و لكن حين تنعدم الأسرة و يخرج المرء للمجتمع، تصير مرجعيته هي الإعلام. الإعلام يخبره بالصواب و الخطأ، ونفسياً يتعلق المرء بالإعلام حتي فيما بعد مرحلة المراهقة ويصير الإعلام بالنسبة له مصدر مرجعية لا ينتقد ولا يفترض فيه الخطأ أو التضليل. نفس الشيء في رأيي ينطبق علي التربية العسكرية. عزل الإنسان عن المجتمع ككل، عن أسرته، عن أصدقائه، عن الأخبار اليومية، عن وسائل الاتصال المختلفة، كل هذه عوامل تجعله يتلقى ما يُلقى إليه بدون تفكير، وما يلقى إليه يكون عادة التعليمات العسكرية التي تقدس القائد وتلغي التفكير الفردي وبالتدريج تصير هذه شخصيته إلي الأبد. العسكري الذي يفكر، والذي يمتلك مرجعية أخلاقية راسخة عادة ما يكون مشكلة للنظام السياسي، لأن السياسة في الغالب تخلو من الأخلاق بدرجة كبيرة. ربما أشهر مثال للعسكريين المفكرين والأزمة التي يمكن أن يشكلوها هم العسكريين النازيين. في ألمانيا كان من عادة الأسر الأرستقراطية إلحاق أبنائها كضباط بالجيش، بعد أن يمروا بتربية أخلاقية وثقافية وعقلية جيدة، و كان الالتحاق بالجيش مصدر فخر لمثل هذه الأسر. ربما لهذا تنفرد العسكرية النازية بأكبر كم من العباقرة العسكريين الذين اجتمعوا لجيش واحد في التاريخ، عباقرة من أمثال باولوس، روميل، مانشتاين، العباقرة الذي وضعوا خطط اكتسحت أوروبا في أيام، والذين لولا عدم سماع هتلر لهم في المراحل المتأخرة من الحرب لجعلوا الصليب المعقوف يرفرف علي العالم كله. المشكلة أن هؤلاء العباقرة لم يتقبلوا ما يقوم به هتلر من قمع وإبادة وديكتاتورية، فقاموا بمحاولة اغتياله الشهيرة باسم (مؤامرة الجنرالات). في هذه المؤامرة قام أحد الضباط الذين يحضرون اجتماعات هتلر العسكرية، بوضع حقيبة بها قنبلة موقوتة تحت منضدة الاجتماعات ثم غادر الاجتماع بحجة أنه ينتظر اتصالاً من الجبهة. لكن قام أحد الضباط في الاجتماع بتحريك الحقيبة ونقلها خلف عمود من الرخام، وحين انفجرت القنبلة تلقى هذا العمود الانفجار، فأصيب هتلر لكنه لم يمت. الضابط الذي وضع القنبلة اسمه كلاوس فون ستافنبرج، كان أرستقراطياً درس الفلسفة والتاريخ واللغة اللاتينية في صغره، كما كان كاثوليكياً متديناً. في صغره اقتنع بكتابات أديب ألماني هو (جايورجا)، الذي كان يدعو إلي دولة المانية قائمة علي المثل والقيم الأخلاقية، تقود العالم بهذه القيم والأخلاقيات. كل هذا دفع البعض إلي وصفه بأنه (لم يكن نموذجا للعسكري التقليدي). باقي الأشخاص الذين دبروا المؤامرة كانوا على نفس الدرجة من الرقي الفكري والأخلاقي، بل إن بعضهم كانوا من الدارسين في جامعة كامبريدج! نقطة اخري هامة هي أن محاولة الاغتيال تمت عام 1944، بعد أن بدأ الاكتساح السوفيتي من الشرق بعد معركة ستالينجراد وبعد أن قام الحلفاء بالإنزال الشهير في نورماندي في فرنسا. وقتها كانت الحرب قد انتهت بالنسبة لألمانيا وصار الموضوع موضوع وقت قبل سقوط ألمانيا، فما الذي يدفع الضباط إلي المخاطرة بحياتهم لقتل هتلر؟ حين سأل أحد الضباط الصغار هيننج فون تريسكو، قائد الأركان علي الجبهة الشرقية التي تحارب السوفيت وأحد الجنرالات الذين دبروا المؤامرة، عن ما إذا كان الأمر يستحق المضي قدماً في محاولة الاغتيال، والتي إن فشلت ستتسبب في الإطاحة بأعناقهم جميعاً (و هو ما حدث بالفعل)، أجاب بأن ستة عشر ألف شخص يقتلون يومياً. هؤلاء لا يموتون في الحرب، بل يقتلهم النازييون في المعتقلات ومعسكرات الإبادة الجماعية. بالتالي كل يوم يمكن اختصاره من زمن الحرب جدير باستغلاله. لم يكن هذا رأي فون تريسكو وحده، كل المتآمرين كانوا أشخاصا يؤمنون بالمثل العليا، وكانوا يرون أنهم إن لم يتحركوا فلن يستطيعوا العيش ومواجهة أنفسهم وضمائرهم. محاولة اغتيال هتلر ومن شاركوا فيها نموذج صارخ علي الأزمة التي يمكن أن يشكلها العسكري المثقف، ذو التوجهات الأخلاقية في النظم السياسية الفاسدة. بعكس المثقفين التقليديين الذين لا يملكون إلا الكتابة والحديث، هؤلاء يمتلكون السلاح والتنظيم والقدرة على الفعل بأقصى قوة ممكنة. من هنا يمكننا أن نفهم أهمية أن تكون ثقافة العسكريين وقدرتهم علي التفكير والنقد ومرجعيتهم الأخلاقية بسيطة ومحدودة، ويمكننا أن نفهم لماذا يتم منع التعليم الديني والفكري عموماً في المؤسسات وهيئات التدريب العسكرية. عادة ما يتوارث العسكريون هذه التقاليد دون أن يفهموا السبب وراءها، ولكن علماء السياسة وواضعيها من أمثال هنري كيسينجر يعرفون السبب ويهمهم أن يحافظوا على هذا الوضع كما هو. تقديس القادة: عادة ما توصف النظم العسكرية بأنها نظم تقدس القائد Authoritarian، بغض النظر عن كفاءة هذا القائد أو موهبته. ما دام هو قائد فهو شخص له مكانة خاصة بدون تساؤل عن ما منحه هذه المكانة. حتي وسط قادة هتلر الذين ضربنا بهم المثل في الذكاء، كان من الصعب علي الكثير منهم التمرد على هتلر بسبب قسم الولاء الذي يقسمونه في الجيش النازي، والذي يعرف باسم قسم هتلر، والذي يقسمون فيه علي الولاء غير المشروط لهتلر شخصياً، وليس للدستور أو للدولة أو لأي مبادئ أو قيم. حين عرض الجنرالات خطة اغتيال هتلر على روميل رفض أن يشارك فيها، ولكنه في نفس الوقت لم يرشد عنهم، وقال لهم إنه على استعداد للقيام بأي دور يفيد ألمانيا إن استطاعوا اغتيال هتلر. وقتها كان روميل قد اعتزل الحرب وتكونت لديه قناعة بأن ألمانيا تنهار وأن هتلر هو سبب انهيارها، لهذا لم يرفض فكرة اغتياله، ولكنه في نفس الوقت لم يستطع أن يتجاوز ما تربى عليه في جيش من الولاء للقائد أيا ما كان غباء هذا القائد أو سوء نواياه. حين فشلت المؤامرة وتم القبض علي المتآمرين، عرف النازيون أن روميل كان علي علم بالأمر ولم يبلغ عنه، و بالتالي خيره النازيون بين الانتحار وبين المحاكمة العلنية فانتحر بتناول السم. نفس الأمر تقريباً كان متكرراً مع مانشتاين Manstien، أحد العباقرة العسكريين النازيين والذي كان العقل المدبر وراء خطة احتلال فرنسا، واقتحام خط ماجينو. على الرغم من أنه كان مقتنعاً أن هتلر لا يصلح لقيادة الجيش وقيادة ألمانيا، وعلى الرغم من خلافاته الاستراتيجية الكثيرة معه، والتي أقاله هتلر بسببها من الجيش، فإنه رفض أن يشارك في مؤامرة الجنرالات ورفض أن يحاول اغتيال هتلر لأن تقديس القائد واحترامه الذي تربى عليه في الجيش وقف كحائل نفسي بين مشاركته في اغتياله حتي وإن اقتنع أنه يسير بالبلد و الجيش إلي الهاوية. تقسيم القوة ونقلها بين أكثر من شخص أو جماعة: الدولة الرومانية القديمة كانت أول المجتمعات التي قدمت تصورا للدولة الحديثة، بتنظيمها الإداري، نظمها الديمقراطية وجيشها. كان الخوف من انقلاب العسكريين أحد النقاط الأساسية في الفكر السياسي الروماني وبالتالي انعكس علي القوانين التي كانت سائدة في الدولة الرومانية. أحد هذه القوانين كان ينص على أن قائد الجيش لا يتولى القيادة لأكثر من سنة، بعدها يترك الجيش مهما كانت قدراته العسكرية وكفاءته. وحتى في أثناء هذه السنة، كانت القيادة مقسمة بين شخصين، القرارات الاستراتيجية والخطط تكون باتفاقهما معاً وفي أيام المعارك يتولى كل منهم القيادة ليوم، وفي اليوم الذي يليه يتولى الآخر القيادة. شاه إيران كان يتبع أسلوباً مختلفاً، كان يجعل الاتصالات في يد أقلية من الشعب وهم البهائيون، فالسيطرة علي الاتصالات لا تسمح للبهائيين بالانقلاب، لأن أدوات الاتصالات ليست أسلحة أو دبابات، وفي نفس الوقت لا يمكن لباقي فصائل الجيش التحرك في حركة شاملة إلا إن كانت لديهم نظم اتصالات تسمح بتنسيق تحركهم. كون الاتصالات في يد أقلية يجعل احتمال اجتماعهم على هدف واحد مع باقي فصائل الجيش (الذين كانوا من الشيعة) احتمالاً ضعيفاً. من ضمن الأساليب المألوفة أيضاً حركات التنقلات الدورية في الجيوش، حيث يتم نقل العسكريين بين الوحدات العسكرية كل عدة سنوات، والتي تهدف لتفادي أن يظل مجموعة من الأشخاص سوياً في مكان واحد مما يسمح بتكوين مراكز قوة داخل الجيوش. إلغاء علامات التميز الفردي: كان يوليوس قيصر نموذج للعسكري الذي لمع نجمه أكثر من اللازم، وكان يوليوس قيصر قائداً عسكرياً للجيش الروماني، حارب الغال وانتصر عليهم بعد أن كانوا مشكلة للدولة الرومانية. في حربه معهم انتصر قيصر علي 2 مليون من الغاليين بربع مليون جندي فقط، أي أنهم كانوا يفوقونه عدداً بثماني أضعاف. في هذه الحرب اخترع قيصر أسلوب حصار الحصار، حيث حاصره الغاليين فاكتشف ثغرة في حصارهم أرسل منها قوات تحاصر القوات التي تحاصره، و هي تقنية عسكرية لم يسبقه لها أحد. عبقرية قيصر العسكرية كانت ومازالت محل إعجاب ودراسة من الكثيرين، حتي أن نابليون بونابرت بعد مئات السنين علي موت قيصر، كان يطلب من الرسامين أن يرسموه وعلي رأسه تاج من أغصان الشجر مثل الذي كان قيصر يرتديه، تشبها منه بقيصر وانبهاراً بقدراته العسكرية. شهرة قيصر وثقة جنوده فيه وإعجابهم به هي التي شجعته بعد إنهاء حرب الغال علي أن يطالب بالحكم، في دولة مر عليها خمسمائة عام لم يحكمها ملك أو رئيس وإنما يحكمها نظام ديمقراطي نواته الرئيسية مجلس شيوخ منتخب من الشعب، دولة كان يكفي أن يتهم فيها أحدهم بأنه يسعي لأن يكون ملكاً ليتم قتله بأعنف الطرق الممكنة. ولكن قيصر عاد من الحرب بجيشه ليقتحم روما ويقتحم مجلس الشيوخ ويعلن نفسه كأول إمبراطور في الدولة الرومانية، ويسقط خمسمائة عام من الديمقراطية التي كان الرومان يزهون بها، والتي كانت أحد أسباب استعلائهم على باقي الشعوب. عادة ما يخشى السياسيون أن يظهر في النظم العسكرية شخص متميز يصير نقطة إلهام لمن حوله ويقودهم لتحقيق ما يريده هو. لهذا لا تعترف النظم العسكرية بعلامات التميز الفردي، فتفرض زياً موحداً علي الجميع، وتجعل مقياس الترقي أي مقياس ليس له علاقة بالعوامل الشخصية مثل الأقدمية. فكرة الأقدمية تلغي الكفاءة، تلغي الاعتراف بأن هناك أشخاصا أقدر من غيرهم علي القيادة وأن هناك أشخاصا أقدر من غيرهم على وضع الخطط الاستراتيجية، باختصار تلغي الاعتراف بأن هناك اختلافات بين الأشخاص وأن هناك أشخاصا أكثر تميزاً من غيرهم. بالطبع لا يمكن إلغاء التميز الفردي وإهماله بصورة مطلقة، لأن هذا ضد الطبيعة الإنسانية وضد استمرار أي نظام أيا ما كان عموماً، وبسبب هذا الصدام مع المنطق ومع الطبيعة البشرية وطبيعة تكوين الجماعات، يتم الأخذ بالتميزات الفردية فقط في المراتب العليا من النظم العسكرية، وحتي عندها، عادة ما يقوم السياسيون بعزل العسكريين الذين يلمع نجمهم بشكل يمثل احتمالاً لأن يقودوا النظام العسكري لغير ما يريده السياسيون. المبالغة في العقوبات: تعرف النظم العسكرية بعقوباتها الصارمة والتي تهدف لفرض الطاعة ومنع أي شكل من أشكال التمرد والانشقاق. الأمر ليس جديداً، بل الأمر يعود إلى جيوش الرومان قديماً. على سبيل المثال حين يتمرد فيلق أو جماعة كبيرة العدد ويتم احتواء التمرد، يكون من الصعب قتل كل أفرادها لأنهم سيقللون من عدد الجيش بشكل ضخم، لهذا يتم تطبيق عقوبة تسمي بالإنجليزية Decimation ولا أعرف لها ترجمة عربية. في هذه العقوبة يقوم كل عشرة أشخاص من الجماعة التي قامت بالتمرد بمد أيديهم في كيس قماشي يحتوي علي عشرة أحجار و يخرج كل منهم بحجر. كل هذه الأحجار أبيض اللون ما عدا واحد فقط أسود. الجندي الذي يخرج بالحجر الأسود في يده يتم قتله ضرباً بالمطارق، حيث يتم تكسير عظامه حتي الموت! هذا ترهيب لكل من تسول له نفسه أن يخرج ولو قليلاً على الخط العام الذي يرسمه القادة. خاتمة: لم يأت نموذج الدولة الحديثة في الدول العربية والإسلامية ببرلمانه وحكومته وجيشه من فكر العرب أو المسلمين، بل هو مأخوذ من النموذج الغربي، ومثل أشياء كثيرة في حياتنا حالياً أخذنا النموذج الغربي كله دون أن نفرق بين المفيد والضار ودون أن نفهم لماذا تم وضع النموذج بهذه الصورة دون غيرها. في عهد المسلمين الأوائل كان الولاء للفكرة قبل أن يكون للقائد أو للدولة، الولاء للإسلام ومبادئه وليس للخليفة، لهذا لم يكن المسلمون يخشون انقلابات من الجيش وقادته، ولهذا كنا نرى الكفاءة كمقياس اختيار للقادة وليس الأقدمية. كان الاقتناع بالفكرة أساساً للانخراط في الجيش، لهذا كان الكثير من الناس يتنقلون بين جيش علي ومعاوية، واعتزل بعض الناس الفريقين، و لم يحاول علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يمنعهم، ولم يحاول أن يعاقب من يرغب في ترك جيشه، لأن أساس الانخراط في الجيوش وقتها كان الاقتناع بالفكرة وليس الولاء للأشخاص. و لهذا كان من الطبيعي أن يطيع الجنود قادتهم أثناء المعارك، لأن القادة كانوا يستحقون القيادة، لأنه تم اختيارهم بناء علي الكفاءة، ولأن الجنود والقادة متفقون على المبادئ العامة، والأهداف التي يعمل من أجلها الجيش. من البديهي أن النظم العسكرية القديمة لا تصلح اليوم لاختلاف شكل الدولة، ونوعية الأسلحة وطبيعة المعارك، إلخ.. ولكن هذا ليس معناه أن نأخذ ما جاء من الغرب وننقله بحذافيره دون أدني تفكير. علينا أن نفكر في نموذج للنظم العسكرية تأخذ أفضل ما في النظم العسكرية الحديثة والقديمة، نظم تتفق مع الأساسيات الإسلامية في الإدارة وفي الحياة عموماً، مثل فكرة اختيار أصلح شخص لكل منصب بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، وفكرة أن تنمية العامل الأخلاقي والعقلي هو أهم ما يمكن أن تقدمه لأي إنسان أيا ما كانت وظيفته وموقعه في الحياة، والأهم من هذا أن مثل هذا الإنسان هو من أهم الأشياء التي يمكن أن تقدمها للمجتمع.