«على عكس المتوقع، لا يرجح أن تزداد مواقف روسيا حدة بشأن إيران وسوريا أثناء الفترة الرئاسية الثالثة لبوتين التي تبدأ الأسبوع المقبل. » يؤمن بعض المحللين بأن عودة بوتين إلى الرئاسة في السابع من أيار/ مايو الجاري سوف تقود حتما إلى تقوية موقف موسكو حول قضيتين رئيستين: البرنامج النووي الإيراني والتدخل العسكري المحتمل في سوريا. إن السيناريو الأسوأ المطروح حتى الآن يدل ضمنيا عن وجود تحالف شيطاني مع طهران ووجود دعم معنوي وعسكري وسياسي كامل لنظام بشار الأسد في دمشق. وتعود جذور مثل هذه التكهنات إلى التصور الشائع بأن بوتين هو من المتشددين، والإفتراض بأن علاقاته المتوترة مع الغرب هي نتاج عمله ضابطا سابقا في جهاز الاستخبارات السوفيتية "كي جي بي" والذي لا يزال يبحث عن الانتقام لهزيمة الاتحاد السوفيتي في "الحرب الباردة". بيد، يبدو أن هذه التوقعات السلبية مبالغ فيها. ففي السابع من آذار/ مارس طرح الصحفيون على بوتين أسئلة عما إذا كان وصوله للرئاسة سيغير نهج موسكو تجاه إيران وسوريا. فكانت الإجابة الموجزة والتأكيدية التي قالها بأسلوبه المقتضب المعهود «لا». هل رحل بالفعل عن السلطة؟ أعلن بوتين عدة مرات- أثناء توليه منصب رئيس الوزراء تحت قيادة ديمتري ميدفيديف- بأن الرئيس هو من يقرر سياسة روسيا الخارجية وليس رئيس الوزراء. والواقع أن ميدفيديف بدا وكأنه يتمتع بحرية التصرف خلال توليه المنصب، حيث اتبع نهجا ليبراليا إلى حد ما تميز بإعادة ترتيب العلاقات الأمريكية الروسية وتحقيق درجة من التقارب مع الدول الأوروبية والتوصل إلى تسوية مع الغرب بخصوص ليبيا فضلا عن الفتور الشديد في العلاقات مع طهران. وقد تناقض ذلك بشكل حاد مع فترات بوتين الرئاسية التي نتذكر منها جيدا زيادة حدة التوترات مع واشنطن والتحسن الكبير في الحوار الروسي الإيراني في الفترة 2007-2008. وعلى الرغم من كل ذلك، كان هناك إحساسُ قويٌ بأن رئيس الوزراء بوتين ظل مسيطرا من وراء الكواليس. أولا وقبل كل شيء، كان اللاعبون الرئيسيون المسؤولون عن صياغة وتنفيذ سياسة روسيا الخارجية أثناء فترة ولاية ميدفيديف مُعينين من قبل بوتين. وقد شمل ذلك المساعد الرئاسي الذي يتمتع بنفوذ كبير سيرغي بريخودكو، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، ورئيس هيئة الاستخبارات الخارجية ميخائيل فرادكوف، وغيرهم. ثانيا، حتى في ظل شغل بوتين لمنصب رئيس الوزراء فإنه سعى إلى السيطرة الرسمية على أية قضايا سياسية تقع ضمن نطاقه القانوني. وقد كان ذلك هو الوضع مع محطة بوشهر النووية ووجود عملاق الصناعة النووية الروسي روساتوم في إيران. وكان رئيس الشركة سيرغي كيرينكو يرفع تقارير شخصية إلى بوتين بشأن إنشاء محطة بوشهر، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، تلقى موافقة رئيس الوزراء للاستمرار في التعاون مع إيران في مشاريع نووية أخرى. ثالثا، لم يرفض بوتين بشكل كامل مطلقا فكرة أن العديد من قرارات السياسة الخارجية جاءت في الواقع من خلال مشاركته الصريحة. ففي آذار/ مارس على سبيل المثال، عندما قال إنه لن يغير مسار روسيا بشأن إيران وسوريا، ذكر كذلك أنه رغم أن الرئيس يقرر السياسة الخارجية، إلا أن هناك مسائل رئيسية تخضع للمناقشة داخل مجلس الأمن. وأضاف أنه وميدفيديف يتفقان حول القضايا الرئيسية رغم وجود بعض الاختلافات. لا أمور شخصية .. عمل فقط! مما لا شك فيه أن بوتين هو من أشد الأشخاص حذرا وانتقادا للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، حيث نعت الأخير في مناسبات عديدة بأنه يحرض على العودة إلى «الحرب الباردة». كما أنه عقلاني جدا، كما هو الحال مع سياسة روسيا الخارجية. ومن المرجح أن تؤدي هذه العقلانية إلى منع أي مواجهات حقيقية مع الغرب بشأن الشرق الأوسط، فضلا عن إحباط أي تحالف روسي قوي مع دمشقوطهران في ظل الظروف الراهنة. ولذلك، فإنه في اجتماع عقد مؤخرا مع أعضاء البرلمان الروس، خيّب بوتين ظن النواب الذين توقعوا بيانات قوية مناهضة للغرب بشأن سوريا وإيران. وبدلا من ذلك، أكد بوتين على أن موسكو لن تكرر أخطاء حقبة الاتحاد السوفيتي بدعم أي نظام أو دولة لأسباب أيديولوجية، بدون حساب التكاليف والأرباح. ولا توجد حاليا أي مكاسب واضحة تُبرر تحالف روسيا مع طهران أو دمشق. لكن كلا من ميدفيديف وبوتين يدرك أن البلاد سوف تدفع ثمنا باهظا يتمثل في الضرر الذي سيلحق بسمعتها الدولية لو أنها حادت عن الإجماع بشأن تلك الأنظمة. لقد أمضت موسكو سنوات في بناء روابط قوية مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية (لا سيما «مجلس التعاون الخليجي»)، وأي من الزعيمين ليس مستعدا للتضحية بالعلاقات السياسية والاقتصادية المحتملة مع هذه البلدان لأجل آية الله خامنئي أو الأسد. وفي الواقع أن بعض التحركات الروسية الأخيرة قد أثبتت بالفعل أن روسيا تريد أن تكون لاعبا جماعيا وليس دولة منبوذة. ففي منتصف نيسان/ أبريل، أثناء محادثات الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا في اسطنبول، أظهر المسؤولون الروس استعدادهم للتعاون لحل المسألة النووية الإيرانية. كما أن الإجراءات الروسية الأخيرة على الجبهة السورية - مثل انتقاد الاستخدام المفرط للقوة من جانب الأسد، وحث المشيخات الخليجية على بدء حوار بشأن الأزمة واستضافة شخصيات من المعارضة السورية في موسكو ودعم مبادرة وقف إطلاق النار التي طرحها كوفي عنان برعاية الأممالمتحدة - كلها أمور تظهر أن موسكو لا تريد التحالف الكامل مع دمشق، وأنها تتوقع تقديرا دوليا لهذا الامتناع. والأسباب التي تدفع موسكو إلى عدم تقديم الدعم الكامل للتحالف الغربي ضد سوريا وإيران عملية تماما، ولا تعتمد على التفضيلات الشخصية للرئيس. وبالنظر إلى النتائج في العراق وليبيا، أدركت روسيا أن سقوط الشركاء القدامى سوف يؤدي حتما إلى خسارة النفوذ الاقتصادي والسياسي في البلدان المذكورة. وسواء ظلت روسيا خارج النزاع (كما هو الحال في العراق) أو ساعدت بشكل مخفي على الإطاحة بحلفائها القدامى (كما هو الحال في ليبيا، حيث كانت موسكو أول حكومة توقف صادرات المعدات العسكرية إلى القذافي)، فإن النتيجة ستظل كما هي: لقد أُرغمت روسيا على مغادرة البلدان التي تم تحريرها من الحكام المستبدين. ومن ثم، فإنه في ظل عدم وجود ضمانات قوية بشأن تأمين مصالحها، تقاتل روسيا من أجل الاحتفاظ بسوريا (إحدى محطاتها الأخيرة في الشرق الأوسط العربي) مع حماية إيران من احتمال شن هجمات عسكرية. كما تُقدِّر روسيا مساعدة طهران في إرساء السلام والاستقرار على سواحل بحر قزوين وفي آسيا الوسطى، ومحاولة الحد من تدخل بلدان ثالثة في الشؤون الإقليمية، ومكافحة الاتجار بالبشر والمخدرات، وردع انتشار الثورات الداخلية. التغييرات الطفيفة ممكنة من المرجح أن يمر موقف روسيا تجاه سوريا وإيران - وإن سطحيا على الأقل - بتغيرات سلبية معينة. فبوتين من أنصار النظرية الشعبية، وسوف يحاول قطعا شحذ الدعم الداخلي من خلال التودد إلى القوميين وغيرهم من الغاضبين بشأن المسار الليبرالي لسياسة ميدفيديف الخارجية، وهو ما يشير إلى خطاب روسي أكثر عدوانية بشأن هذه المسائل. إلا أن هذا الخطاب موجه عادة إلى الجمهور المحلي ولا يؤثر على المبدأ الرئيسي للدبلوماسية الروسية، وهو: الجاهزية للمناقشة والتفاوض. ومن ثم سوف يعتمد النطاق الحقيقي لمدى التعاون الروسي في الشرق الأوسط على رغبة الغرب وقدرته على التفاوض حول المسائل الرئيسية. إن الضمانات الملائمة التي تحفظ مصالح روسيا في سوريا وإيران - إلى جانب اتباع منهج غير قائم على المواجهة عند إجراء الحوار - من المرجح أن يُحدث أكبر قدر من التأثير الإيجابي على موسكو. ________________________________ * نيكولاي كوجانوف زميل زائر بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. عمل ملحقا بسفارة روسيا في طهران في الفترة 2006—2009. والمقال نشر على موقع معهد واشنطن WashingtonInstitute.org، وهو الذراع البحثي للوبي الإسرائيلي بواشنطن (AIPAC).