كتبت المقولة التالية على صفحتى و أثارت الكثير من التعليقات التى نبهتنى لبعض النقاط التى أظنها ذات أهمية فى توضيح المقولة، ولفتت نظري إلى بعض المسائل التي تتعلق بمسألة الخروج على المعايير والأطر المنغلقة وما إلى ذلك. وقد يساء فهمى، خاصة في ظل الروح الثورية المسيطرة على الجو العام حاليا. لكن إثارة مثل هذه القضية قد يحول دون وقوع أخطاء تتمخض عن رد الفعل العنيف للاضطهاد والظلم والقمع والكبت الذى عشناه داخل "إطار" دكتاتورى قمعى نرجسى. قلت: "يظل الانسان قويا طالما ظل داخل أطر الدين والعرف والتقاليد المجتمعية التى لا تنافي فطرته، ولا تنفى ذاته وفرادته، حيث لا مفر للإنسان من الوجود داخل إطار يمده بالغائية والمعنى والوجود داخل إطار لا يستلزم بالضرورة نفي الذات والفرادة. فتمرد الإنسان وانفلاته أو خروجه عن هذه الأطر قد يوهمه بأنها مصادر أو تجليات للقوة. لكنه ضعيف لأنه لم يستطع المكوث داخلها. والدليل أنه عندما خرج عنها، خرج إلى العدم والفراغ أو كأنما خر من السماء أو ألقت به الريح في مكان سحيق، فيسقط فى شراك الشك والعبث، كمن وصل إلى القمر ثم لم يدرك ماذا ينبغي له أن يفعل؟ فلم يجد شيئا ولم يصنع شيئا. وظل يردد وهو في حالة من الابتهاج والسعادة، فيصدح بأعلى صوته: "فعلتها .. وصلت إلى القمر .. وصلت إلى القمر .. خرجت عن إطار العالم .. كسرت كل القيود .." وما أن يهدأ وينتبه لحاله، يجد نفسه في اللاشيء محاطا بلاشيء، لأنه خارج الإطار، أي يقف على هامش الوجود، فالمكوث في الهامش يعنى فقدان التوازن والصلة بالمتن أو النص أو المركز. وهو ما يعني أيضا فقدان المعنى، لأن المعنى في المتن. وما يوجد على الهامش ليس إلا مجرّد إشارات وملاحظات لا معنى لها ولا دلالة بدون النص أو المتن. وصل القمر لكنه وجد نفسه وحيدا شريدا عاريا .. ومن ثمّ "ضعيفا"! أنا أستعمل كلمة الأطر فى هذا السياق بمعناها المطلق، أي أن كل إنسان يحتاج لإطار دينى (أيا كان الدين الذى يعتنقه)، أو إطار مجتمعى له تقاليده وعاداته ومعاييره الخاصة (أيا كان المجتمع الذى ينتمى إليه) أو إطار حضاري تراكمي (بصرف النظر عن ماهية وجوهر تلك الحضارة)، والإطار في هذه الحالة يكون بمثابة مرجعية يلجأ إليها الإنسان، ويستمد منها العون والقوة والانتماء والذاكرة و"المعنى". إذاً تعدد الأطر ودوائر الوجود لا ينفى ولا يتناقض مع الفكرة المطروحة. المثال الذى سقتُهُ عن الوصول إلى القمر، أشير به إلى التقدم العلمى الرهيب الذى حققه الإنسان الحديث، وهو يحمل في طيَّاته تشبيها أو مجازا ضمنيا. فالوصول إلى القمر فى نماذجنا الإدراكية المعتادة يعنى إنجاز أمر لا يتسنى للكثيرين إنجازه. رافق التقدم العلمى الرهيب فى العصور الحديثة البعد عن الدين والهروب من إطار التقاليد، ومحاولة هدم كل مقدس وزعزعة كل بنيان راسخ، وهذا بدأ مع مذهب الشك الديكارتي، وتطور على يد "بيكون" و"ليبنتز"، حتى وصلنا إلى عصر الحداثة التى جعلت الإنسان مركز الكون واعتمدت العقل وحده لإدراك الحقائق الكونية، فكانت نزعة عقلانية علمانية (لا ربانية)، ووصلت ذروتها مع تيار ما بعد الحداثة بداية من منتصف الستينيات. وخلال هذه الفترة، كان التقدم العلمي يسير وفقا لمتتالية هندسية، و يقفز خطوات واسعة ومهبرة في ذات الوقت. هذا على الجانب العلمى الفيزيقى، لكن على الجانب الروحى والإنساني نرى دمارا واغترابا وتشاؤما وشكا في كل شئ وقلقا وافتقادا لليقين يهيمن على الإنسان، ذلك أن الإنسان حطّم كل الأطر التى كان يستمد منها القوّة، وخرج على جميع المعايير والتقاليد، و بذلك وجد نفسه غريبا في العالم خائفا قلقا ومن ثمّ ضعيفا. وربما هذا ماقصده ماكس فيبر ب"خسوء العالم" disenchantment of the World. عند النظر في النموذج الإسلامي، على سبيل المثال لا الحصر، سنجد أن الإسلام يأمر أتباعه بأن يحققوا التقدم العلمي والدنيوى في مختلف فروع العلم وأن يسبروا أغوار الحقائق والظواهر الطبيعية والإنسانية، ويُعمِلوا عقولهم فيها، وفقا لقاعدة: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا". أي لا حتمية ولا ضرورة لتحطيم كل الأطر، بل اعمل ما تعمل وأنت داخل منظومة وإطار يمدك بالغاية والقوة والمعنى.