تراجع سعر الريال السعودي في ختام التعاملات اليوم 29 سبتمبر 2025    الأسهم الأمريكية ترتفع مع انتعاش أسهم الذكاء الاصطناعي    وزير البترول يلتقي الإعلاميين ورؤساء تحرير الصحف والمواقع الإخبارية    غارات إسرائيلية تستهدف حفار في البقاع الغربي وصهريج مياه بالنبطية جنوبي لبنان    الجيش الأمريكي يؤكد نشر مسيرات من طراز «إم كيو-9 ريبر» في كوريا الجنوبية    شاهد غرفة ملابس الأهلي في استاد القاهرة قبل القمة    تعرف على موعد إجازة نصف العام لطلاب المدارس    منافس مصر بأمم إفريقيا، باتريس بوميل مديرا فنيا جديدا لمنتخب أنجولا    عندما يحكم الإسبان ديربي القاهرة.. سجل نتائج الأهلي والزمالك مع صافرة الليجا    توافد أعضاء وقيادات "حماة الوطن" للمشاركة في المؤتمر العام لاختيار رئيس الحزب    أحلام آخرهن، فنانات خضعن لعمليات تجميل في الأنف (صور)    رئيس جامعة بنها يشهد احتفالية يوم التميز العلمي بدورتها الحادية عشر    حبس 10 سائقين لقيادتهم سيارتهم تحت تأثير المخدرات بالبحيرة    تأجيل محاكمة متهم بإذاعة أخبار كاذبة والتحريض على العنف لجلسة 28 أكتوبر    القبض على المتهمين بحرق سيارة شقيقهما لخلافات أسرية في الصف    ضبط شقيقين قتلا عامل خردة في مشاجرة بالخانكة    نتائج بطولة السهم الفضي للقوس والسهم لموسم 2025-2026    أكرم القصاص: العلاقات المصرية الإماراتية مثالية وتؤكد وحدة الموقف العربى    كريم الشناوي: صوت منير هو روح حكاية فيلم ضي    خالد الجندي ب"لعلهم يفقهون": القتال في الإسلام للدفاع وليس للاعتداء    "الصحة" تستعرض تجربتها في المشروع القومي لكتابة تقارير الأشعة عن بعد    إسرائيل هيوم: الحرب المقبلة بين تل أبيب وطهران قد تكون أشد عنفا    محافظ أسوان: الزخم الثقافى والتراثى والفنى يبرز هوية المحافظة باحتفالات اليوم العالمى للسياحة    بينهم فدوى عابد.. عدد من نجوم الفن يشاهدون العرض اللبناني "جوجينج" بالهناجر    عروض القومي للسينما بالمكتبات المتنقلة احتفالًا بنصر أكتوبر المجيد    مارجريت صاروفيم: التضامن تسعى لتمكين كل فئات المجتمع بكرامة    ماكرون يرحب بفوز حزب مؤيدي أوروبا في انتخابات مولدوفا    صيدلة الجامعة الألمانية تنظم المؤتمر الرابع GEPPMA في الطب الشخصي والصحة الدقيقة    في جولة مفاجئة.. وكيل صحة شمال سيناء يتفقد المركز الحضري بالعريش    بسبب سد النهضة.. عباش شراقي يكشف تطورات جديدة بشأن فيضان السودان الكبير    محافظ شمال سيناء يكشف سبل تعويض المتضررين من توسعة ميناء العريش البحري    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29 سبتمبر 2025 في محافظة قنا    أسعار الحديد فى أسيوط اليوم الإثنين 2992025    معهد بحوث الإلكترونيات أول مؤسسة مصرية تحصل على شهادة إدارة الذكاء الاصطناعي ISO/IEC    أكاديمية الفنون: عودة مهرجان مسرح العرائس لمواجهة الألعاب الإلكترونية    السعيد:تعزيز علاقات التعاون فى المجالات البحثية والأكاديمية بين جامعتي القاهرة ونورث إيست الصينية    وزير الري يتابع إجراءات تطوير الواجهات النيلية بالمحافظات    مواقيت الصلاة فى أسيوط اليوم الإثنين 2992025    عاجل- الإفتاء توضح حكم ممارسة كرة القدم ومشاهدتها وتشجيع الفرق    موعد مباراة الدحيل ضد الأهلي السعودي اليوم والقنوات الناقلة    صلاح سليمان: الزمالك يملك حلول أكثر في القمة وغياب جراديشار لن يؤثر على الأهلي    عاجل- قوات الاحتلال تقتحم قرية جنوب طولكرم وتداهم المنازل وتعتقل الفلسطينيين    أبرزهم القهوة والكاكاو.. 7 مشروبات مفيدة للقلب في يومه العالمي    حالة الطقس في السعودية اليوم الاثنين 29-9-2025 ونشاط الرياح المثيرة للغبار    التشكيل الأهلي السعودي المتوقع أمام الدحيل القطري بدوري أبطال آسيا للنخبة    مجلس الوزراء : قفزة قياسية فى تحويلات المصريين بالخارج تعزز استقرار الاحتياطيات الدولية    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 في مصر للقطاعين العام والخاص.. هل تم تحديده رسميًا؟    الدنمارك تحظر رحلات الطائرات المدنية المسيرة قبل قمة الاتحاد الأوروبى فى كوبنهاجن    فعاليات مشتركة بين السياحة والشباب والرياضة بأسيوط لتعزيز الوعى السياحى    تشكيل الهلال المتوقع لمواجهة ناساف في دوري أبطال آسيا    الصحة: 5500 متبرع بالدم خلال 4 أيام لدعم مرضى سرطان الدم ضمن الحملة القومية    صحة غزة: 361 من الطواقم الطبية مُغيبون قسرًا في معتقلات الاحتلال    الحوثيون يعلنون تنفيذ عمليات نوعية على أهداف للاحتلال    الأزهر للفتوى قبل لقاء القمة : التعصب الرياضي والسب حرام شرعا    «الداخلية» تنفي مزاعم إضراب نزلاء أحد مراكز الإصلاح: «أكاذيب إخوانية»    موعد إجازة نصف العام لطلاب المدارس تبدأ 24 يناير وتنتهى 5 فبراير 2026    مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 29-9-2025 في محافظة الدقهلية    الأربعاء.. مجلس النواب يبحث اعتراض رئيس الجمهورية على قانون الإجراءات الجنائية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رياح الإصلاح الديمقراطي تهب علي العالم العربي
نشر في القاهرة يوم 15 - 03 - 2011

عبر عقدين من الزمن تقريبا، يقول لنا الثقاة من المفكرين العرب إن الدول العربية تمر بمرحلة انتقالية من السلطوية إلي الليبرالية ،حيث يجري التفكير علي عدة مستويات بحثا عن النموذج "الديمقراطي " الذي يناسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية . وعلي الرغم من تعدد التجارب العربية، ابتعادا أواقترابا من " النموذج الديمقراطي "، فإنه علي المستوي النظري، ثمة إشكالات لاتزال بعيدة أو مستبعدة عن مجالات النقاش والجدل في عمق المشروع السياسي العربي الديمقراطي، هذا، علي الرغم من حيوية هذه الإشكالات، وأهميتها بالنسبة لمصير العملية السياسية العربية برمتها . ولا شك أنه في مقدمة الموضوعات التي تحتاج إلي معالجات أكثر صراحة وموضوعية هي مسألة " إطار السلطة في الأنظمة السياسية العربية "، وكيف يؤدي واقع هذه السلطة إلي إعادة انتاج عملية التسلُط، واستمرار النخب القادرة علي مواكبة السلطة بحالتها . كما أن هناك أيضا حاجة ماسة إلي بحث الأسانيد الفكرية للفكر السياسي الديمقراطي في السياق العربي، والأدوات التي يتم ابتداعها عربيا لتطوير أو ابداع ما يمكن أن يعتبر "نموذجا للمشروع الديمقراطي العربي " . ومن الثابت في إطار التجربة السياسية العربية أنه، عندما يتم معاينة الديمقراطية ومباشرتها، فإن التعاطي معها يجري كممارسة آداتية، وذلك علي حساب كونها "فلسفة " تنطوي علي رؤية للانسان، والتاريخ، والمعرفة، الأمر الذي يجعلنا نمارس نوعا من الديمقراطية "المبتسرة ،" والمفصولة عن مرجعيتها التاريخية، مما ينتج عنه إفقار للتجربة السياسية العربية ، وحرمانها من مراكمة الخبرات القادرة علي تجديدها، وإصلاحها، وإثراء مضمونها، في إطار ثقافة سياسية عربية متجددة . نحو تشخيص تقريبي للحالة العربية يحضرني في البداية مقولة للمفكر والروائي العالمي "جوزيه ساراماجو " يري من خلالها أننا نعيش في عصر يمكننا أن نناقش فيه كل شئ ، ولكن، وبغرابة شديدة، ثمة موضوع واحد لا نستطيع أن نناقشه، وهو " الديمقراطية "، ورغم ذلك، يقول ساراماجو ، "فليس من الطبيعي أن نتوقف عن أن نسأل : ما جدوي الديمقراطية ؟ ولخدمة من تعمل الديمقراطية ؟ أهي تشبه السيدة العذراء مريم لا يجروء أحد علي المساس بها ؟ " وفي واقعنا العربي الراهن، ثمة " بحث " دائب عن الديمقراطية، وسعي حثيث لتمثُلها، وإذا كان الحديث بصيغة الإجماع مخاطرة، إلا أننا نتجاسر هنا بمقولة مؤداها إن ثمة مايشبه الإجماع علي أننا كعرب، نعيش في مرحلة بحث عميق من أجل تأسيس " رؤية سياسية عربية " تقوم علي الحرية بالمعني المعروف في الديمقراطيات الحديثة . وإذا سلمنا مبدئيا بأن هذه المهمة التأسيسية أضحت في صدارة مهمات الفكر السياسي العربي، في مرحلتنا الحالية، فإن ذلك يقتضي منا أيضا الاعتراف بجسامة هذا العبء في ظل ظرف تاريخي، تضافرت فيه عدة ظواهر معقدة ومتداخلة ، في مقدمتها : سقوط النظم الشمولية علي النطاق العالمي، وصعود الأصولية الإسلامية بصيغتها المعولمة ، واعتبار القضية الديمقراطية واحدة من مقتضيات فرض الهيمنة الأمريكية علي العالم . في غمار هذا التداخل، ومع الأخذ في الاعتبار المضمون البائس للتجربة السياسية للديمقراطية العربية، وما لحقها من آثار وافدة من الخارج، يمكن القول إن ثمة استنتاجا تم التوصل إليه وهو أن التحدي الرئيسي الذي تعجز عن تحقيقه الحركة السياسية العربية هو بلورة نموذجها الممكن لتأسيس "دولة القانون العلمانية " باعتبارها قاعدة الكيان السياسي المدافع عن التعددية السياسية والفكرية والدينية، وكإطار شامل لصيانة حقوق الإنسان . وكما يقول " هاينر بلافيلد " مدير معهد حقوق الإنسان في برلين، وأستاذ الفلسفة بجامعة بريمن في معرض توضيحه للعلاقة بين حقوق الإنسان والنظام السياسي " إن حقوق الإنسان في هذا الإطار، لاتمثل فقط حاجزا لسلطة الدولة، وإنما تقوم كأساس لأي تجمع إنساني "، بمعني، أن النظام القانوني لحقوق الإنسان، كما يمثل حاجزا لسلطة الدولة، فإنه هو عينه الأساس الذي تقوم عليه " شرعية "النظام القانوني للدولة . ويبقي السؤال : هل تتوافر في الحالة العربية الأسس والبنية التي تساعد وتساهم في الوصول إلي " دولة القانون العلمانية " باعتبارها النموذج الوحيد القادر علي انتشال العرب من هوة التخلف والاستبداد ؟ ثمة حالة عربية، بمواصفات خاصة، سواء تعلق الأمر بالمعاني المعرفية للدستور، أوالدولة، أوالحزب، أوالمواطن ،وأيضا المجتمع، والمؤسسة، والقائد . فالدستورية العربية لا تجسد حالة عقلانية خالقة للالتزام، والحقوقية، والحصانة الطبيعية للحيز الموصوف بالسياسي، ذلك أن الدستورية العربية هي أصلا " احتفالية عطاء " من جانب السلطة، يتم تخليقها كبيانات علوية، تنسجم مع الهوي السلطوي، ولا تعادي بحال من الأحوال مادة السلطة المبنية علي علاقات القربي جذريا . وفي ظل هذه " الدستورية المفترضة " لاتساعد الحالة السكونية المستندة علي الدستور ،علي تشكيل وفاعلية قوي بديلة متفاعلة، تعادل القوي المهيمنة، ومن ثمة تسود الحالة التي يسميها " كارل بوبر " (مساواة القوي المتضادة) وبالتالي يستمر الحال علي ما هو عليه، بدون تغيير، وفي النتيجة المتحصلة، فليس ثمة حيز سياسي بالمعني المعرفي، ولاإمكانية لتوافر قدرات حية تدرك نواقص المجتمع، ولا مساحة كافية لممارسة إرادة المواطنية، ولا حركة تواصلية يمارسها المواطنون مع بعضهم البعض، لتبدو الصورة العامة للمجتمع وكأنه قد توقف عن التفكير، والحركة، والتواصل . وهكذا يعالج " سامي داود " الحالة التعاقدية في النطاق العربي، ويعتبر أنه " ليس ثمة تعاقدات سياسية في المجال السياسي سوي تعاقد الإذعان بين الكتلة الشعبية وقائمة الشروط السلطوية ... " . وطالما أن الافتراضات الرئيسية السائدة تقوم علي الواحدية، والتشابه إلي حد التطابق، والتجانس القسري، فليس ثمة تنازع طبيعي للإرادات تحتويه البنية الاجتماعية الطبيعية، فحالة التجانس أبدية ولا تفترض أو لا تسمح بممارسة النمو، والتغيير، والتبديل، والتعديل، باعتبارها تقنيات تفترضها الصيرورة الزمنية، وهكذا، تشرعن الحالة الدستورية " سكونية الحالة السلطوية " وحصانتها، ولا يبقي أمام المواطن سوي " أن يتلاشي في قفص الدولة " . في هذا السياق اللاسياسي، تتخلق ذرائع عنف شكلية، تنطوي علي مضامين متداخلة، وغير سوية علي الإطلاق، وتفيض الحالة العنفية عن نطاق الحالة المؤسسية، وحسب "سامي داود " ، مع هيمنة مؤسسة السلطة، ليس ثمة اعتراف بمؤسسات أخري، تعتمد عليها ديناميكية المجتمع . وهنا أيضا، نبحث عبثا عما يمكن وصفه بالسياسي، أوالقانوني، حتي نصل إلي السؤال الحرج : أين الدولة ؟ إن الحالة الدستورية شرعنت صراحة، وضمنا، هالة سلطوية لمن هو علي قمة السلطة أقرب للتأليه، وحولته إلي رمز مقدس تحاك حوله أساطير القدرات اللانهائية، والصلاحيات المرسومة عمدا لموافقة الهيمنة الأبدية . إن الفرصة الحقيقية التي أضاعتها الصيرورة الاجتماعية والسياسية في السياق العربي هي الفشل في بناء دولة القانون العلمانية العربية، التي كان من شأنها الارتقاء بالانسان العربي إلي الآفاق الأخلاقية العليا، والتي كان من شأنها أيضا استكمال قدراته الشخصية . فالدولة العربية، في جوهرها، هي كائن "أمني مخابراتي " منتشر في بنية المجتمع، تمكن عبر تقنيات مادية ومعنوية، وتقنية الزينة الحزبية المفتعلة، والديكورية ، من نشر كراهية المجتمع للمجتمع، كإنجاز وواجب متواصل " فاختفت أبعاد الدولة الحقيقية المتمثلة في إدارة وتسيير الكل الاجتماعي " . وفي جوهر رؤيتنا، سنلاحظ أنه علي مدي العقود الثلاثة الأخيرة، باتت السلطة في الدولة العربية فعلا في عهدة " أجهزة الأمن والاستخبارات وقياداتها " إلي حد دفع الباحث " سعد محيو " إلي اعتبار هذه الأجهزة طبقة في ذاتها، أو أنها تمارس مايشبه دور الطبقة، ولنجد أننا أمام " كتلة تاريخية " عربية حاكمة تتشكل من ائتلاف أجهزة الأمن والاستخبارات، والمؤسسة العسكرية، ورجال الأعمال الجدد، وفي سياق شرعية مخلّقة ومزيفة، تقوم أساسا علي إرعاب وتخويف المواطن العربي . وفي المحصلة، ثمة تصنيفة سياسية عربية فريدة من نوعها، من دولة الحزب الواحد، والرجل الواحد (مصر العراق الجزائر ليبيا)، إلي دولة الأنظمة التقليدية العشيرية (دول الخليج العربي) وصولا إلي أنظمة ليبرالية زائفة (لبنان تونس) وملكية شبه دستورية (المغرب الأردن)، وفي أفضل التوصيفات المطروحة، وصفت مصر بأنها ديمقراطية انتخابية، ووصفت لبنان بأنها نظام تنافسي، واعتبرت الجزائر والأردن والمغرب وتونس بأنها أنظمة شبه تنافسية، ولم يصنف بلد عربي واحد بالديمقراطية وفقا للمعايير المعروفة في الديمقراطيات الغربية . وبالنتيجة، فليس حتي الآن ثمة ديمقراطية عربية، وحتي الآن فإن مفاهيم مثل الحرية، والشوري، والعدل، والمساواة، بعيدة عن الواقع العربي الملموس . في البحث عن ديمقراطية عربية حديث في الإمكانية هكذا يواجهنا العربي صديقي في كتابه، باحثا عن أسس يتم وفقا لها الحديث عن "الإمكانية الديمقراطية في السياق العربي " . هذه الإمكانية ترتكز وفقا لهذه المنهاجية علي أساس أن هناك محاولات تتعلق بإعادة النظر في الديمقراطية، وهناك محاولات أخري لإعادة النظر داخل الفكرة الإسلامية، وبناء علي ذلك يمكن التوفيق بين الديمقراطية والإسلام، وفقا لهذه الفكرة علي الوجه التالي : 1 - إن الديمقراطية نفسها، كنظرية سياسية تخضع لمراجعات وإعادة تفكير في سياق دعوات لديمقراطية أفضل (في سياق الفكر الغربي) ، أو ديمقراطية أخري، وذلك في إطار معالجة نقائص الديمقراطية الراهنة، وإعادة صوغ المثل الديمقراطي، وبالطبع، فإن أفضل من يعرف عيوب الديمقراطية الراهنة هم الذين طبقوها فعلا، أي الديمقراطيات التي تطورت بعد الحرب العالمية الثانية، ويتم مباشرة إعادة التفكير في الديمقراطية في ضوء معالجات أزمات الحكم في المجتمعات الصناعية، وما بعد الصناعية، ويركز العربي صديقي علي محاولات مفكرين بارزين منهم " بريزفورسكي وآخرون " في "ديمقراطية مستدامة"، و جون إلستر في " ديمقراطية خطابية ". غير أن إعادة التفكير في النظرية الديمقراطية عالميا، له جوانب إيجابية بالنسبة للساعين إليها من خارج أهلها الأصليين، بل إن اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم تموج بتغيرات تحرر الديمقراطية نفسها من قيد الانتساب إلي حضارة بعينها . وتفسير ذلك، أن الحداثة الغربية، بعد أن أتمت دورة كاملة، ودخلت في مرحلة اللايقين، وفي ظل لحظة ثورية تاريخية، يتأتي التحرر من الثلاثية الحتمية، أي التحرر من المركزية الأوروبية، والتحرر من المركزية الذكورية، والتحرر من المركزية الإثنية . وهكذا، تقدم اللحظة الراهنة فرصة سانحة لإلغاء المركزية، وتواصل عمليات النقد الذاتي، في ظل فضاء ُيتناظر فيه وحوله، بما يسمح بالنظر في الديمقراطية في فضاءات مختلفة، ومتنوعة، وحضارات مختلفة أيضا . إن إعادة التفكير في الديمقراطية يرتكز علي حقائق ووقائع تاريخية ثابتة، فديمقراطية المدينة الدولة في أثينا، حيث كان يجتمع نحو 5000 شخص في ساحة المدينة للمناقشة حول شئونهم، ليست هي ديمقراطية الولايات المتحدة وأوروبا حاليا، حيث تجسد النموذج الغربي في ديمقراطيات تمثيلية . وعلي نفس المنوال يستلهم العربي صديقي نفس الفكرة معتبرا أن اقتباس الديمقراطية من بيئتها الغربية، وإعادة استنباتها في البيئة العربية والإسلامية، يستوجب الاعتراف بأثر الزمان والمكان والثقافة واللغة، بل وأيضا حدود التكنولوجيا، وتأثير الانترنت، وما يقال عن ديمقراطيات إجرائية، والمهم هنا التركيز علي عناصر التغيير، التي تتحدي عناصر الثبات . وبناء عليه، تكون الديمقراطية ليست حكرا علي الحضارة الغربية، وهي تقبل إعادة التأسيس في بيئة عربية وإسلامية، لأنها (أي الديمقراطية) تقبل التطور، والنمو، والتحول، وتحدي الجمود . 2- علي صعيد العالم الإسلامي، ثمة حركة أو حركات لإعادة التفكير داخل الإسلام، وتيارات تجديدية، ودعوة لاستلهامات إسلامية مختلفة في عالم متغير، وصراعات إسلامية تثير أفكارا مختلفة، وقد ذكر حسن الترابي أن الإسلام أظهر قدرة لامثيل لها علي التجدد علي مدي أربعة عشر قرنا من الزمن، لكن التجدد في الإسلام يعتمد
دائما علي قدرة المسلمين علي التفكير من جديد، ومواصلة التفكير، وإعادة التفكير، وعدم التخلي عن التفكير . إن ظواهر الإحيائية الدينية الممتدة تشمل إعادة الدلالات الدينية إلي أنظمة الحكم، سياسيا واقتصاديا، وهي عملية تشمل الكنيسة الإنجيلية، واللاهوت الليبرالي، وصولا إلي الحركات الإسلامية التي نعاصرها . وبالنسبة للانبعاث الديني الإسلامي علي وجه التحديد، نتفق مع التعريف الذي قدمه من قبل ايمانويل سيفان بأنه " إعادة توليد واضحة للثقافة، وتجديد عميق للتدين، واستغلال سياسي للمصطلحات الإسلامية، التي تستخدمها لتعزيز شرعيتها، وتقوية سلطتها، واستخدام الدين من قبل المعارضة السياسية التي غالبا ما لايترك لها وسيلة للتعبير . 3 - وهكذا، تتزامن عمليات إعادة التفكير في الديمقراطية، مع إعادة التفكير في الإسلام " ليقدم هذا التقاطع بين التناظر وإعادة التفكير إلي المحيط العربي الإسلامي، خيارا لم يكن متوافرا سابقا، لتحقيق الحكم الصالح في العالم العربي، فطالما أنه يمكن القول إن هناك ديمقراطيات لاديمقراطية واحدة، وإن هناك إسلامات لاإسلامية واحدة، فهناك فرصة للعثور علي ديمقراطية عربية . ويبقي السؤال، كيف يتم فهم الديمقراطية في السياق العربي؟ هل يتم فهم الديمقراطية وفقا لمفهوم النظم والنخب الحاكمة؟ أم وفقا لهياكل التنظير الأكاديمية؟ أم يجري فهم الديمقراطية وفقا لمفهوم الشعوب العربية؟ إن الرد علي هذا السؤال لابد أن يكون هو نفسه ديمقراطيا، بمعني، إن الديمقراطية في اللحظة الراهنة تحظي بجاذبية لدي كل شعوب الدنيا، والشعوب العربية ليست استثناء في هذا الصدد، ويجري النظر عموما للديمقراطية علي أنها سبيل للتحرر، أي التحرر من الخوف، أي الخوف من مختلف التهديدات، الخوف من الجوع، والخوف من الحرمان الاقتصادي، والحرمان من التصويت، والحرمان من العدل . فالشعوب العربية تتفهم الديمقراطية حاليا من خلال ربطها مباشرة بنوعية الحياة، أي بمستويات المعيشة التي تتطلع إليها، وتمكين الدولة من اكتساب مهارات أفضل لخدمة شعبها، وتمكين السلطة من تطبيق مبدأ المساواة والعدل علي المواطنين . ولا يمكن القول إن الشعوب العربية ليست متوافقة مع التاريخ، فهاهي الفضائيات تملأ السماوات العربية، ولدي المواطنين العرب ملايين الهواتف المحمولة، وينتشر الانترنت في كل مدن العرب وصحراواتها، ويموج العالم شرقه وغربه بأوسع موجات هجرة الملايين من المواطنين العرب، ولدي الدول العربية صلات وثيقة بالاقتصاد العالمي، وتتفاعل ثقافات العالم مع الثقافة العربية والإسلامية، وبما يتجاوز النطاق العربي، ويجري تفاعل الأفكار والمثل والاستراتيجيات الخاصة والمجتمع والهويات والسلطة علي مستوي العالم . الديمقراطية والتحديث السياسي (العربي) يعرف " التحديث " بأنه العملية التي تتكيف بموجبها المؤسسات المتطورة تاريخيا مع الوظائف المتغيرة بسرعة والتي تعكس الزيادة غير المسبوقة في معارف الإنسان التي صاحبت الثورة العلمية بما يسمح له بالسيطرة علي بيئته. وليست قصة التحديث في الإطار العربي ضمن نماذج النجاح الشامل بحال من الأحوال، سواء تحدثنا عن تجربة محمد علي في مصر (1805 1848) أو تجربة أحمد بيه في تونس (1837 1865)، حيث جاءت النتائج معاكسة لأهداف التنمية ،مما أدي إلي تعميق علاقات التبعية، بدلا من الاستقلال. وليس ثمة تناقضات بين تعثر عمليات التحديث في السياق العربي، وضياع بوصلة التوصل إلي نموذج سياسي عربي أكثر صلاحية، وأكثر عقلانية علي درب الأهداف الديمقراطية، ذلك أن غالبية الرؤي الثقافية المتعمقة تستلهم أسس النظام السياسي الصالح من مقومات المجتمع الصالح، ومن ثمة، يتبلور التحديث السياسي من خلال بناء الهيكلية السياسية (بنية وبناء الدولة، والثقافة السياسية) . هنا أيضا نجد أن العربي صديقي يفتح لنا "أبواب الفرص الممكنة " في التحول الديمقراطي العربي . فالمجتمعات العربية ليست ذات لون واحد، بل هي مزيج يتوافر علي درجة من التجانس بين التقليدية والحداثة، وهي مجتمعات صناعية، وزراعية، وهي كمجتمعات تقليدية، لم تكن ساكنة في يوم من الأيام، بل كانت دوما تتعرض لعوامل التغيير، والتنوع، ولا نغفل هنا أن عملية التحديث نفسها تتضمن نوعا من التعايش بين الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة، والتحديث نفسه، ما هو إلا سلسلة من التقريبات في السياسة والفن والدين، وكما يقول روستو " تبقي الحداثة مرتبطة بالتقاليد في كل مرحلة " . وفي غمار هذه الحركية، يبقي سؤال العلمنة هو الأكثر حرجا، فالاندفاعة العربية للعلمنة الشاملة، كانت بحق سيئة التخطيط، " وثمة شكوك فيما إذا كان يمكن تحقيق العلمنة التي تقودها النخب الحاكمة في المحيط العربي والإسلامي، عندما ينتشر التدين الإسلامي، والمفردات الإسلامية في اللغة اليومية، وتتغلغل الشعارات والرموز والاصطلاحات والاستعارات الإسلامية في نظام الحكم، والمجتمع، والاقتصاد، والثقافة .. " غير أننا- هنا أيضا- مطالبون بمراجعة أفكارنا وأفكار الآخرين حول العلمنة، ومضمونها، وأهدافها، فليس ثمة علمنة راشدة دوما، وفي سياق المسألة الديمقراطية العربية، نواجه التساؤلات حول : كيف تناسب الطبيعة العضوية المتأصلة في الإسلام متطلبات التحديث للمفاضلة بين الدين والدولة، بين العبادات والمعاملات، وبين نصوص الوحي الديني التي لا تتبدل، والشروط والوقائع المتغيرة علي الدوام، وبين الشريعة والحاجة إلي قانون إنساني إيجابي ؟ ويوفر لنا هيدسون بعض الأفكار الإرشادية حينما يؤكد أن الإسلام لايزال بإمكانه أن يلعب دورا في النظام السياسي الحديث، وليس من البديهي أن نظام الحكم الذي يستمد التوجيه من المبادئ الدينية الإسلامية لايتوافق مع الظروف الاجتماعية الاقتصادية المعاصرة، والسؤال الذي يجب طرحه ليس هو السؤال الانقسامي علي نحو خاطئ : هل يتوافق الإسلام مع التنمية السياسية ؟ وإنما السؤال الصحيح هو : ما مقدار توافق الإسلام مع التنمية السياسية في العالم الإسلامي ؟ وما أنواع الإسلام المتوافقة معها ؟ ويبقي الاستنتاج صحيحا بأن " مرونة الإسلام حقيقة واقعة، وأن التحديث يجعل من القوة الاجتماعية التقليدية شيئا ملموسا، وليس ثمة تنافر بين الإسلام والتحديث " . بعد حديث الإمكانية .. ملامح المشهد الراهن تبدو الساحة العربية وكأنها تشهد حالة صراعية علي المستويين السياسي والاجتماعي بين الأطراف الرئيسية والتي تتمثل في الدولة السلطوية، والتيار الأصولي، ومجموعة المثقفين العلمانيين . غير أننا بنظرة أكثر عمقا يمكننا الاستشفاف بأن هذه الحالة الصراعية البادية علي سطح الحياة العربية ماهي في حقيقة الأمر سوي " القشرة الخارجية" التي تخفي تحتها آليات الاستمرار التي تضمن إبقاء التوازنات القائمة علي ما هي عليه، بدون تغيير في ثوابت الحالة العربية المزمنة، وهذه الآليات تتمثل في : 1- التحالفات " الضمنية " بين الأطراف الرئيسية . 2 - التعامل "المزدوج" مع قضايا العصر . وتفصيل ذلك يتمثل في المسار الذي يقدمه لنا الكاتب "هشام بن عبد الله العلوي " برؤية شاملة علي النحو التالي : 1 - علي المستوي الثقافي العام، نلاحظ سيادة قراءة صارمة للنصوص الدينية، بحيث أصبحت الصيغة المتشددة للإسلام داخلة ضمن الهوية العربية، بما يؤدي إلي اتساع مساحة الممنوعات والواجبات، وتضييق الحيز الثقافي العربي إلي حدود الحيز الديني في صيغته المتشددة، ولتتم محاصرة النطاق الدنيوي للثقافة العربية. 2 - علي مستوي التعامل مع الحاضر، نلاحظ سيادة حالة من الانفصام الشخصي والنفسي في العلاقة مع معطيات العصر الثقافية، فالدولة سمحت للشعب باستهلاك المنتجات الثقافية (الإعلام، الانترنت، المهرجانات الثقافية، منتجات الفن الحديث، شركات ترفيه، ابداعات موسيقية ، الكتب، الإفلام، المدونات الإلكترونية ... إلخ) لكن بشرط ألا يترتب علي ذلك أية تغيرات سياسية أو اجتماعية تؤدي إلي علمنة المجتمع، وإشاعة الفكرة الديمقراطية في الممارسات المجتمعية، لذلك، فقد ساهمت الدولة مساهمة مباشرة في إبقاء المناخ الثقافي العام رهنا بالطابع الديني حفاظا علي الهوية الإسلامية، والمعايير الاجتماعية في إطار الدين . 3- وعلي نفس المنوال، استوعبت التيارات والحركات الأصولية تماما منتجات الثقافة المعولمة، كالانترنت، وأحسنت استخدامها لخدمة أهدافها، لكن بشرط أن تبقي هذه الممارسات في إطار " الخطيئة السرية " وفي نطاق الحيز الخاص . 4- في عدة دول عربية، نلاحظ نزعات لإحلال التضامن المذهبي والطائفي محل آليات الدولة الحديثة، وهياكلها، ونظامها، وإدارتها، فيما يوصف بأنه حالة عربية مزمنة، ننفرد بها، للعودة إلي ماقبل الدولة الحديثة . لقد حرصت كل الأطراف المعنية علي استمرار الصيغة الحالية "للدولة " العربية. فمثلا، سعت الدولة للتكيف مع التيارات الإسلامية المعتدلة والتي يقوم برنامجها علي التعبئة لنشر التقوي في المجتمعات العربية، ليقتصر دور الدولة في هذه الحالة علي معارضة ومنع الإجراءات الدينية المتطرفة (رجم الرجال والنساء بسبب جريمة الزني) فالدولة، وهي تعزز علاقاتها السرية أحيانا مع القيمين الرسميين علي الإسلام، لاتمانع من فرض الطابع السلفي علي المعايير الاجتماعية العامة، بمعني أولوية السلفية كنموذج اجتماعي، لذلك فإن الأصوليين يلتمسون الحظوة لدي النظام، ولا يصرون بحال من الأحوال علي إصلاحه . أما عن دور المثقفين الذين يطالبون بالإصلاحات الديمقراطية، فإنهم بدورهم يحافظون علي " الدولة " في مواجهة علماء الدين، والأصوليين، ومن ثمة نري هؤلاء المثقفين يدافعون عن الحكومة، حتي وهي سلطوية، بدعوي أنها أقل خطرا من حكم المتشددين، لأنها علي الأقل تسمح عموما بهامش من الحرية الثقافية، وليبق الأمر، في التحليل النهائي، علي ماهو عليه . فالدولة العربية، في حقيقتها الراهنة هي " معبود " كل الأطراف ، للخلاص، أو لحماية الشريعة، أو استلهام النموذج الديمقراطي المفترض وهما، وليجري " النزال " حولها خارج حدود السلطة الفعلية، فلا هي دولة إسلامية تطبق الشريعة كاملة، ولا هي دولة علمانية تلتزم بالحياد تجاه الدين .

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.