عودتي إلى مانشستر هذه المرة هو عودة مميزة حيث تأتي في ختام أشهر طويلة من العمل البحثي الميداني في مصر تخللته معايشتي لتجربة الثورة بكل ما فيها، وفي هذه اللحظات وأنا على وشك أن أبدأ تلك المهمة الصعبة التي تنتظرني لوضع تلك الكميات الرهيبة من المعلومات التي جمعتها خلال تلك الفترة على الورق في شكل يمكن لمن يقرأه أن يفهم منه أي شيء سواء عن موضوع بحثي أو عن حال مصر في الفترة التي صاحبت العمل في هذا البحث أستطيع أن ألخص أبرز انطباعاتي عن مصر التي أتركها الآن مغادرا في المشاهدات التالية التي تكاد تصل من شدة ما تبدت لي إلى مرتبة الحقائق في تصوري: أولا، وبدون مقدمات.. الشعب المصري بشكل عام يعاني من كارثة استشراء فاحش لجهل مدقع وفاضح وبالغ تمكن من قتل كامل لقاعدة الوعي السياسي والاجتماعي في البلاد، بل إنه نجح في أحوال كثيرة أن يقتل بعضا من ملكات التمييز الإنساني التي يكتسبها الإنسان بالفطرة عند مولده، وإن هذه الملاحظة بذلك القدر من التجرد لهي الحقيقة رغم كل ما يقال منذ اندلاع الثورة عن شعب واع ناضج فاهم نزل إلى الشوارع في ثورة سلمية لإسقاط النظام، فلا الشعب واع إلا بحاجاته الشخصية، ولا هو ناضج إلا كثمرة تُركت دون قطاف فنضجت حتى كادت تفسد، ولا هو يملك من الفهم ما يكفيه إلا ليؤَمن مصالحه الوقتية الآنية، وكان هذا بالتحديد هو ما حدث في الأيام الأولى للثورة، فقد وجدت الغالبية الساحقة من الناس أن هناك من هم مستعدون ليحاربوا معركتهم وليتصدوا بصدورهم العارية لنظام قتلهم وشردهم وجوعهم، فوقفوا مع الثورة مؤقتا طالما أنهم لا يدفعون في ذلك ثمنا، فلا هم يُقتلون ولا هم يسحلون ولا هم يبيتون لياليهم في الخيام، أما بعد ذلك عندما قدم البعض لهم ما يدل على أنهم سيدفعون ثمنا للثورة إن هم استمروا فيها حتى النهاية، ما فتئوا – إلا بعضا ممن رحم ربك – أن عادوا بسرعة إلى سيرتهم الأولى بالنظر تحت قدامهم فقط، فسحبوا دعمهم للثورة بنفس السرعة التي أعطوها إياه، وإن سمحوا لأنفسهم بأن يستفيدوا من كثير مما صنعته الثورة بداية من رفع المعاشات ونهاية بممارسة شكل من أشكال الديمقراطية الانتخابية، والذنب في كل هذا ليس ذنب الشعب، ولكن تلك الملاحظة عمن هو المذنب هي في النهاية لا تغير من الواقع شيئا، فالواقع أن الشعب جاهل، والحقيقة أن جهله – أيا كان من تسبب فيه – يجعله يقود نفسه إلى مسالك التهلكة على تنوعها، فالشعب طائفي ويصدق الشائعات والأكاذيب، ويتبع حلو الكلام ولو كان سذاجة بينة، ويحب جلاديه، ويكره من يدافع عن حقوقه، ويؤمن بنظرية المؤامرات في كل أمر ولا يستوعب النظام ولا يزال يؤمن بالخرافات ويمارس الرذائل ويرفض التغيير ويكفر الحرية، ويحتقر المرأة والمعاق والفقير والضعيف، وتلك أمور لا تخفى إلا على من عمت منه البصيرة كما البصر. الحقيقة الثانية هي أن السبب الرئيسي في ذلك الوضع الحالي لأغلبية الشعب المصري هو علاقة الشعب بالدين (وليس الدين نفسه)، فعندما ينهار التعليم في بلد من البلدان تلجأ الشعوب إلى بدائل كثيرة لتكوين شخصيتها وتركيبتها الثقافية فربما يكون للإعلام دور وللثقافة الشعبية دور وللفن دور وللميراث الحضاري دور وللدين دور، أما في مصر فالوضع الخاص الذي يحظى به الدين في المجتمع يعني أن في غياب تعليم فعال ومؤثر تتم تنحية الإعلام والثقافة الشعبية والفن وكل شيء آخر جانبا لتبقى الساحة خالية تماما أمام هؤلاء الذين يستطيعون أن يبسطوا نفوذهم على مفاتيح التحكم في الثقافة الدينية للشعب، ولا أقول في المؤسسات الدينية، فحتى المؤسسات الدينية لا حول ولا قوة لها أمام الثقافة الدينية الشعبية عند المصريين، فالصحيح والثابت أن خطب الجمعة والقنوات الدينية وتسجيلات الوعاظ وما يأتي به كل ذلك من مفاهيم وعادات وتقاليد وقناعات اجتماعية وسياسية واقتصادية هي الأقوى والأمضى من أي شيء آخر في مصر مهما كان ومهما علا شأنه سواء كان شخصا كالدكتور محمد غنيم أو فكرة كالثورة أو مؤسسة كالأزهر.. كل هؤلاء وإن اتحدوا على راي واحد سيسقطون أمام سلطان الخطاب الديني وقوة نفوذه. الحقيقة الثالثة أن الغالبية الساحقة ممن يسمون أنفسهم بالنخبة السياسية في مصر إما أنهم منفصلون عن الواقع بالشكل الذي يجعلهم غير قادرين على إدارك الحقيقتين السابقتين ناهيك عن امتلاك تصور من أي نوع للتعامل معهما، وإما أنهم يدركون تلك الحقيقتين تمام الإدراك ولكنهم لا يملكون أسباب مواجهتهما أو الجرأة على الاعتراف بهما والتصدي لما قد يجره الاعتراف بهما عليهم من ويلات وتبعات، فالواضح أن النخب السياسية والثقافية في مصر لم تزل تدور في حلقات مفرغة من صراع وهمي على هوية ليست في الحقيقة مؤثرة في تحديد وجهة الأمور في نفس الوقت الذي يتغافل فيه هؤلاء – باستثناء جماعتين هما العسكر والإخوان – عن أن الموضوع الحقيقي للصراع هو المصالح الاقتصادية وليس الهوية، فالنخب من غير العسكر والإخوان مازالت تتصرف بما يدل على أنها تعتقد أن بإمكانها الوصول إلى عقول الناس وحشدهم عن طريق إقناعم بالفكرة فقط ومن خلال الخطاب الإعلامي دون أن يكون لهم نصيب في مقدرات البلاد الاقتصادية ومفاتيح السلطة والسطوة والثروة فيها، وهم في ذلك ينسون أو يتناسون أن شعبا جاهلا لا سلطان لشيء غير الدين عليه لا يمكن أن تصل إليه إلا بعصا أو جزرة، وإن كان أوان العصا قد ولى، فمن لا يملك الجزرة – سواء كانت سلعة أو خدمة أو أمنا أو حتى بشرى بدخول الجنة والعتق من النار – يكون قد فقد كل أداة فاعلة في المجتمع ليصبح كبوق صدئ لا يُطرب ولا يُسمع! الحقيقة الرابعة أن هناك وسط كل ذلك الظلام الحالك شعاع خافت من النور يشع بريقه بين الفينة والأخرى ليعطي أملا ولو ضئيلا في غد قد يكون أفضل، وذلك الشعاع يمثله هذا الجيل من الشباب الذي علم نفسه بنفسه، وثقف نقسه بنفسه، وأبى – رغم الحصار المطبق عليه اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا - إلا أن يجعل لنفسه موطئ قدم على مسرح أحداث الوطن، بل إنه في وقت من الاوقات – ولو لأسابيع معدودة – كان يلعب دور البطولة منفردا بينما وقف الآخرون يشاهدون ما يجري في ذهول المفاجأة الذي جعل منهم أهدافا سهلة المنال سقط منها في غمرة تلك الموجة الأولى مِن الأحداث مَن سقط، قبل أن تقول طبائع الأشياء وحقائق القوة قولتها، وقبل أن تستفيق عصابات السلطة والمال على ألوانها العسكرية والدينية والعائلية من غفوتها لتعود إلى موقعها الطبيعي في تسيد مشهد الصراع على كعكة الوطن، بينما يعود الشباب مرة أخرى مكافحين مناضلين سلاحهم حلمهم وعنفوانهم يعاودوننا بين الحين والآخر بظهور في الشارع يوثق لوجودههم، وهو إن كان كافيا لتحقيق مكاسب لا ننكرها لا يكفي ولن يكفي لكي ينتصروا انتصارا كاملا، فلا بد أن يُعضَد نضالهم بكثير من السياسة وكثير من العمل الممنهج الذي يعرف ما يسعى إليه ويملك تصورا واقعيا عن كيفية بلوغه، وعن الوقت الذي يلزم لبلوغه، والوسائل التي تساعد على ذلك، وحتى الآن لا يبدو شيء من ذلك في المتناول رغم كل ما هو موجود من حماس وطاقة وإخلاص. إن ذلك المشهد برمته يبدو مخيفا، وباعثا على كثير من القلق على مستقبل ثورتنا لم أشعر بمثله ربما مثل انطلاقها، فحلقات الأحجية مستعصية على الحل، وأسباب توقع الهزيمة في هذه اللحظة تحديدا تبدو أكثر من أسباب توقع النصر، وأخطر ما في الأمر أن مصدر الخطر نفسه ليس واضحا وليس متفقا عليه، فربما لا يوجد خلاف يذكر على خطورة العسكر على الثورة، ولكن العدوين الأكثر خطورة لم يحظيا حتى الآن بما يستحقانه من اهتمام. فأما العدو الأول، وأقصد هنا تحديدا مشروع الإخوان المسلمين لاحتكار السلطة والثروة في مصر الذي يسعى لاستبدال شبكة مصالح الحزب الوطني بشبكة مصالح أخرى ترعاها عصابة أخرى، فقد بدأ مؤخرا في لفت الأنظار إلى خطره من خلال ممارسات ممالئة للعسكر داعمة لمواقفهم، ومن خلال أداء متخاذل في البرلمان، ولكن الأدهى والأمر لم يأت بعد، فقريبا سيبدأ هؤلاء في عمل ممنهج منظم حال استلامهم للنصيب الأكبر من الحكومة بغية اختراق أجهزة الدولة المختلفة وتعبئتها بكوادرهم وأتباعهم مما سيتيح لهم بواعث هيمنة مجتمعية طويلة المدى لن تكون مقاومتها سهلة، وخاصة أن السلاح الذي يستخدمه هؤلاء في بناء شبكات الولاء لا يقتنصر على المصالح المادية التي كان الحزب الوطني يستخدمها، بل يتعداه إلى الولاء الديني الذي يجعل ممن يجنده عبدا طيعا في خدمة أسياده لا يعصي لهم أمرا ولا يخالف لهم رأيا، وهل يعصي العبد سيده إذا كان دخول جهنم عقابه؟؟ أما العدو الأكبر والأخطر والذي ستؤدي هزيمته يوما ما إلى انتصار الثورة ودحر كل من يقف في مواجهتها فهو الجهل، وهو العدو الذي لم يلق أي انتباه بعد، وعلى عكس مشروع الإخوان لاحتكار السلطة لا يبدو أنه سيصل بسهولة إلى واجهة الاهتمام التي يستحق أن يكون فيها في المستقبل المنظور، ربما لأن كثيرين لا يزالون يتحرجون من الاعتراف بأن الشعب جاهل، إذ لازال يتم التعامل مع الجهل كمشكلة من بين مشاكل عديدة تواجه الوطن، وهذا غير صحيح، فالجهل في الحالة المصرية ليس ضلعا في مثلث أو مربع من المشاكل والتحديات، بل هو قطعة مستقيمة ممتدة تقف حائلا منيعا بين الأعمى والبصر، وبين الأصم والسمع، وبين عالم ضلالي ظلامي تتسيده قوى الجبروت والظلم والاستبداد، وعالم يكون فيه المواطن سيدا لنفسه والوطن غاية لمواطنيه والسلطة خادمة لشعبها. هو التعليم إذن، ولا شيء غيره، فعلى روعة الحراك الشعبي من مظاهرات واحتجاجات ومسيرات، وعلى قبح الفقر والمرض والخوف يبقى التعليم هو بيت القصيد، وهو ما يجب أن تتحول الثورة إليه، فلا انتصار للثورة إلا بتجنيد الشعب خلفها، ولا يمكن لذلك أن يحدث دون أن تتمتع الثورة بالسيطرة على شيء من أسباب القوة في الوطن، وبما أن السلطة السياسية والنفوذ الاقتصادي يبدوان الآن بعيدا المنال عن الثورة، ويقبعان تحت سيطرة العسكر والإخوان ومن والاهم، فلا سبيل لاختراق ذلك الحصار المضروب على الثورة والمتجسد في الحقائق التي ذكرناها آنفا إلا بالتوغل داخل قلوب الناس وعقولهم بما يمكن الثورة من أن تجفف منابع الجهل التي تستغلها كيانات السلطة في إحكام قبضتها على وعي الناس وضمائرهم، فإدارة مدرسة واحدة في قرية قد تكون أكثر فائدة من تشكيل خمسين حزبا ومائة جمعية خيرية، وقد تكون أكثر نجاعة من ألف مظاهرة وعشرة آلاف برنامج تلفزيوني ومائة ألف صوت انتخابي. يمكننا إذن أن نبقى إلى الأبد نتحدث فيما بيننا عن الرئيس التوافقي والدستور والبرلمان، ولكن يوم الانتخابات سيأتي دائما كما أتى قبل عدة شهور ليضعنا أمام الحقيقة، وهي أن ما نقوله كله لا يغير في طبيعة الاشياء إلا بمقدار ما تبقى أجهزة حواسيبنا مفتوحة عليه، فالصحيح أن خلف المشهد السياسي الذي قتلناه تحليلا وتنظيرا يوجد مشهد آخر أكبر تتحكم فيه ثقافات ومؤسسات وتوازنات أمضى وأقوى من كل تصوراتنا وحساباتنا، وهي على ذلك أبعد ما تكون عن إدراكنا ومتناولنا، فلربما لا نتمكن أبدا من تغييرها إن نحن أتيناها من ظاهرها، ولكننا بلا شك قادرون أن نبني ما يحل محلها وما يؤثر فيها ولو بعد حين، فقد خلق الله الأرض والسماوات في ستة أيام وليس مطلوبا منا أن نحسم الأمر اليوم أو غدا، ولكن مطلوب منا أن نبدأ، وأن نبدأ الآن، فهل نبدا؟؟ يالها من فجوة تلك التي تفصل بين مصر كما كانت صبيحة يوم أول مقابلة شخصية أجريتها مع إمام مسجد ضمن دراستي الميدانية يوم الجمعة 21 مايو 2010، ومصر كما أراها في لحظة مغادرتي لها بعد ساعات من آخر مقابلة أجريتها مع سيدة فقيرة تكابد صعوبات الحياة، فما حدث طوال تلك الفترة لم يكن ليخطر لأحد على بال، ولهذا فقط فأنا أبقى رغم صعوبة المهمة متفائلا، فعندي قناعة راسخة لا تتزحزح – وإن شابها ما يشوبها من قلق أظنه مشروعا – أن ما لا يخطر على البال لم يأت كله بعد، ومازال قادم منه ما يكفي لتحويل صورة بدت لي من شباك الطائرة ضبابية دخانية كسماء ظهيرة القاهرة في يوم شتوي غير صحو إلى شيء آخر سأجده عندما أعود يوما ما حلوا كحلاوة الثورة.. رائعا كروعة شبابها.. وظافرا كما تستحق أن يكون مصيرها