كان على المجلس العسكرى أن يفرق بين من يحبه -ولو انتقده- وبين من يأخذه فى حضنه ويطعنه فى ظهره الثورة.. الشرعية الغائبة عن اللعبة السياسية بين الشيخ والجنرال
السلطة العسكرية «القائمة» فى مصر تعيش مرحلة الكهولة.. لذلك لا تستوعب حيوية ميدان «التحرير».. والسلطة الإخوانية «القادمة » فى مصر تقوم على السمع والطاعة.. وتقبيل يد الكبير.. لذلك لا تفهم تمرد شباب الثورة.
وقد أجمعت السلطتان بكل ما تمتلكان من قوة بدنية ودينية على أن الجيل النضر الذى أسقط النظام، وجاء بعواصف التغيير إما تلميذ مشاغب يستحق التأديب لأنه يمد لسانه لجميع المدرسين.. وأولياء الأمور.. أو مراهق سياسى ينقصه النضج الوفير لأنه يرمى الحجارة على شبابيك كل مؤسسات الدولة، وأحزابها ورموزها كى يهدمها.. أو عميل أجنبى يجب عقابه لأنه يبيع بلاده مقابل وجبة كنتاكى.. أو ولد خارج على طاعة أبويه.. وتقاليد العائلة.. وآداب الأكل بالشوكة والكلام بالسكين.. لذلك يجب تربيته بحزم وشدة وصرامة وقسوة.. بالجلد على الشريعة الإسلامية.. أو بالسحل على الشريعة العسكرية.
والحقيقة أن الجيل الديجيتال الذى فاجأ الدنيا بما فعل فى يناير ليس جيلاً تقليديًا لنحاسبه بطريقة «شرشر» .. أو بنصوص كتاب « القراءة الرشيدة» .. أو حسب نصائح «رجوع الشيخ إلى صباه» .. ليس تمثالاً محدد القسمات فى صالة مومياوات المتحف المصرى.. ليس كومة قش مستقرة يسهل تحويلها إلى علف..إنه ظاهرة استثنائية كالبرق والرعد ورياح الخماسين.. وعلى هذا الأساس يجب أن نتعامل معه.
جيل له عالمه.. وثقافته.. وتفكيره.. وتصوره.. واختياره.. ولغته.. لا يقرأ صحفنا.. ولا يشاهد برامجنا.. ولا يطرب لأغانينا.. ولا يثق فى سياسيينا.. ولا يصدق خطابنا.. ونجح فى أيام معدودة فيما فشلنا فيه عقوداً طويلة.. تجاوز حدود المحبطين والمنافقين والرقاصين والزمارين والقوادين ونزل إلى الميدان ليحارب معركة من نوع خاص لم يعرفها المشايخ ولا الجنرالات.. فوضع مصر على طريق جديد.. مختلف.. منحه وحده الحق فى أن يقود لا أن يقاد.. أن يتقدم لا أن يتراجع.. أن يكون فاعلا لا مفعولا به.. أن يفرح لا أن يقتل ويضرب ويسحل.. خاصة أنه يحظى بأغلبية سكانية تتجاوز الأغلبية البرلمانية تمنحه السلطة الفعلية.
هو مثل ممثل متميز الشخصية.. يرفض النص المكتوب فى السيناريو.. ويخترع كلامًا من عنده.. فالكلام القديم لا يعجبه.. لذلك «يتخانق» مع المنتج والمخرج ومهندس الديكور وصانع المكياج.. ويطلب من الجمهور أن يسترد ثمن تذاكره.. فالعرض السياسى الذى يشاهده كله « أونطة فى أونطة».. والممثلون لا يتذكرون الحوار لأنهم هاربون من عنبر الزهايمر.
وحينما يلقى هذا الجيل البيض والطماطم والحجارة على المسرحية الهزلية المفروضة عليه.. ويتشاجر مع أفراد فرقة «حسب الله» وفرقة «التواشيح الأندلسية» فإنه لا يفعل ذلك بدافع المشاكسة أو الرغبة فى التمرد أو تأسيس فرقة مسرحية لحسابه.. فالثمن الذى دفعه من دمه وحياته ونور عينيه معروف ومرصود ومنشور.. وكل ما يريده ألا تذهب تضحياته سدى.. وأن تكون حافزا على نقل مصر من عصر التكفير إلى عصر التويتر.. ويجنبها العودة إلى زمن الحاكم بأمر الله أو بأمر نفسه سواء كان مشيرًا أو مرشدًا.. ومن يتبعهما من فصيلة مسرور السياف.. حيث تقطع الرقاب بأحكام عسكرية أو بفتاوى دينية.. وتفرض قواعد الحكم الفاشية.. الإعلام يخرس.. الرأى الآخر يعطل.. الحريات الخاصة تنتهك.. وكله بالديمقراطية التى كانت أيام أنور السادات لها أنياب وأطالت الآن أظافرها.
نحن أمام جيل يفكر بطريقة أخرى.. هذا كل ما فى الأمر.. ونحن فى زمن يتفوق فيه الكساد العقلى على الكساد المالى.. وهو ما يجعلنا فى حاجة لمن يتجاوز تفكير القطيع ويغرد خارج السرب كى ننجو من رصاصات الصيادين المتربصين بكل الطيور البريئة.
كل السبل القديمة انتهت إلى طريق مسدود.. كل الشخصيات المزمنة المشهورة فقدت صلاحياتها النفسية والسياسية.. وكل الكهول الذين حكمومنا وسيحكموننا لا تتجاوز أحلامهم التقاعد فى أقرب دار للمسنين.. حيث يشربون اليانسون.. ويعالجون من تيبس المفاصل.. ويختلط عليهم الأمر.. فلا يفرقون بين الزوجة والممرضة.
لقد خلق شباب التحرير ما يمكن تسميته بشرعية الثورة.. وهى الشرعية التى خرجت منها الشرعية العسكرية الحاكمة.. وأدت إلى الشرعية الانتخابية الحالمة.. وهو أمر لافت للنظر.. أن تنقلب الآية.. وتولد شرعية الكبار من ثورة الصغار.. أن ينجب الأبناء الآباء.. لكن.. الظاهرة الأغرب أن يقرر الآباء قتل الأبناء بعد أن منحوهم الحق فى الحياة.. فالشرعية العسكرية وصفتهم بالإجرام.. والشرعية الانتخابية اتهمتهم بأنهم « ولاد حرام».. وتحالفتا معا على شرعيتهم الثورية بعد أن قررتا اقتسام السلطة وتقسيم الغنيمة.. متجاهلين ما حدث.. متصورين أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه.. وأن الماضى لايزال يحكم ويسيطر ويفرض مشيئته.. وأن سيناريو ما بعد ثورة يوليو يمكن أن يتكرر بعد ثورة يناير.
لقد تحالف العسكر والإخوان بعد يوليو وقضيا معا على باقى الأحزاب والقوى السياسية.. وشكلا معا لجنة الدستور.. ولكن.. سرعان ما انقلب المرشد على البكباشى.. وتآمر التنظيم الخاص للجماعة على جمال عبد الناصر وأطلق عليه النار فى المنشية.. فكان ما كان.
بعد نحو ستين سنة من التحولات والتغييرات والانقلابات الحادة تصور العسكريون والإسلاميون أنهم لايزالون طرفى اللعبة دون شريك.. ورغم أنهم تعلموا أنه لا مبرر للتعجيل بالصدام معا مستفيدين مما سبق إلا أن ذلك لن يستمر طويلاً.. اختلاف المصالح يؤكد ذلك.. ورغبة كل طرف بالانفراد بالسلطة تدعمه وتسانده وتؤازره.
لكن.. المثير للجهل السياسى أن الطرفين تصورا أنهما وحدهما فى معادلة التفاعل الشعبى.. تجاهلا الطرف الثالث.. أو فى الحقيقة هو الطرف الأول فى المعادلة.. شباب ثورة يناير.. ممثلو الشرعية الجديدة التى لم تكن موجودة فى يوليو.. نسيانهم نوع من عدم تجديد الذاكرة.. وفهم الواقع.. والبقاء فى فندق شديد القدم.. أصبح أطلالا.
لقد كان يوليو انقلابًا عسكريًا تحول إلى ثورة بمساندة من الشعب الذى تحققت له العدالة الاجتماعية على حساب الحرية السياسية.. بينما يناير ثورة شعبية ساندها الجيش دون أن يحقق من أهدافها شيئا.. لا عيشة ولا حرية ولا عدالة اجتماعية.. وإنما قتال ديناصورات منقرضة على السلطة.. كل منها يبحث عن شرعية تبقيه فى حلبة المصارعة.. وفى التسخين للمباراة بين اللحية والكاب نسى الطرفان لاعبًا جاء بهما من كواليس المسرح إلى خشبته.. وصدارته.. تصوراه عيلا وطلبا منه أن يلعب بعيدًا.. فالدورى للكبار فقط.
وبدأت معركة شباب الثورة ضد قوتين كان هو السبب فى إخراجهما للحياة السياسية.. تحولت طاقة النور التى خرجت من التحرير إلى كرة لهب حارقة.. شمشون جديد يقرر هدم المعبد عليه وعلى أعدائه.. نكات.. مظاهرات.. اعتصامات.. مليونيات.. ميليشيات.. كى لايهنأ أحد بما يحلم به.. ولن ينفع التكفير.. والتخوين.. والتضليل.. والتقسيم.. فلا أحد من أصحاب المستقبل سيخاف أو يتراجع.. ففى رصيد الشهداء الذين يحتسبونهم عند الله الكثير.
لابد من إعادة شرعية الثورة إلى المعادلة.. لن يكسب الوطن من كلمات عاهرة على شاشات تليفزيونية مأجورة فى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.. لن يرضخ أحد لتهديدات إخوانية وعسكرية للحرية الإعلامية.. لن يستفيد أحد من تقسيم الناس إلى عباسية وتحرير.. فالشعوب لا تتحرك برشاوى انتخابية أو أموال تدفع لبلطجية يسبون صحفيين وسياسيين ومعارضين كانوا رجالاً وقت أن فرض النظام السابق سطوته.. ولولاهم ما وصل من وصل إلى ما وصل إليه.
وما يدعو للأسف أن يفقد المجلس العسكرى رصيده بما يفعل.. ملقيًا التهمة على الإعلام.. دون أن يدرك أنه يحرج من يرون أهميته.. ويؤمنون بدوره.. ويرون أنه عمود الخيمة التى تسقط لو انكسر.. لكنه.. مثل ما سبقوه.. موهوب فى تحويل الأصدقاء إلى خصوم.. والخصوم إلى أعداء.
كان على المجلس العسكرى أن يفرق بين من يحبه -ولو انتقده- وبين من يأخذه فى حضنه ويطعنه فى ظهره.. بين من يعرف قيمته ويحرص عليها بالنصح مهما بدا حادًا، وبين من ينافقه ساعة وينتظر الإجهاز عليه حتى قيام الساعة.
والنصيحة الغالية النقية الخالصة التى نوجهها إليه رمم الجسور المحترقة بينك وبين الشباب.. أرجع إلى مشاهد الحب الأولى.. أضف إلى شرعيتك العسكرية شرعيتهم الثورية.. لن ينفعك غيرهم.. لن يتقبلك سواهم.. وكل ما بينك وبينهم من خراب ودمار سيزيد ويتضاعف لو بقيت على عداء معهم.. ولن يستفيد من ذلك سوى من يبنون سلطانهم على انقاض الحرائق.. ويقصرون فى عمرك يومًا بعد يوم.. ولن تنفعك شرعية القوة بعد أن تقضى على شرعية الثورة.. خسارتك أكبر.. فهم لن يكلّوا ولن يملوا وسيواصلون المشوار مهما كان الثمن.. ومهما بلغت التضحيات.. فالثورات التى يتمتع أصحابها بالحيوية لا تموت بالسكتة القلبية.. أو الدماغية.. أو غيرهما من أمراض الشيخوخة.
لا نريد إقصاء أحد.. زمن الإقصاء انتهى.. نريد معادلة ثلاثية الشرعية.. العسكرية والثورية والانتخابية.. وهو ما يعنى قبول الأطراف الثلاثة للتعايش والتفاهم.. وإلا كانت مشاهد الفوضى التى تأتى من أحداث صغيرة.. بسيطة.. وهى مشاهد ما رأيناه منها لا يخرج عن البروفة المحدودة.. فى انتظار يوم القيامة.. يوم المشهد العظيم الذى ندعو الله أن يجنبنا وقوعه.
فى الوقت نفسه أطالب الثوار بوضع مصالح الأمة فوق رغباتهم فى الانتقام.. وربما كان عليهم الحذر من المستغلين والمجرمين والضاربين والحارقين الذين ينقلونهم من خانة العفوية إلى خانة المؤامرة.. فالطريق إلى جهنم يمر بحسن النية.. عليهم أن يضعوا الوطن فى عيونهم.. ألا يعطوا الفرصة لأحد كى يحرقه.. فهم أول الخاسرين ولو كانوا آخر اللاعبين.
فى الوقت نفسه أطالب المجلس العسكرى بوضع شرعية الثورة على خارطة الطريق الذى ورطونا فيه.. ليصدر المشير بصفته المسئول الأول عن البلاد قرارًا دستوريًا يسمح بتعيين عدد مناسب من شباب الثورة فى مجلس الشعب القادم.. ثلاثون.. أربعون.. خمسون.. اتفقوا معهم.. ادعوهم للمشاركة.. وهى نفس الدعوة التى أطالب بها الإخوان.. صالحوا الميدان.. خففوا الشعور بالثأر الذى تولد بسببكم بعد انقلاب الجماعة على الميدان.
إن مصر التى غيرها الشباب من حقهم.. هم أولى بها.. بدونهم ستعود إلى عصور ظلامية ولو جاءت بالديمقراطية.. فالردة فى تاريخنا.. تراجع سياسى قبل أن تكون تراثًا إسلاميًا.