عندما يتحدث المفكر السياسى د. مصطفى الفقى.. فنحن أمام صوت وطنى عارك الحياة السياسية فى مصر زمنا طويلا كان خلالها الصوت العاقل والهادئ فى الصراع بين الحكومة والمعارضة- اتهمه البعض بالتأرجح فى الآراء، وانقلب عليه الحزب الوطنى ولكن هو فى حقيقة الأمر لا تتأرجح آراؤه ولا تتذبذب أفكاره لأنه نموذج للمفكر والمحلل السياسى الوطنى الذى يقف مع الحكومة إذا أحسنت ويدعم المعارضة فى إيجابياتها. وحين تستدعينا الأحداث إلى ضرورة قراءة عاقلة لما وصلت إليه البلاد فى أزمتها الراهنة فنحن نحتاج إلى أصوات هؤلاء المفكرين والحكماء ومنهم د. مصطفى الفقى إن لم يكن أبرزهم على الساحة السياسية. حاورته فى نقاط عديدة.. رؤيته كمفكر سياسى لما يحدث فى مصر وشهادته على 25 يناير.. وإطلالته على المشهد السياسى للشارع المصرى وللنظام- ثم رؤيته لسيناريوهات الحل وكيفية الخروج من الأزمة فكان هذا الحوار: * 25 يناير.. هل هو ثورة أم انتفاضة أم حركة؟ مسميات عديدة تم إطلاقها على تظاهرات الشارع المصرى أيهما الأدق والأكثر قربا للنظريات السياسية من وجهة نظرك؟ ** انتفاضة شعبية لأن الثورة لها قاعدة فكرية تقوم على مجموعة محددة من الأشخاص أو الجماعة العسكرية ولكن هذه حركة شعبية عفوية انطلقت فى مصر والانتفاضة تعنى الحركة بعد سكون طويل وهذا ما ينطبق على الفوران الشعبى الذى بدأ فى 25 يناير الماضى، نعم كانت له إرهاصاته من قبل على امتداد السنوات الأخيرة من اعتصامات ومظاهرات واحتجاجات ولكن الاندفاع بهذا الحجم هو الذى يشكل عنصر الحديث عن الانتفاضة الشعبية والتى أرى أنها بريئة الأهداف طيبة التوجه وأظن أن تكوينها بدأ بالشباب النقى الطاهر وانضم إليهم جماعة الإخوان بما لا يزيد على 20% فقط من المتظاهرين- وهذه مفاجأة إذا إننا اكتشفنا الحجم الحقيقى للجماعة بالإضافة إلى الحركات الاحتجاجية الأخرى التى اعتصمت فى ميدان التحرير إلى جانب شباب 25 يناير ونحن نجد أنها حركة عفوية تضم أيضا شرائح عليا من المجتمع بما يعنى أنها ليست مظاهرات الجياع فقط ولكنها احتجاجات ضد الفساد والقمع السياسى الذى مارسته الأجهزة الأمنية فى السنوات الأخيرة فضلا عن أننا قد نقلنا الحوار من تحت قبة البرلمان إلى الشارع نتيجة ما جرى فى انتخابات الشورى والشعب الأخيرتين. * كيف ترى المشهد السياسى الآن فى الشارع المصرى وكذلك بالنسبة للدولة والنظام.. وكيف يمكن تحليل هذه الأزمة فى تاريخ مصر؟ ** المشهد الآن لا يخلو من تعقيد ويبدو كالدائرة المغلقة، الشباب المتظاهر لا يريد ترك الساحة لأنه على يقين إذا ما فعل ذلك فقد تخلى عن الانتفاضة ومكاسبها وهو يعتقد أيضا أن الالتفاف على مطالبه أمر سهل لأنه لو عادت الأمور إلى طبيعتها فليس لديه ضمانات قوية وأكيدة لتحقيق الوعود والإصلاحات التى جرى طرحها بشكل مرحلى- وليس حزمة واحدة ولذلك فهذا الشباب لا يضمن وجود قوة الدفع الموجودة لديه والحماس الوطنى الذى يدعمه لو عادت الأمور إلى مسارها الطبيعى، والبعض يتحدث عن أن الفترة الانتقالية قد تكون فترة انتقامية لتصفية الحسابات على ضوء ما جرى، إن الشباب باختصار يعانى من أزمة ثقة شديدة تجاه السلطة والحكم. أما بالنسبة للجانب الآخر وهو النظام فالمشهد واضح، فالنظام يرى أنه قد أعطى ما بعد 25 يناير سلسلة متتالية فى الإصلاحات والوعود والإجراءات وأنه سوف يمضى فيها طيلة الشهور القادمة بما فى ذلك الإصلاحات الدستورية والتشريعية والبرلمانية، والنظام يرى من وجهة نظره أنه قدم أقصى ما لديه وأن الضغوط عليه تمثل محاولة تقويض للشرعية وبدأ سيناريو ليست له ملامح واضحة. لذلك فإن المشهد الحالى وبالمواجهة التى نتحدث عنها لا يتوقع عنه انفراجة قريبة. * إدارة الأزمة للوصول إلى انفراجة فى الشارع السياسى والموقف كله كيف يمكن تحديد الملامح أو خريطة الطريق التى تؤدى إلى ذلك؟ ** الانفراجة فى الموقف المتأزم الحالى لا يمكن أن تحدث إلا من خلال طريقين. الأول: أن يبقى المتظاهرون فى تجمع دائم وبشكل محدد لا يعوق الحياة اليومية حتى يكونوا شهودا على الإصلاحات المنتظرة بجدول زمنى واضح ومن خلال حوار متصل بين الشباب ورموز جديدة للنظام. الثانى: قيام القوات المسلحة بالسيطرة على مقاليد الحكم وضمان حماية الرئيس باعتباره أحد أبنائها وتكليف حكومة وطنية بالبدء فى الإصلاحات وإجراء الانتخابات الرئاسية. * د. مصطفى الفقى- كمفكر سياسى من وجهه نظرك على من تقع مسئولية إفساد الحياة السياسية فى مصر والتى أدت إلى ما وصلت إليه الأحوال؟ ** السنوات العشر الأخيرة انتقلت فيها بشكل ولو جزئى مرحلة صنع القرار من مؤسسة الكبار إلى جيل آخر يسعى إلى السلطة ولم يكن فهمه لطبيعة الشعب المصرى دقيقا وكثيرا ما قلنا وكان لى شخصيا مقال شهير تحت عنوان «قيادة الأوطان- تختلف عن إدارة الشركات» وحذرنا من التفكير الرقمى والحسابى والكمى وطالبنا بضرورة وجود رؤية سياسية شاملة ولكن المجموعة الجديدة وبرغم حسن نوايا الكثير منهم لم تكن ترى أبعد من تصوراتها وتعتبر أى محاولة لإبداء النصيحة هو صوت من الماضى يريد أن يصادر حركة المستقبل ولم يكن ذلك صحيحا بالطبع كما أنه جرى التركيز على أهل الثقة والولاء أكثر من ذوى الفكر والخبرة.. وكانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة تجسيدا حيا للرؤية الرقمية الحسابية دون الرؤية السياسية والاجتماعية.. * ألستم معى أن غياب العدالة الاجتماعية.. هو إحدى دعائم إفساد الحياة السياسية والاجتماعية.. وهى قضية شائكة تستحق الطرح بموضوعية؟ ** نعم - إن غياب عنصر العدالة الاجتماعية كان هو الآخر قضية تستحق التأمل، لأن معدل النمو الذى تم الاعتراف بأنه كان يتزايد لم يصل عائده إلى الطبقات الفقيرة - وجرى تلقفه فى يد شرائح عليا من المجتمع على حساب الفئات الصاعدة والشباب الذى يعانى من البطالة والعشوائيات التى تفتقد الخدمات.. النظام الضريبى الجديد أيضا جعل الشرائح الضريبية على الفئات الفقيرة والدخول الصغيرة مشابهة لنفس الشرائح على أصحاب الدخول الكبيرة - مجاملة لمن يملكون على حساب من لايملكون. وأنا فى ظنى أن قضية العدل الاجتماعى هى جزء من قضية الفساد الاقتصادى والإدارى والسياسى - كذلك هناك ظاهرة تزاوج السلطة والثروة والتى طالبت أنا شخصيا بفك الاشتباك بينهما فى مقالات موثقة وأحاديث مسجلة منذ أكثر من 8 سنوات عندما بدأت الظاهرة تلوح فى الأفق وقلت إن اختلاط الثروة بالسلطة محصلته فساد - مثلما أن اختلاط الدين بالسياسة محصلته تطرف - وحذرت دائما من المعادلتين معا - ولكن كان ينظر لى على الدوام بأنه يقول ما يريد ويتأرجح بين النظام والمعارضة وهذا صحيح تماما - لأننى كنت ولا أزال أمضى على خط وطنى يقف مع الحكومة إذا أحسنت ويدعم المعارضة فى إيجابياتها أيضا لأن الخط الوطنى دائما يعبر عن صوت الضمير وليس عن مصالح طرف ضد طرف آخر- وما أكثر ما حذرت من طغيان الأغلبية وديكتاتورية الأقلية، وطالبت بالدولة البرلمانية حتى تنتهى أسطورة حكم الفرد الذى عرفناه فى تاريخنا السياسى الطويل عبر القرون. * أحاديث كثيرة تم طرحها منذ 25 يناير الماضى تناولت نظرية المؤامرة على مصر.. سواء كانت مؤامرات داخلية أو خارجية - كيف ترون هذا الأمر من وجهة نظركم؟ **قد تكون هناك أطراف خارجية مستفيدة ولكنى ضد التفسير التآمرى ضد حركة التاريخ - لايمكن اعتبار جهد الشباب النقى الطاهر الذى اسماهم الرئيس نفسه فى خطابه بالشباب الشرفاء، لايمكن أن أعتبرهم جزءا من الأجندة الخارجية فهم شباب وطنيون وشرفاء - مع الأخذ فى الاعتبار أن هناك من يستثمر ماجرى لصالحه من قوى خارجية، ويجب ألا نتوهم أن إسرائيل نائمة، إنها ترقب عن كثب ما يدور ساعة بساعة وتبدو قلقة للغاية على مستقبل السلام مع مصر، ولكن لحسن الحظ لم نسمع شعارا واحدا عن السياسة الخارجية فى الانتفاضة وهذا تصرف ذكى لأنه يحول دون استدعاء قوى خارجية فى المعادلة. ويجب أن نعلم أيضا أنه لم يحدث مساس بكنيسة واحدة رغم أن الكنائس ظلت عدة أيام بلا حراسة- ولم تحدث واقعة تحرش جنسى واحدة بما يعنى طهارة هذا الشباب ونقاؤه- ولكن هذا لا ينفى أن الانتفاضة قد يجرى استثمارها من جانب قوى إقليمية أخرى كانت معادية بشدة فى السنوات الأخيرة لنظام الحكم فى مصر. * ماهى رؤيتكم للموقف الأمريكى تجاه مصر والتحول الذى طرأ عليه منذ بداية الأزمة وحتى الآن؟ ** أستطيع أن أقول إن الموقف الأمريكى قد تحول وفقا لما يجرى فى ميدان التحرير، ولقد اكتشفنا قيمة مصر الضخمة دوليا وإقليميا مع أحداث الانتفاضة، يجب أن نعرف أن الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون والمتحدث الرسمى باسم البيت الأبيض والمبعوث الرسمى للإدارة الأمريكية فرانك ويزنر كانوا يعطون أكثر من تصريح يومى لما يحدث فى مصر.. كما أن العالم الغربى والشرق أوسطى يقف على أطراف أصابعه منذ بداية الانتفاضة - لأن مصر هى بحق قلب المنطقة ومركز ثقلها - وفى ظنى أن الموقف الأمريكى قد تحول.. وكان يتحدث بداية عن ضرورة انتقال السلطة فورا - ثم عاد ليؤكد دعمه لاستمرار الرئيس مبارك حتى نهاية مدة ولايته مع الالتزام بالإصلاحات المطلوبة. وأنا هنا أريد أن أذكر الجميع بما قلته منذ شهور عن الاهتمام الأمريكى والإسرائيلى بمنصب رئيس مصر، ويومها قامت الدنيا ولم تقعد وأسمانى الأستاذ هيكل (شاهد ملك) وقام الحزب الوطنى بحملة تأديب ضدى فى صحيفته الرسمية من خلال عدة مقالات فى صفحات متتالية، وهاهى ذى الأيام تثبت سلامة قراءتى للسياسة الدولية والأمريكية، وأنا دائم الظن أن إسرائيل هى المحدد للسياسة الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط وهى التى تضع الخطوط العريضة لتلك السياسة فى المنطقة. *المفكر السياسى د. مصطفى الفقى.. كيف ترى سيناريو الخروج من الأزمة فى ضوء الأحداث المتلاحقة فى الشارع المصرى؟ **لن يتحقق ذلك إلا من خلال حوار مباشر ودون وسطاء بين قيادات الشباب مع نائب الرئيس ورئيس الحكومة والمفكرين والمثقفين والكتاب من أجل توافق وطنى شامل، ولكن المشكلة أنه لاتوجد قيادات محددة للشباب لأن حركة (الفيس بوك) تجمع حشودا، ولكنها لاتقدم قيادات وتلك هى المشكلة الآن فما أكثر من يريد أن يتحدث باسم الشباب وما أكثر اللجان التى أسمت نفسها بلجان الحكماء ولكن يُشتم منها كلها أنها محاولات لسرقة الانتفاضة وركوب الموجة فى هذه الظروف الصعبة التى يمر بها الوطن، وأنا أطالب بأن يكون للقوات المسلحة دور فى الحوار باعتبارها ضامنا شريفا يثق به الشباب بل والشعب كله عبر تاريخ مصر الطويل.