زوجي الحبيب.. ورجُل عمري.. تعرف كيف كانت السعادة تغمر أيامنا، والتفاهم دائما بيننا حتى عند اختلافنا، كان كلا منا لا يطيق أن يغمض عيناه وهو يعرف أن الآخر يحمل أي شائبة في نفسه، ومرت الحياة بيننا هادئة بحلوها ومُرها. جاءت ابنتنا الأولى، ومنذ اللحظة الأولى رأيت في عينيك الحبيبتين لأول مرة دموع لكنها دموع الفرح، واحتضنتها ذراعيك قبل ذراعي، وكبر الحب بيننا وأصبح له معنى وطعم ولون آخر! أتذكر تلك اللحظات الغالية، وأنا أعتصر ألما، والحسرة تملأ نفسي؛ لأنني لم أتخيل يوما الموقف الذي أحياه الآن، ولن أمر على ذكرى البنت الثانية فأنت تعلم كل لحظة عشناها منذ ذلك اليوم، فلنحيا الحاضر. اليوم رُزُقنا البنت الثالثة، وكنا نعرف مُسبقا من الكشف بالأشعة ما فوق الصوتية (السونار) أن الجنين بنتا ثالثة، ومن يومها وأنت شارد.. لا أجدك حين أحتاجك.. لا تسمعني حين أُحدثك.. لا تلتفت لي حين أُناديك.. لم تنظر في عيني مرة.. تأتي دائما متأخرا ليلا حتى تتأكد من نومي، وكنت أتظاهر بالنوم وأراقبك وأنت تتحاشاني. لم أجد اليوم في عينيك إلا نظرة عتاب لي.. لم تحتضن ابنتنا.. لم تنظر لها نظرة واحدة، قلت لك انظر لجمالها وملائكيتها.. قلت لك ليبارك الله فيها وأخواتها تركتنا.. وغادرت. تذكرت ذلك اليوم.. حين دخلت على ووجهك شاحب وعيناك زائغتان.. وقلت: لدي ما أخبرك به ولا أعرف من أين أبدأ، قلت لك: تكلم يا حبيب العمر، قلتها تخفيفا من الاضطراب والحيرة في ملامح وجهك.. وشعر قلبي بما يحمله قلبك ويثقل لسانك عن البوح به.. قلت لك: تكلم فكلي آذان صاغية وقلب مفتوح كعهدي معك منذ أول يوم لنا سويا.. تركتني وخرجت من البيت مُسرعا. أشعر وأتيقن أنك تريد الزواج للفوز بالفارس الذي يحمل اسمك كما يقولون، ويحضرني مثل شعبي لو كان يدري قائله ما سيترتب عليه لما تحركت به شفتاه: "لما قالوا لي ولد اتشد ظهري واتسند، ولما قالوا لي بنت اتهدت الحائط علىَّ!". لم أعد أسمع منك إلا كلمات جارحة.. وأنت ماهرة فقط في إنجاب البنات.. اسمح لي لأول مرة بالتعبير والبوح بمكنون نفسي بعدما فعلتها.. - أستمنحك الزوجة الثانية ولى العهد وارث رجولتك؟ لا أصدق نفسي وأنت الشخص المثقف الذي يعلم تماما أن الحيوانات المنوية للرجل تحتمل النوعين فإذا كان يحمل شارة الذكورة (y) يكون الجنين بمشيئة الله ذكرا، أما إذا كان يحمل شارة الأنوثة فالجنين أنثى. قال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوجَينِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى* مِن نُّطفَةٍ إِذَا تُمنَى} (النجم : 45-46)، والنطفة التي تُمنى هي نطفة الرجل فهو مشيئة الله - سبحانه وتعالى - التي قررها وفصل فيها القرآن الكريم، كانت تلك الكلمات إنما تذكرة لك ولأمثالك بأنها مشيئة الله تعالى.. والله أعلم ربما يرزقك الله الولد الذي تريد.. وربما لا.. وأتساءل: كيف لو كان أحدنا عقيما لا أنجب ذكورا ولا إناثا؟، كيف لو أنجبت طفلا مشوها أو متخلفا عقليا؟، كيف لو أنجبت ذكورا وأصبحوا عصاة فاسدين أو عاقين –والعياذ بالله؟، فاحمد الله تعالى وارض بما يقسم الله.. اشكر الله على تلك الهبة ولا تعترض، وتأمل في قول الله تعالى: {لِلَّهِ مُلكُ الّسَّمَوَاتِ وَالأَرضِ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَو يُزَوِّجُهُم ذُكرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّه عَلِيِمُ ُ قَدِيرُ} (الشورى: 49-50). - إن هذه النظرة هي تكريس لإعلاء قيمة الذكر فوق قيمة الأنثى، وإعطائه الأولية والإقلال من قيمة المرأة بأنها مجرد وعاء لتربية الأطفال وخدمة الرجل، وأوجه انتباهك أنك تتشبه برجال الجاهلية الذين كانوا يوأدون البنات، ويعتقدون أنهن يجلبن العار كما وصفهم سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدًّا وَهُوَ كَظِيمُ ُ* يَتَوَارَى مِنَ القَومِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَم يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحكُمُونَ} (النحل: 58-59). - ولي ملحوظة هامة هنا أنا لا أنادي بمساواة المرأة بالرجل بالمفهوم الذي خرج علينا في السنوات الأخيرة، لكن أقصد عدم التمييز؛ فالمرأة مكرمة موعودة بالجنة مثلها مثل الرجل.. المرأة تخرج للغزوات مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .. المرأة هي التي تُخرج النساء والرجال الصالحين.. وتكفيني يا زوجي آية واحدة في كتاب الله.. ساوى الله سبحانه وتعالى بيني وبينك.. ولم يقول المسلمين.. المؤمنين..{إِنَّ المُسلِِمِِينَ وَالمُسلِمَاتِ وَالمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ والقَانِتِينَ والقَانِتَاتِ} (الأحزاب:35). - ولأذكرك بفضائل البنات في السنة والأحاديث متعددة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم- : "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، أو بنتان أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن فله الجنة". (1) وقال صلى الله عليه وسلم: "من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه". (2) - وفي أخذ الرسول صلى الله عليه بمشورة المرأة في موقفين، إنما تكريم للمرأة في قصة دخوله على السيدة خديجة - رضي الله عنها - يرجف حين نزل عليه الوحي، وجوابها له ثم انطلاقها به إلى ورقة بن نوفل. وأخذه صلى الله عليه وسلم بمشورة أم سلمة في شأن الأمة حين أمر أصحابه في عمرة القضاء بالنحر ورفضهم ذلك. - والوحي ينتصر لامرأتين حين اشتكت خولة بنت ثعلبة زوجها للنبي - صلى الله عليه -، فأنزل الله فيها سورة (المجادلة). والسيدة عائشة رضي الله عنها في – حادثة الأفك – سورة (النور). - أما السلف ومنهم أحمد بن حنبل إذا ولد له ابنه يقول: الأنبياء كانوا آباء بنات. - وكان لمعن بن أوس ثمان بنات ويقول: ما أحبُّ أن يكون لي بهن رجال! - قال ابن القيم رحمه الله: وقد قال سبحانه وتعالى في حق النساء: {فَإِن كَرِهتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَيَجعَلَ الَّلهُ فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا}(النساء:19)، وهكذا البنات أيضا يكون للعبد فيهن خير في الدنيا والآخرة، ويكفي في قبح كراهتهن أن يكره ما رضيه الله، وأعطاه عبده. انتهى (3) - ويذكر التاريخ حين بلغ المعتصم أن امرأة هاشمية صاحت في أسرها بأيدي الروم"وامعتصماه" فهب وسار بجيشه من أجل امرأة. - أفرأيت يا زوجي يا أبا بناتنا تلك النعم وهذا الفوز؟ إنهن يدخلنك الجنة بجوار النبي صلى الله عليه وسلم. {أَلَم يَأنِ لِلَّذِنَ ءَامَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ الَّلهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ...} (الحديد: من الآية 16). فهيا لننعم بدفئهن وحنانهن ووفائهن وحبهن وبرهن وابتسامتهن الصافية!، فاللهم ألن القلوب القاسية.. وأيقظ الأرواح الغافلة.. اللهم اهد بناتنا وبنات المسلمين وارزقهن الأزواج الصالحين.. ومن بعدها الذرية الصالحة.. واهد شبابنا وسائر شباب المسلمين.. واحفظ أوطاننا آمنة مطمئنة..آمين. وأختتم بقول زوجة أبي حمزة: ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا ونحن كالأرض لزارعينا ننبت مازرعوه فينا (1) الترمذي (1916)- أبو داود (5147) – ابن ماجه (3669) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب. (2) رواه مسلم (2631) والترمذي بلفظه. (3) تحفة المودود ( ص 26).7