صادفت أحد زملاء الجامعة كتب على الفيس بوك يتندّر على أول شهداء اعتصام مجلس الوزراء أحمد سرور، ويتساءل مستنكرا مبررات التحاقه بالشهداء. يعجبني في هذا الشخص أنه تصالح مع فساد نفسه، حتى لم يعد يرى البون الشاسع بينه وبين معنى الإنسانية، بل صار يتحرك بحرية في أحط درجات الإنسانية، وأي درك أسفل من التندّر بمن قتلوا وهم في الرباط؟! لقد تخفف فعلا من أثقال يحملها كل من قرر أن يعيش إنسانا في هذا الزمان، فلا مشكلة لديه. المشكلة الحقيقية عند من لا يقوى على الشهادة، ولم نستطع بعد أن نتصالح مع ما فسد من نفوسنا. نضرب بأيدينا الهواء بغية التحليق، فنجد أرجلنا ملتصقة بالأرض أثقلتها الحياة الدنيا وزينتها، فلم نعد نملك إلا اعتذارا للشهداء ودموعا نذرفها على أنفسنا. *** اختار الله لهذه الثورة شهداءها، اختارهم ممن أرادت لهم الدولة التهميش فلم يرض لهم الله إلا متن المتن مكانا، هم الجماهير التي تهتف لنجوم المنصات، الذين تطردهم الصور خارج إطاراتها لأن "أشكالهم غلط" فهم لا يشبهون "الشباب الجميل بتاع خمسة وعشرين"، هم الذين طهّرهم الله حتى عن أسمائهم التي منحتها الدنيا لهم فصاروا معاني، صاروا خناجرا، طعنات تدمي القلب، خيالات يكشف طهرها عن دنسنا. اختار الله لهذه الثورة شهداءها ممن أراد لهم الجميع أن يموتوا أحياء، فأحياهم أمواتا. الشهداء هم الذين ماتوا ولم تظهر صورهم في الجرائد مع "الورد اللي فتح في جناين مصر" فهم على ما يبدو لا يشبهون الورد، هم ملح الأرض، هم الذين ليس لهم أصدقاء يضعون صورهم على صفحات الفيس بوك، وليس لهم أهل يقيمون على أرواحهم صدقة جارية، بل ربما كانوا هم من ينفقون على أهليهم، الشهداء هم الذين تلتقطهم عدسات الكاميرات في الصفوف الأولى وهم يواجهون ولا يعرفهم أحد منا، وكأنهم من عالم آخر، أتوا من السماء لأداء مهمة ما، وهم في طريق عودتهم إليها مرة أخرى. ليس الأمر أنهم ماتوا شهداء، بل الأمر أنهم عاشوا شهداء، ربما كانت تكفيهم – ليشعروا بالسعادة – أغنية شعبية مسجلة على هواتفهم المحمولة صينية الصنع، يستمعون إليها بصوت عالٍ في المترو والأوتوبيس. ربما كانت تكفيهم نظرة إعجاب من فتاة بسيطة ترتدي عباءة شعبية حتى يشعرون بالفخر، ربما كانت تكفيهم نظرة رضا من أمهاتهم وهم في طريقهم إلى أعمالهم الشاقة. وحين رأوا الناس يموتون هرعوا لنجدتهم، وتصدّروا الصفوف. لم يبالِ أحدهم بأن يرتدي قناع غازٍ أو واقي للعينين، فالمفارقة أن من كان يرتدي تلك الأشياء فعلا ليسوا هم أهل الصفوف الأولى، وكأن الرسالة التي كانوا يريدون أن يوجهونها لجنود الأمن أننا أشجع منكم، نواجهكم بلا دروع. أما أنتم فلن تستطيعوا أن تخلعوا دروعكم وتواجهوننا. لم تكن الحجارة هي ما يصيب جنود الأمن. بل ذلك الإصرار، تلك العيون الحارقة، تلك العيون التي استفزّت رجال الأمن، فصوّبوا نحوها هلعا من الشرر المتطاير منها. حينما أستمع لحوارات بعض النخب عن الخروج من الأزمة، يضحك وسط دموعي جزء صغير منّي يشبه الشهداء، يضحك سخرية، من الانفصال الظاهر بين من يسمّون مكانا ما باسم الوطن، ويريدون أن يدافعوا عن حدوده، ومن يواجهون الموت ولسان حالهم يقول أنا الوطن، الوطن هو الإنسان وليس حدود المكان، الوطن هو الإنسان وليس حجارة البنيان. الشهيد مجموعة من الاحتمالات، وهبها لنا – أمانة – حين رحل. احتمال أن يحب فتاة ما يصونها وتصونه، احتمال أن تكون له ذرية، احتمال لبعض أنفاس الهواء يستنشقها، احتمال طَرَقات بمطرقة ما في ورشة ما، احتمال لهدية عيد أم، احتمال لوجبة دافئة في حضن عائلة دافئ. وهبنا الشهيد تلك الاحتمالات أمانة فلم نصنها. أحببنا هوى وخديعة لم نبال بمن مات وترك بين أيدينا احتمال حب صادق، استنشقنا الهواء كأنه ملك لنا، لم نبالِ بمن مات وترك بين أيدينا احتمال أنفاس تفصل بين الحياة والموت. نمنا على الوسائد، لم نبال بمن مات، وترك في أيدينا احتمال لعمل ما، آثرنا أنفسنا، ولم نبال بمن مات وترك في أيدينا احتمال لقاء عائلي ما. لم نبال بشيء، بل جعلنا منهم مادة لصنع التقليعات، بل ومطية للشهرة حتى من بعض أهليهم، وبطاقة رابحة للمزايدة السياسية.