أسفرت انتخابات المجلس التأسيسي بتونس عن فوز الإسلاميين (حركة النهضة) بتونس بأكبر كتلة في المجلس، كما أسفرت الانتخابات البرلمانية المغربية عن صعود حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) وفوزه بأكبر كتلة مقاعد أيضا. كما شهدت الثورة ليبيا صعود نجم الإسلاميين الليبيين سواء على الصعيد العسكري أو الصعيد السياسي والإداري. لكن الحدث الأهم المتوقع هو أن يحقق الإسلاميون المصريون—على اختلاف تشكيلاتهم— فوزا كبيرا في انتخابات مجلس الشعب الراهنة يمكنهم من قيادة المرحلة القادمة في الحياة السياسية المصرية. أحد تفسيرات هذه الظاهرة أن المجتمعات العربية تبحث عن عمود فقري صلب للجماعة الوطنية بهذه البلاد، خاصة فيما يتعلق بقضايا الهوية والاستقلال والعدل الاجتماعي والنمو الاقتصادي وإصلاح الدولة، وهذا الدور لا يزال ينطبق على الإسلاميين أكثر من غيرهم. لكن هناك أيضا أسئلة مشروعة. لماذا يقبل الناس على الثقة بأي قوة سياسية أو حركة اجتماعية دون غيرها؟ ما هي العوامل التي تجعل من ذلك التيار والفكر الذي يتبناه مطلوباً لدى الناس بشكل خاص، مستجيباً لاحتياجاتهم ومعبراً عن تطلعاتهم أو محققاً لحياتهم الغاية والمعنى؟ الإجابة على هذه الأسئلة تقود بالضرورة لتحديد مصادر شرعية التمثيل الطبيعي الفعلي قبل التمثيل النيابي، وملامح الصورة التي ينبغي تشكيلها واستكمال عناصرها لأجل الوصول إلى تحقيق إجماع أو توافق وأغلبية. ولكي لا نطيل مسار التحليل، نستدعي الأسباب المؤدية لظهور الأفكار الكبرى في سياق التجربة الإنسانية الممتدة، خاصة التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية. شهد العالم، في القرن السابع الميلادي، مولد الحضارة العربية الإسلامية على يد خاتم النبيين والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً. جسدت تلك الحضارة معاني وقيم رسالة الله الخاتمة إلى الناس كافة، وأصبح شخص النبي (ص) المثال الأعلى والقدوة الأسمى في تاريخ البشرية. جاء الوحي الكريم ليقود حركة التاريخ ويقيم على الأرض مثال العدل والإحسان الإلهي، وكان الوحي الإلهي مصدر الطاقة الهائلة لحركة الهدى ودين الحق، الذي وعد الله سبحانه بإظهاره على «الدين كله ولو كره الكافرون». ومنه نبتت وأينعت وأثمرت وعود الإسلام التي تلقتها إنسانية كانت تعيش جاهلية العصور الوسطى من ظلام وظلم وعنت وفساد واستعباد، كما تتلقى الأرض العطشى قطرات الغيث النازل من السماء. ورغم محدوديات الواقع العربي اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً ومادياً، آنذاك، فقد تمكن جند الإسلام الذين حملوا معاني الرسالة وروحها ومقاصدها العظيمة من تغيير الواقع العالمي في بضع عقود من الزمان، وأنجزوا تحولات تاريخية وحضارية وإنسانية مذهلة في اتساعها وعمقها ومساحة فعلها. هذا المشروع الضخم لم تنجزه جيوش إمبراطورية كاسحة، بل جند يجدون بالكاد ما يقيم أودهم، وبقليل تيسر لهم من عدة وعتاد. لكن وعيهم برسالتهم والوعود التي يحملونها للإنسانية كانت أجلى من ضياء الشمس. وقد عبر أحدهم عن مهمته الاستراتيجية الحضارية قائلا: "جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام". في مواجهة هذه الرؤية، لم يكن هناك مناص من سقوط منظومات القهر وإمبراطوريات الظلم وأوضاع الفساد المستشرية في العالم آنذاك. جاءت وعود الرسالة واضحة قوية، فقوضت ما اعترضها من أوضاع وعوائق مادية وعروش وجيوش، نخرها سوس الفساد والظام والشرك، لتفسح المجال لرسالة العدل والرفق والإحسان والتسامح. كانت نقطة البدء والمآل في تلك الرسالة هي الإنسان الذي اصطفاه وكرمه الله، وأنطقه بالبيان، وعلمه الأسماء كلها، واستخلفه في الأرض، وأوحى إليه آياته وبيناته، وقدسه بالشرائع والشعائر، وكرس حرمته وحقوقه، وحرم ظلمه واضطهاده، وحرره بالتوحيد من كل طاغوت، وسخّر له الكون. بذلك، تميّز الإنسان عن باقي مخلوقات الله، فهو يفكر ويتأمل، ويتلقى من الله، ويتعرف عليه ويتواصل معه، ويتقرب إليه، ويمتثل له، ويتفاعل معه. العودة لهذه المنطلقات ضرورة قصوى في هذه الحقبة الرازحة تحت سيطرة منظومة حداثة إمبريالية عالمية قائمة على الصراع والنفي، فأغرقت الإنسانية بقرونها الأخيرة في الاستعمار والدمار وحروب الفناء والإبادة والعنصرية والطغيان والنهب، واستلبت منظومة فكرها وقيمها وجدان ومخيلة جزء كبير من البشرية، وهيمنت على أرزاقها وسبل عيشها. وبقدراتها العنفية الهائلة استأثرت بالثروة والقوة بشكل غير مسبوق تاريخيا. يمر العالم اليوم بمرحلة تمثل مفترق طرق في التاريخ البشري، كيوم نزول الوحي برسالة الله الخاتمة، حيث الإنسانية غرقى في دياجير الظلم والظلام والجهل وانعدام الأفق وفقدان المعنى والغاية، وحيث أمة التوحيد الخالدة المصطفاة لإبلاغ كلمة الله الخاتمة وإقامة العدل والإحسان، واقعة بدورها تحت نير هيمنة إمبريالية تصد عن سبيل الله، وتعادي كل خير وعدل ومقدس. كيف السبيل إذن لتحرير أمة التوحيد لتستأنف دورها العظيم في مسيرة وهداية الإنسانية نحو وجه ربها الكريم؟! في غزوة بدر الكبرى، وقف خير خلق الله طرا سيد البشر النبي الأمي الطيب الطاهر الزكي (ص) مبتهلا داعيا راجيا متضرعا: اللهم إن تهلك هذه العُصبة فلن تُعبد في الأرض أبدا. وكانت بدر نصرا مؤزرا غيّر مسار التاريخ. واليوم أقول لكل مخلص: إن لم تتحرر هذه الأمة من هيمنة إمبريالية الصراع والنفي، لتحمل الهدى ودين الحق إلى البشر كافة، فكيف يتسنى للإنسانية الانعتاق من ربقة الطاغوت والكدح نحو وجه الله الكريم. في هذه اللحظة من الزمن، الإنسانية أحوج ما تكون إلى أمة التوحيد، ودورها في إقامة الهدى ودين الحق، وإظهاره على الدين كله، وهو وعد إلهي لم يتحقق بعد تمامه في أربعة عشر قرنا، لكنه قادم حتما بإذن الله. في ضوء كل ذلك، ليس مهما جدا ربما إن زادت أو نقصت المقاعد النيابية لهذا الاتجاه أو ذاك، إن هي إلا وسائل وتفاصيل؛ لكن غاية الأهمية في استحضار وإحياء معنى ووعود الرسالة الخاتمة للإنسان والإنسانية، وتحتاجها الإنسانية اليوم أشد الحاجة. هنا ينبغي العودة إلى الإنسان المستخلف في الأرض. هل يعقل أن تترك قضية الإنسان والانتصار لكرامته فريسة وحكرا لحداثة الصراع والنفي، وأن لا تنهض بها أمة التوحيد؟! كيف يقف المخلصون ضد تمكين ضعفاء الأمة والشرائح الاجتماعية الأقل حظا؟! وكيف يتأخر موقفهم حتى عن مواكبة فتات وعود المنظومة الحداثية الإمبريالية؟! أيها الإسلاميون أين وعودكم للأمة والإنسانية؟!