اخفقت المئات من البنوك, وحل انكماش اقتصادي مدمر, وانخفض الانتاج بمقدار الثلث, وارتفعت نسبة البطالة الى 25 بالمئة. وقد الحق الكساد الكبير, كما صار يعرف لاحقا, اضرارا هائلة على امتداد العالم, لكن الضرر الاعظم هو ذلك الذي انزله بسيكولوجية امريكا الاقتصادية. وفي اعقاب ذلك الكساد, اعيد رسم الحدود بين الحكومة والاسواق. \r\n \r\n خلال الشهر المنصرم, وبعد ما يزيد بقليل على السنة منذ اندلاع العاصفة المالية الاولى في شهر اب ,2007 قامت الحكومة الامريكية باكثر التدخلات درامية في الاسواق المالية منذ ثلاثينيات القرن الماضي, عندها لم تكن متأكدة بعد من ان الاقتصاد قد دخل في فترة ركود وان نسبة البطالة قد بلغت 6.1 بالمئة. \r\n \r\n في خلال اسبوعين عاصفين, تولى الاحتياط الفدرالي ووزارة الخزانة فيما بينهما تأميم عملاقي الرهن في امريكا: فاني ماي وفريدي ماك, واستوليا على أيه آي جي, اكبر شركة تأمين في العالم, ورفعا مبلغ الضمانات الحكومية للودائع الى 3.4 ترليون دولار, وفرضا حظرا مؤقتا على بيع 900 سهم مالي بالنسيئة, وتعهدا, وهو الاهم, بنقل ما قيمته 700 مليار دولار من الاصول السامة المرتبطة بالرهون الى ملكيتهما. وقد كان الاحتياط الفدرالي ووزارة الخزانة مصممين على منع وقوع كارثة مصرفية تشبه تلك التي كانت وراء الكساد الكبير لعام 1929 . وقد ابدى النواب المذعورون بعض الاعتراضات, لكن الكونغرس والادارة وافقا بالنتيجة. \r\n \r\n لقد تغير المشهد المالي الامريكي تغيرا جوهريا. ويمكن القول بان المصرف الاستثماري المستقل, ذلك المخلوق الخمسيني الذي يعيش في وول ستريت ويعتمد على النفوذ العالي والتمويل الضخم, قد اصبح في عداد المنقرضين. فقد افلس بنك ليمان, وابتلعت البنوك التجارية كلا من بير ستيرنز وميريل لينش, وتحول غولدمان ساخس ومورغان ستانلي الى بنوك تجارية. ويمر \"نظام الظل المصرفي\" المتكون من صناديق اموال السوق, وسماسرة الضمانات, والصناديق الوقائية وكل المؤسسات المالية غير المصرفية التي تميز السوق المالية الامريكية المتحررة من الرقابة, يمر بادوار استحالة متلاحقة تتابع بسرعة البرق. وفي فترة ثلاثة اسابيع وسعت الحكومة الامريكية مسؤولياتها المالية, لتبلغ اكثر من ترليون دولار اي حوالي ضعفي ما انفقته على حرب العراق لحد الان. \r\n \r\n باستثناء ذلك, لا يمكن التأكد من اي شيء آخر في اواخر ايلول انتشر الاضطراب وتعاظم. وبدت اسواق المال حول العالم مكبلة نتيجة امتناع البنوك عن اقراض بعضها بعضا. افلست خمسة بنوك اوروبية وتنادت الحكومات الاوروبية لاسناد انظمتها المصرفية بالضمانات وعمليات الانقاذ. ولم يزل الوقت مبكرا لاعلان احتواء الازمة. \r\n \r\n تشريح الانهيار \r\n \r\n تمتد جذور الازمة الحالية الى اكبر فقاعة ائتمانية واسكانية عرفها التاريخ. انخفضت اسعار المنازل في امريكا بما يقرب من الخمس, ويتوقع الكثير من المحللين انخفاضا آخر بمقدار 10 بالمئة الامر الذي سيجعل التدهور الكلي في القيمة الاسمية للمنازل مقاربا لما عرفته فترة الكساد الكبير, ويمكن للامور ان تكون اسوأ في الدول الاخرى, ففي بريطانيا مثلا, تخضع المنازل لرهونات اكبر مما هي عليه في امريكا. وقد ارتفعت اسعار المنازل في بريطانيا بسرعة اكبر وهي الان تهوي بسرعة اقل. \r\n \r\n ما تزال الخسائر الائتمانية على الرهون التي تمول تلك المنازل في تصاعد شأنها في ذلك شأن الخسائر المترتبة على اهرامات نتائج الديون المتراكبة. في آخر تقديراته توقع صندوق النقد الدولي ان تصل الخسائر العالمية المترتبة على ديون نشأت في امريكا (ومعظمها مرتبط بالرهون) الى 1.4 ترليون دولار اي بزيادة حوالي 50 بالمئة من تقديرات الصندوق السابقة في نيسان الماضي, لحد الان, اقرت البنوك وشركات التأمين والصناديق الوقائية بديون وصلت خسائرها الى 760 مليار دولار. \r\n \r\n عالميا, ابلغت البنوك وحدها عن خسائر مترتبة على الديون بلغت قيمتها حوالي 600 مليار دولار, ونجحت, بالمقابل, بالحصول على 430 مليار دولار كرأسمال جديد. ومن الواضح ان الكثير من اقرارات الخسائر ما يزال في الطريق. ان نهاية البنوك الاستثمارية الى جانب اطلاق يد الصناديق الوقائىة وغيرها من مؤسسات \"نظام الظل\" المصرفي سوف تزيد من الانكماش الائتماني العالمي بعدة ترليونات من الدولارات, ويتوقع صندوق النقد العالمي ان تفقد البنوك الامريكية والاوروبية اصولا بقيمة حوالي 10 ترليونات دولار اي ما يساوي 14.5 بالمئة من رصيدها من الائتمانات المصرفية لعام 2009 . وفي امريكا, سوف يتباطأ النمو الائتماني الكلي الى ما تحت 1 بالمئة بعد ان كان قد حقق معدلا سنويا بمقدار 9 بالمئة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا وحده قادر على النزول بمعدلات النمو في الاقتصادات الغربية بما نسبته 1.5 بالمئة من النقاط. وقدر صندوق النقد الدولي ان الرصيد الائتماني يمكن ان يتقلص بنسبة 7.3 بالمئة في امريكا و6.3 بالمئة في بريطانيا و4.5 بالمئة في بقية الدول الاوروبية ما لم يتم اتخاذ اجراءات حكومية الى جانب خطة الانقاذ الامريكية. \r\n \r\n دخل الجزء الاعظم من العالم الثري في حالة انكماش, يعود سببها جزئيا الى شح الائتمانات والى ارتفاع اسعار النفط في وقت سابق من هذا العام. وقد انخفض الانتاج في بريطانيا, وفرنسا, والمانيا, واليابان. وبالقياس الى نسب فقدان الوظائف وضعف الانفاق الاستهلاكي فان الاقتصاد الامريكي ينكمش هو الآخر. \r\n \r\n استغرقت دورات الانتعاش بعد الازمات المصرفية التي عرفها العالم مؤخرا حوالي اربع سنوات تتمكن خلالها المصارف من ترتيب اوضاعها وتلجأ فيها الشركات والاسر المثقلة بالديون الى الادخار. في الحالة الراهنة, تبدو الشركات في وضع جيد نسبيا, لكن الاسر, خصوصا في امريكا وبريطانيا, قد راكمت كما غير مسبوق من الديون, ولهذا فان فترة الصحوة في هذه المرة قد تكون اطول. \r\n \r\n لكن التاريخ يعلمنا درسا مهما وهو ان الازمات المصرفية الكبيرة لا تحل في نهاية المطاف الا بضخ كميات هائلة من المال العام, وان الاجراءات الحكومية المبكرة والحاسمة, سواء باعادة رسملة البنوك او تحمل الديون المستعصية, يمكن ان تقلل من مستحقات الازمة على دافع الضريبة ومن اضرارها على الاقتصاد, فالسويد, مثلا تحركت بسرعة للاستيلاء على بنوكها التي افلست بعد ازمة الملكية في مطلع التسعينيات واستطاعت بذلك ان تتعافى بسرعة نسبية. في حين ان اليابان بالمقابل احتاجت الى عقد كامل كي تتعافى من ازمة مالية كبدت دافعي الضرائب ما يعادل 24 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي. \r\n \r\n ان كل ما وضعته الحكومة الامريكية لمعالجة الازمة الراهنة لا يزيد على 7 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي, وهو وان كان مبلغا كبيرا جدا, الا انه يقل كثيرا عن نسبة 16 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي التي تمثل متوسط المبلغ المطلوب لمعالجة الازمة المصرفية المنهجية. لكن ما لم يتضح بعد هو الكيفية التي تعتقد امريكا ان خطتها الانقاذية سوف تنجح بموجبها. تخطط وزارة الخزانة الامريكية لشراء كميات هائلة من الديون عن طريق عملية مزاد معكوسة تقدم فيها البنوك اسعارها لبيع تلك الاصول او الاسهم في حين تقوم الحكومة بشراء الاصول المطروحة للبيع من ادنى سعر صعودا الى ذوات الاسعار الاعلى. ان التعقيدات التي تكتنف الاف الاصول المختلفة في طبيعة اعتمادها على الرهون تجعل هذه العملية صعبة, وستكون الخزانة مستعدة لاعادة رسملة مباشرة للبنوك اذا ظلت الحاجة قائمة لذلك بعد عملية الشراء, المهم في الامر ان امريكا على استعداد لان تتحرك ولان تفعل ذلك بحسم.