\r\n \r\n \r\n ومن جهة أخرى عبروا عن تأييدهم للطبقة الوسطى المتدينة التي تعتبر القاعدة الأساسية لحزب \"العدالة والتنمية\". وفي هذا الإطار تعكس نتائج الانتخابات الأخيرة رفضاً مبطناً للقيم الجمهورية التي أرسى قواعدها مؤسس الجمهورية \"كمال أتاتورك\" عام 1923. غير أن مشكلة تركيا مع أوروبا تتجلى في التباس موقف القارة العجوز تجاه أنقرة، ففي الوقت الذي يبدي فيه العديد من الأوروبيين استعدادهم لرؤية تركيا علمانية كجزء من الاتحاد الأوروبي، فإنهم يتحفظون على تركيا تقودها حكومة تنتمي فعلياً، إن لم يكن رسمياً، إلى حزب إسلامي تدخل من خلاله إلى الاتحاد الأوروبي وتكتسب عضوية كاملة. \r\n وبالطبع تبرز العديد من الأسباب التي تفسر الموقف الأوروبي فيها ما هو مرتبط بحرب أميركا وحلفائها على حركات التطرف الإسلامي (وإلى حد ما، وإن كان غير معترف به، ضد المجتمع الإسلامي المعاصر). لكن ثمة أيضاً أسبابا ثقافية وعملية تتمثل في دور القيم المسيحية في تشكيل الحضارة الأوروبية وتمثلها لتلك القيم بشكل، أو بآخر. ويضاف إلى ذلك أن تركيا دولة كبيرة بنسبة ولادات مرتفعة، كما أن عدد سكانها البالغ 78 مليون نسمة يعتبر الأكبر من أي دولة في الاتحاد الأوروبي ماعدا ألمانيا (83) مليون نسمة، ناهيك عن الرفض القاطع الذي تبديه الحكومة الفرنسية لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما يقلل من حظوظ أنقرة في الدخول إلى الفضاء الأوروبي. والسؤال هو لماذا لم يصارح الأوروبيون تركيا في وقت مبكر ما داموا لا يريدونها في الاتحاد الأوروبي من خلال وضع هياكل وآليات محددة للشراكة والتعاون يكون من شأنها استيعاب المشكلة التركية (أو أي دولة أخرى غير أوروبية تتطلع إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي)؟ \r\n لكن امتناع الأوروبيين عن مكاشفة تركيا بأنها غير مستساغة داخل الاتحاد الأوروبي يرجع إلى مجموعة من الأسباب نذكر منها أن الانضمام التركي كان يبدو بعيداً وغير ملح. كما أن الكثيرين اعتقدوا بأن الانضمام التركي من شأنه مد الجسور بين العالمين الإسلامي والغربي، فضلاً عن تحمس الولاياتالمتحدة لذلك، والسعي إلى تجنب تهمة التمييز التي قد تطال الأوروبيين، ثم أخيراً الخمول الذي طغى على البيروقراطية الأوروبية واعتبار توسعها شرقاً أحد إنجازاتها الكبرى. وبرغم أن تركيا تملك قطاعاً صناعياً لا يقل عما هو موجود في بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل بولندا والمجر، فإن الغالبية الساحقة من الشعب التركي مازالوا يعيشون في مجتمع زراعي متخلف. ومع أن دولا أوروبية مثل إسبانيا والبرتغال واليونان، بل حتى بلدان مؤسسة مثل فرنسا وإيطاليا تملك قطاعاً زراعياً كبيراً، إلا أنه يظل قطاعا حديثا ومتطورا مقارنة مع نظيره التركي. ومرة أخرى تبرز المشكلة التركية المتمثلة في حجم سكانها الكبير وارتباط معظمهم بالزراعة. \r\n ولا شك أن \"كمال أتاتورك\" كان أحد أكبر الثوار وأكثرهم نجاحاً وطموحاً في الوقت المعاصر. فقد تمكن من الوصول إلى السلطة في بلد كان ينظر إليه من قبل الجميع على أنه شرقي الهوية، حيث عرف منذ القرن الخامس عشر حيوية ثقافية كبيرة دفعته إلى امتلاك إمبراطورية ممتدة ضمت البلقان واليونان وصربيا والبوسنة وألبانيا، بل وفي مرحلة من المراحل وقفت على أعتاب فيينا، وانتشر نفوذها إلى أغلب البلدان العربية حتى شمال أفريقيا. لكن مع حلول عام 1914 بدأت الإمبراطورية العثمانية في التداعي بسبب طبيعتها الإقطاعية ولجوئها أحياناً إلى العنف، مع انتهاجها أسلوباً غير مركزي في الحكم يتسم ببعض التسامح وتفويض السلطات للنخب المحلية وزعماء القبائل في المناطق البعيدة. وفي الأخير لم تعد الإمبراطورية قادرة على التعامل مع التحدي الذي طرحته قوى أخرى مثل الإمبراطورية النمساوية-المجرية والإمبراطورية الروسية، فضلاً عن تنامي الحركات القومية التي انطلقت مع بداية القرن التاسع عشر. \r\n وبعد خروج الإمبراطورية العثمانية مهزومة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب حليفتها ألمانيا، انطلق \"كمال أتاتورك\" في مسعاه لتحديث تركيا. وفي هذا السياق، قام باستبعاد الإسلام من موقعه المتميز في الدولة الجديدة ودفع باتجاه الإصلاح الديني، كما وضع نظاماً تعليمياً قائماً على العلمانية. وقد امتدت إصلاحاته لتشمل اللغة التركية بعد تخليه عن الحرف العربي وتبنيه للحرف الأوروبي، فضلاً عن تنظيمه لانتخابات ديمقراطية وتحديثه للإدارة والجيش، الذي أناط به مهمة الحفاظ على الإصلاحات وحماية الأسس العلمانية للدولة. وهي المهمة التي اضطلع بها الجيش التركي من خلال الانقلابات المتعددة التي قام بها ضد حكومات منتخبة، وقمعه للمطالب الانفصالية للأقليات القومية. وكان \"أتاتورك\"، الذي توفي في عام 1938، يطمح إلى تحويل تركيا إلى بلد أوروبي عصري، كما كان يؤمن بأن مصير تركيا هو إلى جانب القوى الأوروبية. وبالطبع كان سيعتبر المساعي الحالية لانضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي أمراً يتفق مع رؤيته لتركيا أوروبية. \r\n ومنذ تأسيس الجمهورية الحديثة والنخب التركية تتطلع نحو أوروبا، وهي نخب أصبحت اليوم أوروبية التوجه والثقافة وتحتل مناصب دولية، كما أنها باتت جزءا من النظام السياسي الغربي. وبالطبع يكمن مستقبل تركيا في التعاون مع أوروبا، وليس كأداة للصراع في يد الإسلام السياسي، كما يتمناها بعضهم، لا سيما وأن رؤية \"أتاتورك\" لتركيا كانت قائمة على التفرد والسيادة. ولعل هذه الرؤية هي ما يتعين على تركيا التمسك بها بأن تسعى إلى احتلال موقعها كشريك حقيقي للاتحاد الأوروبي بدلاً من أن تكون عضواً فيه. \r\n \r\n كاتب ومحلل سياسي أميركي مقيم بفرنسا \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"تريبيون ميديا سيرفسز\" \r\n