ومما لا شك فيه أن الصحافيين البريطانيين والأمريكيين مستقبلون متحمسون لهذه الدعاية، وفي يوم الأحد الماضي ورد وصف بعبارة "تصعيد خطير" في تقرير للاذاعة البريطانية "بي بي سي" يتحدث عن الأزمة الحالية في الشرق الأوسط، ولم يكن التقرير المذكور يصف مقتل 130 لبنانياً حتى ذلك اليوم نتيجة لألفي طلعة قامت بها الطائرات المقاتلة "الإسرائيلية" وقصفت خلالها الجسور والطرق والمطارات ومصافي النفط، وأجبرت نصف مليون شخص على الفرار من منازلهم، بل كان التقرير يتحدث عن صواريخ اطلقها مقاتلو حزب الله في ذلك اليوم على مدينة حيفا وأدت إلى مصروع ثمانية "اسرائيليين". \r\n \r\n ومن المفارقات أن تقريراً عن الهجوم لقناة "فور نيوز" التي تُعد القناة الأكثر ليبرالية في بريطانيا، حمل عنوان "لبنان يحترق"، وتكمن المفارقة في حقيقة أن ثلاث دقائق من الفيلم المصاحب للتقرير ومدته أربع دقائق تركزت على قصف حيفا، في حين تم تخصيص نحو عشر ثوانٍ لرد "إسرائيل" على الهجوم والذي تمثل في قتل 16 شخصاً داخل مبنى يستخدمه عمال الانقاذ في مدينة صور جنوبي لبنان، ويبدأ الفيلم بتوضيح كيف حذر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله من ان قصف حيفا كان "البداية فقط". وكما فعلت "فاينانشيال تايمز" و"ديلي ميل" و"ديلي ميرور"، تفادت قناة "فور" ذكر تحذير نصر الله بأن قصف حيفا هو البداية فقط "في حال واصلت "إسرائيل" قصفها للبنان". \r\n \r\n وأورد موقع "بي بي سي" أونلاين مقالة عن هجوم حزب الله الصاروخي على حيفا حملت عنوان "هجوم فتاك من حزب الله على حيفا". واستخدم الموقع في مقالته ألفاظاً أخف بكثير لوصف سقوط الضحايا المدنيين اللبنانيين جراء القصف "الاسرائيلي" حسبما اوضح الصحافي جوناثان كوك الموجود في "إسرائيل" على موقع زدنت عندما كتب ما يلي: "إن اولئك القتلى وكثير منهم نساء وأطفال لا يكاد يذكرهم احد، ويبدو أن حياتهم لا معنى ولا أهمية لها في هذه المواجهة". \r\n \r\n وكذلك كانت اللامبالاة إزاء مصير المدنيين اللبنانيين الذين هربوا من منازلهم في قرية مروحين الحدودية بناء على أوامر "إسرائيل"، فبينما كان سكان القرية يغادرونها في قافلة يوم السبت الماضي، هاجمت المقاتلات "الإسرائيلية" قافلتهم وقتلت 20 شخصاً من بينهم تسعة أطفال على الأقل، وكتب الصحافي البريطاني المعروف روبرت فيسك في صحيفة "الاندبندنت" عن عجز فرقة المطافئ المحلية عن إطفاء النيران التي نتجت عن قصف الطائرات لقافلة السيارات، الأمر الذي أدى إلى احتراق جميع الضحايا في تلك المذبحة، وسخر فيسك، في مقالته من الهمجية "الاسرائيلية" عندما كتب يقول: "وهكذا تم القضاء على هدف "ارهابي" آخر". وأما صحيفة "ديلي تلجراف" فقد جاء عنوان تقريرها عن هذه الوحشية كما يلي: "تحميل المسؤولية لايران مع اتساع معركة لبنان"، ووصفت "بي بي سي" ووسائل اعلام أخرى عملية قتل مدنيي مروحين ومدنيين لبنانيين آخرين بأنها جاءت "انتقاماً" لقصف حيفا، على الرغم من ان "إسرائيل" ظلت تنفذ غارات وهجمات كهذه على تجمعات مدنية وسكانية على مدى اربعة أيام متواصلة قبل قصف حزب الله لحيفا. \r\n \r\n وتواصل حديث وسائل الاعلام الغربية عن هجمات طيران وصواريخ بارجات "إسرائيل" على لبنان ووصف تلك الهجمات بأنها "رد" و"انتقام" على هجمات حزب الله، وبطريقة شبه طفولية يضع صحافيو وسائل الاعلام الغربية مقدمات تقاريرهم عن الاحداث استناداً إلى التصرفات "الإسرائيلية"، وعندما تصعّد "اسرائيل" هجماتها وقصفها يصف هؤلاء الصحافيون الهجمات السابقة مباشرة من قبل حماس أو حزب الله بأنها مسببة للرد "الإسرائيلي" في حين يتجاهل اولئك الصحافيون تماماً الهجمات والعمليات "الاسرائيلية" السابقة التي يمكن ان تكون هي المسببة لرد الفعل من جانب حماس أو حزب الله. وجاء في افتتاحية لصحيفة "الجارديان" في يوم الاثنين الماضي أن اليوم السادس للهجمات الجوية "الاسرائيلية" شهد مصرع 47 شخصاً واصابة 53 آخرين ليرتفع عدد القتلى في لبنان إلى 210 وفي "إسرائيل" إلى 29. \r\n \r\n وجاء في الافتتاحية: "ويجدر بنا ان نتذكر ان فوضى نهاية الاسبوع هذه بدأت قبل ثلاثة أسابيع عندما "اختطف" مقاتلون فلسطينيون جندياً "إسرائيلياً"". \r\n \r\n وهكذا نرى أن هذه "الفوضى" تتم الكتابة عنها من التاريخ، فعلى سبيل المثال، هناك حقيقة انه بين يناير/كانون الثاني الماضي إلى 30 مايو/أيار الماضي وطبقاً للمركز الفلسطيني لحقوق الانسان نفذت القوات "الإسرائيلية" 18 عملية اغتيال استهدفت ناشطين فلسطينيين. \r\n \r\n وبين 29 مارس/آذار إلى 30 مايو/أيار الماضيين، وقع 77 هجوماً جوياً على مراكز سكانية ومكاتب حكومية وبنيات تحتية أخرى فلسطينية اطلقت خلالها القوات "الإسرائيلية" نحو 4،000 قذيفة مدفع خلال الفترة ذاتها، وبين 26 مايو/أيار و21 يونيو/حزيران الماضي لقي أكثر من 40 فلسطينياً مصرعهم من بينهم 30 مدنياً منهم 11 طفلاً وامرأتان حاملان، ولم تعتبر أي وسيلة من وسائل الاعلام الغربية واحدة من هذه العمليات الوحشية "استفزازاً". \r\n \r\n وتسمح قراءة التاريخ القريب التمييزية هذه لوسائل الاعلام بتصوير الاجراءات "الاسرائيلية" على أنها تتم في سياق "الدفاع عن النفس". \r\n \r\n وقد كتب تشارلز حارب من الجامعة الأمريكية في بيروت في صحيفة الجارديان يقول: "استناداً إلى حقها في الدفاع عن النفس، ردت "إسرائيل" بقصف البنية التحتية للارهاب في لبنان". \r\n \r\n وجاء في "فاينانشيال تايمز": "اختلفت القوى الكبرى في العالم في ما بينها إزاء هجمات القصف الجوي "الاسرائيلي" على لبنان أمس، حيث أكد الرئيس الأمريكي جورج بوش على حق "إسرائيل" في الدفاع عن النفس، واتهم مسؤولو روسيا والاتحاد الأوروبي "إسرائيل" باللجوء إلى اجراءات غير متناسبة". \r\n \r\n وعلى مدى الشهر الماضي، كانت هناك العشرات من الاشارات من هذا النوع في الصحافة البريطانية إلى موضوع حق "اسرائيل" في الدفاع عن النفس. وقد تمكنت من العثور على إشارة واحدة فقط إلى إمكانية ان تكون عمليات المقاومة الفلسطينية مبررة استناداً إلى تلك الحجة ذاتها. \r\n \r\n ويمثل هذا جزءاً من اتجاه ثابت في مواضيع التغطية الاعلامية على مدى عقود طويلة. ويقال دائماً عن الغرب وحلفائه انهم يتصرفون لأسباب دفاعية أو انطلاقاً من اهتمام انساني، في حين يكون الاعداء الرسميون المعتدين دائماً، وبالتالي يتم اضفاء الشرعية على الاجراءات الغربية في اذهان الرأي العام، والنتيجة هي أننا نجد في الشرق الأوسط دولة قوية مدعومة من الغرب وهي "إسرائيل" تستطيع ان تلحق دماراً وخراباً وتسبب الموت والإبادة وسط جيرانها الأقل قدرات منها وفي الأراضي التي تحتلها مع افلاتها من العقوبة بسبب ما تتمتع به من حصانة سياسية، وفي الوقت الذي كتبت فيه مقالتي هذه لقي 300 لبناني مصرعهم، في حين قتل على الجانب "الاسرائيلي" 29 شخصاً. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال وسائل الاعلام الغربية تصوّر "إسرائيل" كضحية تدافع عن نفسها ضد العدوان. \r\n \r\n والعنصر اللافت هنا هو غسل الدماغ. وقد انتبه كريس هدجز وهو مراسل خارجي سابق في "نيويورك تايمز" ويعمل حالياً كزميل في معهد "نيشن" إلى هذا الجانب حين كتب مؤخراً يقول: "هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها اسر جنود "إسرائيليين". لقد شهدنا مفاوضات مريرة وطويلة، بشأن لبنانيين مختطفين، وقد اجتاحت "إسرائيل" الأراضي اللبنانية على مدى سنوات وسنوات، وهذا أمر معروف للبنانيين ولكنه غير معروف جيداً على الأرجح للآخرين". \r\n \r\n ويتذكر هدجز، أيضاً، أن القصف الجوي المكثف لم يكن يعتبر دائماً الرد "الإسرائيلي" الضروري. وفي عام 2004 افرجت "إسرائيل" عن اكثر من 400 أسير عربي مقابل جاسوس "إسرائيلي". \r\n \r\n وبالنسبة لوسائل الاعلام الغربية لا وجود لمختطفين (بفتح الطاء) لبنانيين وفلسطينيين، تماماً كما يتجاهل اعلامنا المدنيين الفلسطينيين الذين لقوا مصرعهم خلال شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين. كما ان الفقر وسوء التغذية والقمع السائد داخل السجن المفتوح الشاسع أي غزة لا وجود لها بما ان "الدفاع عن النفس" هو المبرر لكل الاجراءات "الاسرائيلية". \r\n \r\n إن دور الاعلام الغربي هو إظهار الغرب على أنه يتسم بالخير أساساً. وأما اللجوء إلى لعب أي دور آخر فإنه يهدد بالكشف عن الحقائق القبيحة للمواطنين العاديين البريطانيين والأمريكان، وهم الذين لن يقبلوا ما يجري فعلاً، وربما يقاومونه. وكما كان الحال دائماً، فإن التهديد الرئيسي للحكومات الغربية وبالتالي فإن الأهداف الرئيسية للدعاية، هم الناس أنفسهم الذين تزعم حكومات الغرب أنها تحميهم. \r\n \r\n \r\n \r\n * رئيس تحرير مشارك في موقع "ميديالنس" \r\n