وفجأة رأيت أمامي الكثير من الأعلام الكرواتية المعلقة في الشوارع الرئيسية وعلى واجهات المباني الحكومية، والسيارات التي تضع لوحات أرقام كرواتية وبدا لي أن الكروات لا يريدون أن يكونوا جزءا من البوسنة. \r\n منذ عشر سنوات بدأت الولاياتالمتحدة وأوروبا بناء دولة من ثلاث جماعات عرقية متحاربة، وذلك عندما اجتاحت قواتها وقوات حلف ''الناتو'' البلاد عبر ''نهر سافا'' لإنهاء الحرب العرقية وفرض دستور ينص على أن البوسنة دولة موحدة متعددة الأعراق. ولكن تلك الدول قامت بصياغة بنية فيدرالية غير محكمة قدمت تنازلات كبيرة للكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس الذين تعرب الغالبية العظمى منهم عن عدم رغبتها في العيش في دولة يهيمن عليها المسلمون. \r\n كان التدخل الإنساني هو الذي شغل إدارة كلينتون في ذلك الوقت كما كان الاتحاد الأوروبي قد بدأ لتوه توسعاً جذرياً نحو الشرق، أما الآن فإن انشغال الأميركيين والأوروبيين في أمور أخرى أدى إلى تراجع اهتمامهم بالبوسنة. ومع ذلك فإن الحملة لإنقاذ دولة مسلمة- مسيحية تقع على حافة أوروبا لازالت تمضي بشكل متعثر. \r\n وقد لاحظت خلال زيارتي الأخيرة لتلك الدولة أن أعداد قوات حفظ السلام قد تقلصت بشكل كبير منذ آخر سنة عملت بها هنا .1998 ويذكر أن العنف والفوضى كانا قد سادا البوسنة لمدة ثلاث سنوات في بداية التسعينيات، وذلك قبل أن تتدخل أميركا والغرب بقوات كبيرة لإيقاف القتال والتوصل لاتفاقية ''دايتون'' التي أسست إطاراً للسلام. ولأسباب عديدة اختار السياسيون القوميون أسلوب المقاومة السياسية بدلا من التمرد المسلح، حيث قاموا بعرقلة عودة اللاجئين، وعطلوا القبض على مجرمي الحرب، وقاوموا فكرة توحيد القوات المسلحة. وخلال تلك المرحلة كانت قوات حفظ السلام تتدخل إما لمراضاة طرف أو قسر طرف آخر أو لترحيل المشتبه بكونهم مجرمي حرب إلى محكمة لاهاي. \r\n وخلال الثلاث سنوات الأولى كان الرجل المسؤول عن مشروع بناء الدولة البوسنية هو ''بادي أشدون'' الزعيم السابق لحزب ''الديمقراطيين الأحرار'' البريطاني. وخلال مقابلتي له خلال زيارتي الأخيرة، بدا الرجل مرهقاً وحاد الطبع. فعندما سألته عما إذا كان الكروات والصرب ملتزمين بدولة واحدة قال لي بنفاد صبر: '' إنهم قد خاضوا حرب تطهير عرقي منذ عشر سنوات كي تقوم هذه الدولة. فهل تتوقع أنهم بعد عشر سنوات سيؤمنون بالدولة التي فعلوا كل ذلك من أجل ألا تقوم أصلا''. واعترف لي ''أشدون'' بأنه بصفته ''المممثل الأعلى'' فإنه يمتلك سلطات وصلاحيات كبيرة وأنه قد قام بالفعل خلال مدة إقامتي بالوقوف في وجه محاولة قامت بها سلطات سراييفو لإطلاق اسم الزعيم البوسني السابق علي عزت بيجوفيتش على المطار الدولي وذلك على أساس أن وضع اسم زعيم مسلم على واجهة المطار سيكون مستفزا للجماعات العرقية الأخرى. وكان محرجاً ل''أشدون'' أن تُقام الذكرى السنوية لعزت بيجوفيتش بعد ذلك بأسبوع. وأثناء حفل التأبين وفي حضور أعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي ألقى رجل دين مسلم كلمة بالعربية كان واضحاً أنها موجهة ضد ''أشدون'' حيث قال: ''إن حقنا في تذكر عزت بيجوفيتش يعادل حقنا في ممارسة الحرية وإن مصادرة حريتنا في تأبين ذكراه تمثل مصادرة لحريتنا''. ويأمل الزعماء الأوروبيون أن يؤدي احتمال انضمام البوسنة للاتحاد الأوروبي إلى التوصل إلى اتفاق بين الأطراف على تسوية المنازعات بينها. وقد استخدم ''أشدون'' الورقة الأوروبية هذا الخريف عندما كان يحاول إقناع زعماء صرب البوسنة بالقبول بقوات مسلحة موحدة، وهو ما أثمر في النهاية قبول الصرب بهذا الخيار. وإثرها قام الاتحاد الأوروبي بفتح باب المفاوضات مع البوسنة وهي الخطوة الأولى لنيل عضوية أوروبا الموحدة. \r\n وعندما التقيت ببعض صرب البوسنة لاستطلاع آرائهم حول هذا الموضوع تبين لي أنه على الرغم من أن أغلبيتهم العظمى تشعر بالندم على ما اقترفوه من فظاعات أثناء الحرب الأهلية هنا فإنهم -حتى أكثرهم اعتدالاً- ليست لديهم الرغبة في إقامة دولة متعددة العرقيات، أو التخلي عن القطاع الذي احتلوه أثناء الحرب. كما تبين لي أن عدداً قليلاً من الصرب هو الذي يوجد لديه استعداد للنظر في التخلي عن حكمهم الذاتي. وليس الصرب وحدهم في ذلك بل الكروات، أيضا حيث يخشى الاثنان أن يصبحوا على الهامش أو أن يتم اجتياحهم من قبل البوسنيين المسلمين. وبعد أن صمتت المدافع تبدت المشاعر بطرق أخرى. فعندما فاز فريق صربيا لكرة القدم على نظيره البوسني في شهر أكتوبر الماضي قام صرب البوسنة المنتشون بالنزول إلى شوارع الجزء الذي يقيمون فيه في حين كانت سراييفو الواجمة تراقب المشهد في صمت. \r\n إن إعادة الإعمار في البوسنة التي لا تزيد مساحتها على مساحة خمس العراق قد بدأت تواً. وهي عملية معقدة تجري بعيدا عن أضواء الكاميرات بسبب عدم وجود صراع ولا نزيف دم هنا كما في العراق. ولكن العمل الدبلوماسي الشاق الذي يمضي قدما يجعل من توحيد الدولة هدفا قابلا للتحقيق. وقد يأتي يوم يعمل فيه سكان البوسنة على اختلاف أديانهم وعرقياتهم معا من أجل وضع أساس تحقيق هذا الهدف. \r\n ديفيد بوسكو \r\n محرر رئيسي بمجلة ''فورين بوليسي'' عمل مراسلا في البوسنة خلال الأعوام 1996-1998 \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست