رفضاً لكل ذلك فقد جاءت ''لا'' البرلمان البريطاني قوية في وجه بلير. كما تصادف صدور هذا القرار البرلماني مع صدور كتاب حديث لسير كريستوفر ماير، السفير البريطاني السابق لدى الولاياتالمتحدة الأميركية، تحت عنوان ''أسرار البعثة الدبلوماسية''، وهو كتاب حول علاقة التحالف التي جمعت ما بين بلير والرئيس جورج بوش عشية ذهابهما معاً إلى الحرب على العراق، على رغم افتقار تلك الحرب للشرعية الدولية وموافقة المجتمع الدولي عليها. وكما بات معلوماً لدى القاصي والداني الآن، فقد ثبت خلو العراق من أي أسلحة دمار شامل، برر بها الحليفان حربهما على نظام صدام حسين! وكما جاء في الكتاب المذكور، فقد ''تبين خطأ الاعتقاد الذي شاع في أوساط كافة دوائر ووكالات الاستخبارات الغربية، عن وجود برامج وأسلحة دمار شامل في العراق. كما علمت هذه الوكالات جميعا أن الأميركيين سلموا بصحة تلك المعلومات الاستخباراتية، خلافاً لخبراء تفتيش هذه الأسلحة المقيمين في العاصمة النمساوية فيينا، والذين يدركون تخلي العراق عن تلك البرامج والأسلحة، وكانوا بصدد تأكيد هذه المعلومة قبيل اندلاع الحرب مباشرة''. \r\n يذكر أن ماير نفسه كان من بين البريطانيين المؤيدين للحرب. وكان من رأيه وقتها، أن توني بلير لم يبد اهتماماً يذكر بالمصالح الحيوية لبلاده ولثقل الدور البريطاني وأهميته في الاستعدادات اللازمة لشن الغزو، قبيل انضمامه للتحالف الأميركي. ولكن الكاتب نفسه ينطلق من موقف مختلف تماماً اليوم، إذ يقول إنه كان في وسع بلير تفادي الأخطاء والكارثة التي أوقع فيها بلاده. ولكن الظاهر أن بلير كان مأخوذاً ببريق البيت الأبيض، وأنه كان تحت تأثير سطوة ونفوذ الرئاسة الأميركية، الأمر الذي دفعه إلى التنازل عن مسؤولياته السيادية إزاء بلاده، لصالح واشنطن، فانحنى أمام حليفه الأميركي. مقابل هذا السلوك، يذكر أن القادة البريطانيين -سيما رؤساء الوزراء منهم- كانوا على الدوام أكثر جدية وتمسكاً بالمواقف السيادية لبلادهم أمام البيت الأبيض. \r\n فعلى سبيل المثال كان هارولد ويلسون رئيس وزراء بريطانيا، خلال فترة مضطربة مرت بها الولاياتالمتحدة الأميركية بين عامي 1964و،1970 ووقتها كان الرئيس الأميركي ليندون جونسون، من طراز القادة الذين لا تجد كلمة ''لا'' سبيلاً لآذانهم مطلقاً، وطلب حينئذ من حليفه البريطاني إرسال قوات إلى فيتنام، ولو كان من باب إظهار القوة والعضلات العسكرية فقط. ولتذليل الطلب وتخفيفه، طلب جونسون من حليفه البريطاني أن يبعث مجموعة صغيرة، وإن كانت لواءً واحداً من قوات الحرس الملكي. ولكن جاءت ''لا'' ويلسون قوية في وجه الرئيس الأميركي، ومملوءة بالتعبير عن أنه ليس لبريطانيا أدنى رغبة في التورط فيما بدا لها مخاطرة كارثية -على حد تعبير ويلسون- على إثر الفشل الذريع الذي منيت به فرنسا في سحق الانتفاضة الشيوعية في منطقة الهند الصينية. وكانت بريطانيا قد مرت سلفاً بتجربتين مريرتين للتحرر الوطني هناك، الأمر الذي دعا ويلسون إلى تفادي تكرار التجربة مرة أخرى، إرضاءً لعيون واشنطن. \r\n وفي العام 2002-2003 كان الوضع هو نفسه تقريباً، إذ كانت واشنطن في أمس الحاجة لأن تكون لندن طرفاً أساسياً في غزو العراق، لأن مشاركة كهذه، فيها ما يستدعي ذكريات ماضي التحالف الحربي بين الدولتين، علاوة على ما تضفيه مشاركة بريطانيا من شرعية للحرب التي جهز لها بوش على بغداد، ولمجمل سياساته الخارجية. \r\n وعلى حد تعبير ماير، فقد ورد على لسان لويس سكوتر ليبي أن الحليف البريطاني هو الوحيد الذي يهم واشنطن. وفي وسع المرء أن يتذكر هذا جيداً مع دنو لحظة شن الغزو، حين كانت بريطانيا لا تزال تصارع من أجل الحصول على قرار ثان من مجلس الأمن الدولي، لإكساب الحرب مشروعيتها ولإسكات الرأي العام البريطاني المناهض للحرب. رداً على تلك ''المماحكة'' البريطانية -كما بدت لوزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد- قال هذا الأخير إن بلاده لا تأبه كثيراً لأن تشارك بريطانيا في الحرب أم غير ذلك. بل أكد رامسفيلد صراحة عدم حاجة أميركا للمشاركة البريطانية في الغزو. وبالطبع فقد كان ذلك التصريح مناورة مخادعة من جانب رامسفيلد، إذ كانت بلاده في أمس الحاجة لتحالفها مع بريطانيا، إضافة إلى حاجتها للمشاركة البريطانية العسكرية الفعلية في الحرب. وحسب ما قاله ماير فإنه كان مستحيلاً على رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، أو سابقها وينستون تشرشل، أن يخضعا بلادهما لذلك الخنوع المذل أمام المصالح الأميركية، مثلما فعل بلير. وهو الأمر نفسه الذي تعفف عنه رئيس الوزراء الأسبق ويلسون. \r\n والشاهد أن تملق بلير لواشنطن لا يزال يمثل سمة غريبة من سمات عهده منذ لحظة توليه منصبه، مما أثر سلباً على كافة القضايا ذات الصلة بالمصالح الأمنية والحيوية لبلاده. وكم كنت سأبدي امتعاضي وتبرمي وضيقي منه، فيما لو كنت مواطناً بريطانياً، سيما في ظل الظروف الحالية التي يمر بها العراق الآن. \r\n ينشر بترتيب خاص مع تريبيون ميديا سيرفيز \r\n