في الوقت الذي طرحت فيه تركيا نفسها على الرأي العام الاوروبي باعتبارها دولة منضبطة ودقيقة ومنتظمة في مجال الاصلاحات الداخلية وفي تطبيقها لكل معايير ومقاييس الدولة الديمقراطية الحديثة, الا ان رئيس وزرائها الاصلاحي والمعتدل اردوغان يحاول منذ تسلمه الحكم في انقرة فرض تعييرات جوهرية غاية في الصعوبة والتعقيد على صعيد السياسات الخارجية التي ينتهجها, وذلك بصورة ذكية للغاية ومن دون ان يفرض على الحكومة والبرلمان اية قرارات ملزمة. ومنذ ان حقق حزب العدالة والتنمية التركي الذي يتزعمه انتصاراً ساحقا ومزلزلاً في الانتخابات العامة التي جرت في تركيا في شهر اذار من عام ,2002 وفي محاولة من جانب اردوغان وحزبه الحاكم لكسب مزيد من الشعبية والتأييد الدوليين, فانه بدأ بانتهاج سياسة التقرب والتحالف المبرمج والمتعمد مع اقرب واقوى حلفاء بلاده وبخاصة الولاياتالمتحدة واسرائيل حيث عمد في مراحل حكمه الاولى الى تعزيز تحالف بلاده العسكري مع اسرائيل التي كانت ولا تزال همزة الوصل واقرب المقربين من امريكا. \r\n \r\n في الحالة الاسرائيلية بدأ اردوغان في نيسان من عام 2002 ينتهج خطاً مغايراً ومتناقضاً تماماً مع خطه السابق, حيث بدأ يشن حملة انتقادات حادة وقوية على اسرائيل بسبب مواقفها وسياساتها القمعية والتدميرية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وضد القيادة الفلسطينية والمنظمات الفلسطينية المسلحة ووصف اردوغان في بيان رسمي اصدرته حكومته عملية اغتيال الزعيم الروحي لحركة حماس الشيخ احمد ياسين والهجمات التدميرية العسكرية المبرمجة على قطاع غزة والتي نفذها الجيش الاسرائيلي وبأوامر مباشرة من حكومة رئىس الوزراء الاسرائيلي اريئيل شارون, بانها ارهاب دولة. ليس هذا فقط, بل اردوغان تعمد تشبيه وضع الفلسطينيين مع وضع اليهود ابان حقبة الاضطهاد والتشريد في اسبانيا في العصور الوسطى. ومنذ اقامة دولة اسرائيل والحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تسعى جاهدة لتسويق سياسة معاداة السامية في كل انحاء العالم. والمسؤولون والزعماء الاسرائيليون لم يتركوا اي مجال لاي جهود او وساطات تركية لانهاء النزاع واحلال السلام في منطقة الشرق الاوسط. \r\n \r\n وهذه الحملات الانتقادية التركية الحادة رافقتها سلسلة من وخزات الأبر الدبلوماسية: فالسفير التركي في تل ابيب سميرلي اوغلو والقنصل العام التركي في القدس بيساكي تم سحبهما واستدعاؤهما الى انقرة للتشاور. وبعد ان كان اردوغان قد اعلن استعداده ورغبته بالالتقاء مع شارون والتحدث معه في شهر تشرين الثاني من عام ,2003 عاد وغير رأيه وموقفه وألغى هذا الاستعداد وهذه الرغبة, واعقب ذلك تأجيل زيارة متفق عليها مسبقاً كان نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي اولمرت يعتزم القيام بها الى تركيا في شهر نيسان من عام 2004 الماضي, وبالطبع لم يتم الاعلان عن موعد جديد لهذه الزيارة والتي لم تتم حتى الآن. \r\n \r\n وعندما تلقى اردوغان دعوة رسمية لزيارة اسرائيل فانه رفض القيام بهذه الزيارة بحجة ان هذا ليس هو الوقت المناسب لمثل هذه الزيارة. وفي شهر ايار الماضي قامت حكومة اردوغان بتعيين وزير الدولة التركي السابق دينسير Dincer كسفير خاص لتركيا لدى سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني. وعلى الصعيد العربي, سارعت حكومة اردوغان الى القيام بجهود سريعة وحثيثة لتحسين علاقاتها مع دول العالم العربي, وبخاصة مع سوريا ودول المنطقة الاخرى. وفي شهر كانون الثاني الماضي 2004 حل الرئيس السوري بشار الاسد ضيفاً على الحكومة التركية ليكون بذلك اول رئيس سوري يتم استقباله رسمياً في انقرة. \r\n \r\n ومثل هذه الحملات الانتقادية الباردة في علاقات تركيا مع اسرائيل, التقت وتجمعت مع مساعي وآمال اردوغان حول مسألة انضمام تركيا الى عضوية الاتحاد الاوروبي, حيث نجحت هذه المساعي والجهود التركية في تحقيق اختراق واضح بشأن هذه المسألة. ومن أجل توفير الجو المناسب, لتسريع عملية الانضمام للاتحاد الاوروبي, يبدو ان اردوغان قد مورست عليه سلسلة من النصائح الاوروبية لكي يخفف من مواقف حكومته وبلاده الانتقادية تجاه اسرائيل. وبينما عمدت عواصم دول الاتحاد الاوروبي الى فحص واختبار كل عنصر جديد في السياسة التركية, إلا ان سياسات وممارسات الحكومة التركية لم تصل الى اية نقطة اتفاق او لقاء بشأن تحسين علاقات الشراكة التركية الاسرائيلية على الاصعدة المتعددة وبات واضحاً بان العلاقات التركية الاسرائيلية قد وصلت الى نقطة اللاعودة من وجهة نظر بعض دول الاتحاد الاوروبي. \r\n \r\n اما فيما يخص باتفاق التحالف العسكري بين تركيا واسرائيل والذي تم ابرامه والتوصل اليه بشكل سري خلف ابواب مغلقة في شهر كانون الثاني من عام ,1996 فان جميع الجنرالات الذين شاركوا في التوصل الى هذا الاتفاق من الجانب التركي لم يعد لهم اية مواقع رسمية او صلاحيات, خاصة وان هذا التحالف لم يرق الى مرتبة الاتفاق السياسي, كما ان بنود هذا الاتفاق ظل طي الكتمان والسرية. وحتى رئيس الحكومة الاسرائيلية في ذلك الوقت بنيامين نتنياهو والذي تم في عهده التوصل الى هذا التحالف العسكري كان قد وصف هذا التحالف بانه »محور« من شأنه ان يغير ميزان القوى في الشرق الاوسط. اما وزير الدفاع الاسرائيلي في ذلك الوقت موردخاي فانه وصف هذا التحالف بالشكل التالي: »اذا ما التقت ايادي بلدينا, فان قبضتنا الموحدة ستكون هي الاقوى, وستشكل معاً قوة كبرى لا يستهان بها... \r\n \r\n هذا التحالف العسكري التركي الاسرائيلي تم فهمه واعتباره مصدر ضغط جوهري وكبير موجه ضد سوريا وضد ايران وضد عراق نظام صدام حسين, وهي الدول التي كانت تشكل المحور الثلاثي الرئيسي والمعادي للدولة اليهودية. وفي الوقت نفسه تحقق لتركيا مجموعة من الفوائد وبخاصة فيما يتعلق بحربها وحملتها الطويلة والمضنية ضد ثوار ومقاتلي حزب العمال الكردستاني المحظور. ويبدو ان الحكومة السورية قد فهمت الدرس والمغزى من وراء تهديدات رئيس الوزراء التركي الاسبق مسعود يلمظ, عندما هدد في عام 1998 بمهاجمة سوريا اذا لم تسارع الى طرد زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) اوجلان من الاراضي السورية, واذا سمحت ببقائه داخل اراضيها. وفي تلك الفترة الزمنية وجدت اسرائيل شريكاً اقليمياً قوياً هي تركيا لكي تلاطفه وتتحبب اليه وتتقرب منه وترتبط بعلاقات صداقة معه وتقيم معه تحالفاً عسكرياً يلبي طموحات الجانبين ومصالحهما المشتركة, ويساهم في اضعاف شوكة الخصوم والاعداء, سوريا بالنسبة لاسرائيل, والثوار الاكراد بالنسبة لتركيا. اما بالنسبة للولايات المتحدة فان اقامة مثل هذا التحالف الاسرائيلي التركي يعني لها مجدداً, وسيلة لتقوية وتعزيز نفوذها وهيمنتها على منطقة الشرق الاوسط الحيوية والاستراتيجية. \r\n \r\n هذا التعاون العسكري والتكنولوجي بين انقرة وتل ابيب كان بمثابة فرصة ذهبية سانحة لتركيا من اجل تحديث انظمة اسلحتها القديمة وبخاصة سلاح الدبابات وسلاح الجو, وانظمة صواريخها الدفاعية المتطورة, ومن اجل تبادل الخبرات في مجال المعلومات الاستخبارية واجهزة التجسس المتطورة. وهذا التبادل في الخبرات وفي التكنولوجيا الحربية تم بمعزل وبدون دراية دول الاتحاد الاوروبي وبدون الاجابة عن تساؤلات عديدة طرحها الاوروبيون بشأن طبيعة اتفاق التحالف العسكري التركي الاسرائيلي, وبالرغم من ان تركيا كانت ولا تزال عضوا في حلف شمال الاطلسي »الناتو« بالنسبة لاسرائيل فانها نجحت في قطف ثمار هذا التحالف وبخاصة في مجال الحصول على مياه عذبة من تركيا بواسطة قنوات وشبكات لتوصيل المياه التركية الى اسرائيل كل ذلك تم في عهد الحكومات التركية السابقة التي سبقت حكومة اردوغان. \r\n \r\n اما الان فان اردوغان ومن خلال هذا التغيير الكبير في مواقفه وسياساته وتوجهاته رأى بان الوقت اصبح ملائماً لفضح اسرار هذا التحالف والكشف عن اضراره وسلبياته, ولكي يقنع مواطنيه واصدقائه والدول المجاورة بضرورة انهاء هذا التحالف وهدمه وازالته, على الصعيد الداخلي, فان اردوغان يعلم جيدا بان الشعب التركي المسلم يعادي اسرائيل ولا يريد اقامة علاقات مع هذه الدولة. \r\n \r\n اما على الصعيد الاوروبي وعلى الصعيد العربي والاسلامي فان اردوغان مقتنع ايضا بان الاوروبيين والعرب والمسلمين اصبحوا يجاهرون بعدائهم وانتقاداتهم لامريكا ولسياسات الهيمنة والسيطرة والتحكم التي تمارسها ادارة المحافظين الجدد في البيت الابيض بزعامة جورج بوش, وبخاصة بعد الغزو الامريكي للعراق والتداعيات المتلاحقة لهذا الغزو. \r\n \r\n وكذلك في ضوء الاستراتيجيات والتوجهات والرؤى المتأصلة في نفوس صقور هذه الادارة من اجل تحقيق هذه الاهداف. \r\n \r\n ولم يعد سرا ذلك الموقف الجريء الذي اتخذته حكومة اردوغان والمتعلق برفضه المطلق السماح للقوات الامريكية باجتياح العراق والوصول الى اراضيه عبر الاراضي التركية وهو قرار الرفض الذي تم اتخاذه من الحكومة اولا ومن البرلمان التركي ثانيا ومن كافة فئات وشرائح الشعب التركي ثالثاً وذلك عشية اعلان الحرب على العراق في عام ,2003 ومثل هذا القرار التركي لم يتم اتخاذه بمحض الصدفة, وانما نابع من مدى ذكاء وحنكة وشجاعة اردوغان الذي اثبت انه زعيم فريد من من نوعه, وها هو الان يجني ثمار هذه السياسات الذكية والناجحة بعد ان فتح ابواب اوروبا على مصراعيها امام بلاده تركيا. \r\n \r\n وتبدو تركيا مستمرة الان في انتهاج سياساتها الخارجية الجديدة. فالامريكيون يعلمون الان بانهم قد فقدوا حليفا قويا وشريكا رئيسياً في منطقة حيوية واستراتيجية من العالم, وهم يدركون جيدا بانهم هم من يتحملون مسؤولية ذلك, والاسرائيليون بدورهم ادركوا مدى اخفاقهم في سياساتهم التي لم تعد خافية على احد والاسرائيليون يحاولون الان الانتقال من الجبهة التركية الى الجبهة الكردية بشمال العراق لمشاركة الاكراد في اضعاف الجبهتين الشيعية والسنية ومنعهما من فرض سيطرتهما الكاملة على العراق, لكن الشيء المؤكد الذي ينبغي على الاسرائيليين معرفته هو ان تحالفهم العسكري مع تركيا قد انتهى ولم يعد له اي وجود.0 \r\n \r\n »دي فيلت« الالمانية \r\n