وكانت تمتد بين الاف البيوت والمنازل الصغيرة, من ذات الطابق الواحد او الطابقين, متاهة من الطرقات الضيقة ابتداء من ذلك الميدان, انها مآوي اللاجئين. وكانت قد مضت عليهم في ذلك الوقت 26 سنة منذ ان وصلوا الى لبنان, فارين من القتال المندلع فيما كان فلسطين عام 1948 . \r\n \r\n رحت اهتدي في مشواري داخل المخيم, بالنظر الى قبة المسجد المطلية بالاصفر, التي علت المآوي الاسمنتية. وبعد ذلك انعطف مرتين لاصل الى بيت اثنتين من طالباتي, هما خديجة المبتسمة دائما, والمجتهدة جدا للتعويض عن شلل الاطفال الذي ابتليت به, واختها الصغيرة المشاكسة نجاة. \r\n \r\n وذات مرة, دخلت مأواهما ذا الباب الثقيل, وصعدت درجات من الاسمنت كانت تؤدي الى غرفة جلوس, تتكدس على طول جدارها فرشات النوم المطوية, والتي تسحب عنه للاستخدام ساعة النوم ليلا. وعلى البلكون الصغير الضيق, زرع الياسمين العطر والورود والاعشاب البرية في صفائح مطلية بالابيض, قديمة. وما ان دخلت الطالبات الاخريات, حتي قامت خديجة او والدتها بتقديم القهوة السادة العربية وبعض السكاكر او المعجنات. ثم نمضي 90 دقيقة نتحدث بلغة انجليزية ابتدائية. \r\n \r\n ولما عدت الى لبنان لمدة شهرين هذا الخريف, كنت اريد ان اعرف ما آل اليه مخيم اللاجئين, وان امكن اين آلت اليه خديجة ونجاة وصديقاتهما. وقد ساورني القلق عليهن طوال السنوات الماضية. فهذا المخيم الذي عشن فيه كان ساحة جريمة بشعة خططت اسرائيل لارتكابها فيه عام 1982 . ثم اصبح تحت الحصار الدائم من الميليشيات اللبنانية المطوقة له من 1985 - 1988 واسم هذا المخيم مخيم شاتيلا. \r\n \r\n في فترة 30 سنة, يمكن لاي مكان في العالم ان يتغير - لكنني لم اشاهد اي تغيير في مخيم شاتيلا. فبينما كان المخيم في يوم من الايام واسع الامتداد وقليل الارتفاع, فان اثار بصماته اقل بكثير عما كانت عليه, وان ارتفعت بعض مبانيه الى سبعة او ثمانية طوابق. وهو يبدو من الخارج كما لو انه بناء واحد آيل للسقوط, سجن من الاسمنت ملتصق ببعضه البعض ابتداء من الابنية المنخفضة حتى اكشاك السوق المحيطة به. \r\n \r\n ومن الداخل, وحيث توافرت مساحة, في السابق, في الطرقات لالتقاء الجيران واحاديثهم, ووصل قدر كاف من اشعة الشمس لحياة صف من النباتات, فان الابنية الان مكدسة تكديسا مكثفا بحيث لا تستطيع السيارات الدخول اليه, كما على المشاة والمارين حرف اجسامهم جانبيا كي يتجاوزا بعضهم, اضافة الى ان هذه الابنية على درجة من العلو والارتفاع بحيث لا يصل النور الى سطح الارض الا ذلك الضوء الرمادي, حتى وقت الضحى. \r\n \r\n قالت لي رئيسة الاتحاد النسائي في المخيم, التي رافقتني دليلا لي في جولتي, ان الرطوبة الطاغية ونقص التهوية, تهيء الفرص لانتشار امراض سوء التنفس انتشارا واسعا. وقد اخذتني الى ثلاثة اماكن خاصة في شاتيلا وحولها. \r\n \r\n كان احد هذه الامكنة موقعا دفن فيه بمقبرة جماعية اولئك الذين لاقوا نحبهم في مجزرة عام 1982 . واحتفظ به نصبا تذكاريا منذ ذلك الحين. وهو عبارة عن مكان محصور محاط بجدار ترابي, اوسع قليلا من دائرة ملعب البيسبول, ومسيج بالعشب والازهار البيضاء, ومزين بملصقات تحمل صورا محببة جزعة من اثار المذبحة. \r\n \r\n وكان مسجد المخيم احد هذه المواقع الخاصة الذي لم استطع التعرف عليه. فخلال الاقتتال في الفترة بين 1985-,1988 منعت الميليشيات اللبنانية المحاصرة لشاتيلا سكان المخيم من الخروج لدفن موتاهم. وهكذا دفن المئات في المسجد بدلا من ذلك. \r\n \r\n وبعد ان خمد القتال, اعاد البناءون المهرة في المخيم بناء المسجد على اعمدة فوق ذلك المكان الذي استحال الى مدفن, والذي احتفظ به كذلك كنصب تذكاري. \r\n \r\n اما المكان الثالث الذي زرته فكان حضانة اطفال, المكونة من اربع غرف مطلية باللون الزهري, في الطابق الارضي من بيت, وكان يجلس فيها 82 طفلا, ممن ليسوا في سن الذهاب الى المدرسة, يرتدون السمق »لوقاية ملابسهم من الاتساخ« ويتعلمون الحروف بالعربية والانجليزية, ويستمتعون بحديث وقت استراحة الغداء. ويتمسك هؤلاء الاطفال بشدة, مثلهم في ذلك مثل آبائهم ومعلميهم واجدادهم, بأنهم لا يريدون البقاء في لبنان »كما ان معظم اللبنانيين مصممون هم الاخرون على عدم بقائهم«. \r\n \r\n فاللاجئون يريدون العودة الى فلسطين, لكنني لم اتأكد, ان كانوا مستعدين للانتقال الى دولة فلسطينية في الضفة الغربية, بدلا من العودة الى الممتلكات ذاتها التي تركها اجدادهم فيما اصبح اسرائيل عام 1948 . والى ان تقع تلك العودة, فان معظم هؤلاء اللاجئين مصممون على البقاء في شاتيلا, التي اصبحت بالنسبة للفلسطينيين رمزا راسخا لصمود شعبهم في وجه الانحيازات الكبيرة. لقد وجدت زيارتي هذه مفزعة. فالظروف المعيشية التي يحياها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان هي الاسوأ بين ابناء شعبهم في اي مكان. \r\n \r\n فهؤلاء الفلسطينيون من دون دولة, ولا توفر لهم الحكومة اللبنانية التعليم او العناية الصحية. ووكالة الاممالمتحدة لاغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - الانروا - المحاصرة, هي التي تؤمن لهم التعليم والعناية الصحية الاساسية »ولسن الثامنة عشر بالنسبة للاقلية المحظية, ولسن الخامسة عشر للبقية الباقية«. والدولة اللبنانية تحظر على الفلسطينيين العمل في جميع المهن, ومعظم الوظائف, باستثناء الاعمال اليومية الخدمية الوضيعة. \r\n \r\n ان الكثيرين, وربما معظم جيرانهم اللبنانيين يحتقرونهم علنا. ومن بين جميع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان, يعيش مخيم شاتيلا, وفقا لدراسة اعدها الاتحاد الاوروبي, اقسى واسوأ بيئة صحية ماديا. \r\n \r\n ومع هذا, تواصل دليلتي في مخيم شاتيلا, ومعلمو دار الحضانة, وسكان المخيم الاخرون الذين قدمتني لهم, يواصلون جميعا عملهم بتصميم راسخ, وبابتسامات عريضة تعلو وجوههم. \r\n \r\n ودليلتي تعرف الجميع في مخيم شاتيلا. وعندما سألتها عن خديجة ونجاة, فكرت مليا وقالت: »نعم, اعرف انهما نجتا من المجزرة في عام 1982 ... واعتقد ان الحال استقر بهما في امريكا«.0 \r\n \r\n \r\n \r\n »كريستيان ساينس مونيتور« \r\n \r\n