وربما أن المؤرخين الدبلوماسيين الأميركيين هم وحدهم الذين فكروا بالانتحار وهم يتأملون في إخفاقهم في تحقيق أقل تأثير ممكن في فهم الأميركيين لتاريخ أمتهم. وربما أن جمهور المستمعين الأجانب توقفوا قليلاً لدى ابتهاجهم بإمكانية انتصار \"كيري\" في نوفمبر، ليتأملوا بدهشة في ادعاء الاستقامة الذاتية والبراءة القومية التي أبداها المرشح الديمقراطي. وقد يسألون: ومن غيرُ سياسي أميركي يمكنه النظر إلى الخلف عبر السنوات المائتين الماضية، والإصرار على أن الولاياتالمتحدة لم تذهب يوماً إلى الحرب إلا عندما اضطرت إلى ذلك؟. \r\n \r\n لقد أرسلت الولاياتالمتحدة قواتها إلى القتال مرّات كثيرة طوال قرن ونصف؛ وفي مرتين فقط -الحرب العالمية الثانية وأفغانستان- فعلت ذلك لأنها \"مضطرة\". ومن المؤكد أنّها لم \"تُضطر\" إلى خوض الحرب ضد أسبانيا في 1898 أو المكسيك في 1846، وهي لم \"تُضطر\" إلى إرسال قوات \"المارينز\" إلى كوبا، وهاييتي، وجمهورية الدومينيكان، والمكسيك، ونيكاراغوا، في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وهي لم تخض حرباً مطوّلة ضد المتمردين في الفيليبين. وتبقى ضرورة تدخل \"وودرو ويلسون\" في الحرب العالمية موضوعاً ساخناً للجدل بين المؤرخين. \r\n \r\n وماذا عن الحرب التي خاضها \"كيري\" نفسه؟ لا يمكن ل\"كيري\" أن يصدّق أن حرب فيتنام كانت جزءاً من \"التقليد العريق\" المزعوم، وإلاّ لكان رمى بعيداً بكل وشاح تكريم حصل عليه. لكن تدخلات أميركا الأخرى أثناء الحرب الباردة في آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط هي أيضاً تدخلات إشكالية. فمعظم مناهضي حرب فيتنام اعتقدوا، مثل \"كيري\"، أنها من أعراض إخفاق أكبر للسياسة الخارجية، وهو نابع ممّا وصفه \"جيمي كارتر\" بأنه \"خوف مفرط من الشيوعية\". وتمّ التقديم للتدخلات الأخرى في الحرب الباردة بمبدأ مناهضة الشيوعية نفسه وبالمثالية الديمقراطية المصاحبة التي جرّت \"جون كينيدي\" بطل \"كيري\" إلى فيتنام. والولاياتالمتحدة، في تقديره، لم \"تُضطر\" إلى خوض الحرب في كوريا في 1950. ولم يتمكن \"كيري\" بعد فيتنام من اعتبار تدخل \"ليندون جونسون\" في 1965 في جمهورية الدومينيكان أمراً ضرورياً. أم أن \"كيري\" قَبِلَ بعد تأمل بمبرر الحرب الباردة لهذه التدخلات التي رفضها ذات يوم؟ \r\n \r\n ثم وقعت حروب ما بعد الحرب الباردة في التسعينيات. ولم \"تُضطر\" الولاياتالمتحدة إلى خوض الحرب لطرد صدّام من الكويت. ولا أحد يعلم أفضل من \"كيري\" الذي صوّت ضد حرب الخليج على رغم موافقة مجلس الأمن عليها بالإجماع. كما لا يمكن لأحد أن ينكر أن تدخلات إدارة \"كلينتون\" في هاييتي والبوسنة وكوسوفو كانت حروب اختيار. واتخذ \"كلينتون\" الخيار الصحيح في الحالات الثلاث، لكنه كان خياراً. فلماذا يستحضر \"كيري\" \"تقليداً\" أميركياً غير موجود؟ \r\n \r\n ربما أنّه يلوي التاريخ الأميركي لمجرد إلقاء أشد ضوء ممكن على حرب إدارة \"بوش\" في العراق. لكن ربما أن \"كيري\" ليس متشككاً متشائماً. فربما هو يعبر أخيراً عما يؤمن به حقاً وليس عن ماهية السياسة الأميركية بل ما ينبغي أن تكون عليه. \r\n \r\n وكان المبدأ الذي أعلنه \"كيري\" ليلة الخميس الماضي هو مبدئياً ما تؤيده حركة مناهضة الحرب والتيار السائد في الحزب الديمقراطي بعد كارثة فيتنام. وكانت صيحة \"ارجعي إلى الديار يا أميركا\" هي صيحة الذين صدّقوا زعم أن أميركا أفسدت العالم ونفسها ب\"حرب الاختيار\" في فيتنام وغيرها. \r\n \r\n ولم يقترح المدافعون عن المبدأ \"عودة\" إلى ماض أسطوري أميركي، بل اقترحوا ابتعاداً جذرياً عنه على مسار مختلف في السياسة الخارجية الأميركية. وكان هدفهم سحب القوة والنفوذ الأميركيين من أنحاء العالم. ولم يكن لديهم شك في أن نظرتهم إلى أميركا كانت وطنية، فهم راغبون في تخليص أميركا من الخطايا. \r\n \r\n فهل سيكون مدهشاً حقاً إذا عاد \"كيري\"، الذي تشكّلت حياته على نحو قوي بفعل حرب فيتنام، إلى رأي حول السياسة الخارجية قادته إليه تلك التجربة منذ 3 عقود؟ يبدو أن هناك رغبة متعمدة على كلا الجانبين في هذه الحملة لكي لا يتم اعتبار \"كيري\" جدياً كرجل ذي أفكار واعتقاد راسخ. لكن حقيقة تردده بوضوح حول العراق ربما تكون أفضل دليل على التزامه بالمعتقدات التي تتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية التي حملها عقد السبعينيات. \r\n \r\n ربما أن ممارسة \"كيري\" الحقيقية للتشكك في حسن النوايا كانت تصويته تأييداً لحرب العراق في خريف 2002. فبذلك الصوت، تجاهل كل شيء يعتقد أنه تعلمه من تجربته في حرب فيتنام. ولعله، بتأمله في الماضي، يشعر بأنه قايض شيئاً منه ليجعل نفسه قابلاً للانتخاب. ففي الأشهر التالية للحرب، اضطر إلى التظاهر بأنه فعل الصواب، ليس فقط لأن سياسياً ما لم يجرؤ على الاعتراف بالخطأ، بل لأن مستشاريه السياسيين يعتقدون أنه في عالم ما بعد 11 سبتمبر لم يكن معظم جمهور الناخبين يريد رئيساً مناهضاً للحرب. وطوال أشهر الحملة، درّب \"كيري\" نفسه على ضبط النفس لكي يبدو من الصقور. لكنه في قلبه، واستناداً إلى كل ما تعلم أثناء السنوات التي صاغت حياته، لم يكن من الصقور. وفي المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي، اتبع \"إدواردز\" النص بدقة، لكن \"كيري\" اتبع قلبه. \r\n \r\n وإذا أفصح \"كيري\" عن نفسه في لحظة صدق، فسيكون قد آن لكل شخص أن يلقي نظرة بالقدر ذاته من الصدق على ما سيقود البلاد إليه إذا تم انتخابه. ومن شأن \"مبدأ الضرورة\" الذي يتبعه، إذا كان متعمداً على نحو جدي، أن يقتضي اتباع مبدأ رفض العنف ومبدأ انعزالية أكثر شمولاً من كل المبادئ التي جربتها الحكومة الأميركية منذ الثلاثينيات. ومن شأن ذلك، وبالتعريف، أن يستثني كل الحروب التي تم خوضها لغايات إنسانية، وكل التدخلات التي تمت لمنع الإبادة الجماعية وللدفاع عن الديمقراطية أو حتى لدعم القانون الدولي ضد العدوان، كما كانت الحال في حرب الخليج. فهذه الحروب هي كلّها حروب اختيار. \r\n \r\n والمفارقة هنا هي أنه بالنسبة إلى شخص يحترف السعي إلى تحسين العلاقات مع بقية العالم، فإن مبدأ الضرورة لدى \"كيري\" سيُسند السياسة الأميركية على أساس المصالح الضيقة الذاتية وبقدر أكبر مما فعلته \"الأحادية\" المزعومة لإدارة \"بوش\". وبعض الأوروبيين قلقوا تماماً من أن ما يعتبرونه سياسة خارجية مفرطة الطموح لدى \"بوش\" ستكون متبوعة في الولاياتالمتحدة بردة فعل انعزالية قوية. وبعد خطاب \"كيري\"، ربما سيزداد قلقهم قليلاً. \r\n \r\n \r\n روبرت كاغان \r\n \r\n زميل أول لمؤسسة منحة \"كارنيجي\" للسلام الدولي \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"