مستقبل الشرق الأوسط بعد جورج بوش د.عبد العاطي محمد على مدى 8 سنوات هي عمر الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس الجمهوري جورج بوش، عاش الشرق الأوسط تطورات بالغة السخونة والعمق جعلته إقليما ملتهبا أكثر من أي عهد مضى، وعاشت السياسة الأميركية تجربة فريدة في تاريخها المعاصر قوامها اتباع سياسة خارجية تدخلية عنيفة وإقصاء لبقية القوى السياسية الدولية، سواء كانت القوى الدولية الكبرى التقليدية ممثلة في أوروبا واليابان أو الصاعدة مثل روسيا (بعد انهيار الاتحاد السوفياتي) والصين والهند، وكان حظ المنطقة العربية وفيرا فيما يتعلق بمظاهر التدخل والاستقواء، وإذا استثنينا أفغانستان تصبح هذه المنطقة هي المسرح الوحيد الذي تصلح شواهده لتقويم أداء هذه الإدارة، ومن ثم محاولة استشراف ما يمكن أن يطرأ على سياستها الخارجية عندما تحل قيادة جديدة على البيت الأبيض، سواء كانت من الديمقراطيين أو الجمهوريين.. والانطباع الأعم بين المراقبين هو أن تغييرا ما سيحدث في هذه السياسة يخالف ما سارت عليه طوال السنوات التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر، بينما يشتد الجدل حول ملامح هذا التغيير وآلياته، حيث إن الشواهد داخل الرأي العام الأميركي تتجه إلى المزيد من صعود الحزب الديمقراطي بأن يأتي الوافد الجديد على البيت الأبيض من بين صفوفه، مع توقع استمرار سيطرة الحزب على الكونغرس، وذلك بالنظر إلى الأخطاء الفادحة التي منيت بها الإدارة الجمهورية في العراق، فإن التوقعات تتجه إلى تغليب فلسفة الحزب الديمقراطي في صياغة السياسة الأميركية الجديدة بالشرق الأوسط، وحتى إن وقعت مفاجأة وفاز المرشح الجمهوري بالرئاسة فإنه سيواجه ضغوطا جماهيرية بأن يستعير الكثير من فلسفة منافسه. وفي البحث عن ملامح للسياسة الأميركية المنتظرة (بعد نحو عام من الآن)، هناك من يتوقع عودة الولاياتالمتحدة إلى العزلة استجابة لما هو معروف تقليديا منذ انتهاء حرب فيتنام بأن الشعب الأميركي يضع الأولوية دائما لشؤونه الداخلية، وقليلا ما يهتم بالشأن الخارجي، وبميل السياسة الأميركية عموما إلى تفضيل الدبلوماسية والضغوط السياسية غير المباشرة للحفاظ على مصالح أميركا في الخارج دون التورط في تدخلات عسكرية أو حروب، ووفقا لهذه النظرية أيضا فإن الإعجاب بالنموذج الأميركي لدى شعوب العالم الأخرى تحقق بمنجزاته الداخلية سواء في المجال الاقتصادي من خلال الرأسمالية أو في المجال السياسي من خلال تقديم أفضل نموذج لليبرالية أو الحياة الديمقراطية دفاعا عن قيمة الحرية، وبرغم الانحياز المطلق من جانب أميركا لإسرائيل، فإن ذلك الإعجاب بالنموذج الأميركي لم يهتز كثيرا لدى أبناء المنطقة العربية الذين غالبا ما أرجعوه إلى تأثير اللوبي اليهودي وعجزهم عن مواجهته داخل الولاياتالمتحدة، وزاد من هذا الإعجاب أن الولاياتالمتحدة ما كانت يوما دولة استعمارية في المنطقة العربية، والقصد هنا أنها لم تحتل أرضا عربية مثلما فعلت بريطانيا وفرنسا، ولم تتغير صورة أميركا إلى التدهور إلا بعد أن أصبحت دولة محتلة أو استعمارية في نظر العرب في ظل احتلالها الراهن للعراق. وفي سياق المراجعة الأميركية لما جرى على مدى السنوات الماضية فإن هناك اتفاقا واسعا بين الأميركيين على أن التدخل الخارجي المباشر والعنيف عاد عليهم بخيبة الأمل وخسارة فادحة ماليا وبشريا، ولكن العزلة أو الانكفاء على الداخل لم يعد خيارا يسيرا كما كان في الماضي البعيد، ففي ظل انتهاء الحرب الباردة وانفراد الولاياتالمتحدة بقيادة العالم، وفي ضوء مطالب العولمة التي تقتضي الانفتاح على العالم لا الانعزال عنه، لا تستقيم فلسفة العزلة مع مستجدات وضع الولاياتالمتحدة عالميا، ولذلك اتجهت في السنة الأولى من حكم جورج بوش إلى بناء تحالف دولي تلعب فيه الدور المؤثر.وكان ذلك تطويرا لمبدأ العزلة، حيث يشير إلى أن يكون هناك دور خارجي مباشر للولايات المتحدة في السياسة العالمية دون أن يؤدي ذلك إلى تورط عسكري من جانبها يدفعها إلى خوض حروب خارجية، ولكن أحداث 11 سبتمبر 2001 دفعت الرئيس بوش إلى أن يجعل من هذا التحالف قوة عسكرية تخوض الحرب في العراق، ومن قبل في أفغانستان وتزيد من صور الوجود عسكريا في إفريقيا وجنوب شرق آسيا ضمن حرب أخرى أوسع نطاقا ودون جدول زمني هي ما سمته بالحرب على الإرهاب. الديمقراطيون لا يريدون العودة ببلادهم إلى العزلة ولكنهم لا يريدونها تدفع الثمن لتدخلات مباشرة في شؤون الآخرين، ولذلك يحبذون استمرار العمل بآلية التحالف الدولي المناهض للإرهاب والمدافع عن نشر الحرية والديمقراطية والقيم الأميركية عموما، ولكن بمنظور آخر هو أن يعتمد هذا التحالف على الدبلوماسية وليس الردع أو الحروب، ومن هذا المنطلق فإنهم أقل حماسا من الإدارة الجمهورية فيما يتعلق بالانغماس في الأزمات الإقليمية، ويرون أن هذا التحالف لو أصبح متماسكا فإنهم يستطيعون التأثير في مجرى هذه الأزمات من بعيد دون أن يكون لهذا التأثير ثمن غال ماليا وبشريا كما فعلت إدارة بوش، ويتوازى مع ذلك اقتناع الديمقراطيين بأن الأطراف المباشرة الإقليمية هي القادرة وحدها على حسم أزماتها وإنهاء خلافاتها بسلام حيث لا جدوى من الدور الخارجي حتى لو كان قويا طالما أن الأطراف المباشرة غير مقتنعة به ولا مستعدة أو راغبة في إنهاء خلافاتها، وقد كان هذا وذاك واضحا في تقرير بيكر هاميلتون عن العراق الذي كان بداية «ثورة جديدة» على الرئيس بوش يقودها الديمقراطيون وبعض قوى الجمهوريين، وواصل الكونغرس بأغلبيته الديمقراطية الحملة ليس فقط بهدف تأمين انسحاب تدريجي لأميركا من العراق، وإنما لإرساء تقاليد سياسية مختلفة عما سارت عليه أميركا في سياستها الخارجية، ولذلك يشدد الديمقراطيون على أن الدور الأميركي الخارجي لا يتحقق بالانفراد في اتخاذ القرار الدولي وباستخدام آليات القوة المسلحة لتنفيذه، وإنما بالعمل الدبلوماسي داخل تحالف دولي متماسك، وبدفع الأطراف المباشرة في الأزمات إلى العمل المشترك وتحمل المسؤولية، وفي هذا الإطار فإنه في حالة وصول رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض (ومعه أغلبية في الكونغرس) فإن الإدارة الأميركية ستربط تدخلها بوجود مؤشرات قوية على إمكان تلاقي الأطراف المباشرة من ناحية، وتحقق التفاهم السياسي على صعيد التحالف الدولي الذي أقامته بعد أحداث 11 سبتمبر من ناحية أخرى. وبما أنه من الصعب عمليا توافر كل من التلاقي الشديد بين الأطراف المباشرة في الأزمات الإقليمية، والاتفاق واسع النطاق على صعيد التحالف الدولي، فإن ذلك يعزز تصور من يعتقدون أن الولاياتالمتحدة في عهد الديمقراطيين المفترض ستتجه إلى العزلة، وبالتالي استمرار الجمود في الشرق الأوسط (استبعاد التوصل إلى حلول في الملفات الساخنة كالقضية الفلسطينية والوضع في العراق ولبنان والعلاقات بين أميركا وكل من سوريا وإيران..) ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن إدارة بوش أعلنت بوضوح انتقادها الحاد للإدارة الديمقراطية السابقة لها على أساس أنها سكتت عن الممارسات السياسية الخاطئة للأنظمة العربية داخليا حرصا منها على الاستقرار الذي هو مهم للإبقاء على مصالح أميركا ممثلة في النفط وأمن إسرائيل، وأن هذا السكوت هو الذي أدى إلى ما لحق بشعوب المنطقة من أزمات وتسبب بشكل غير مباشر في أحداث 11 سبتمبر، وحيث يرغب الديمقراطيون الآن في تغيير السياسة الخارجية الأميركية التي اتبعها الرئيس بوش، فإن هذا يعني أنهم لا يفضلون سياسة التدخل في الشؤون الداخلية للأنظمة العربية ولا يؤمنون بأن التحول الديمقراطي يمكن أن يتحقق بهذا التدخل السافر، ويهمهم أن تبقى المنطقة مستقرة، وليست ساحة للاحتقان الدولي والإقليمي والداخلي، وقد يفهم البعض أن الديمقراطيين بهذا الطرح يبسطون الأمور إلى حد الإسفاف ويتجاهلون الحقائق ويقودون بلادهم في نهاية المطاف إلى فشل آخر من نوع مختلف، ولكنهم يردون على ذلك بعدة حجج قوية أولاها أن الإدارة الجمهورية جربت التدخل في الشؤون الداخلية للأنظمة العربية وفشلت، وكان ذلك من أسباب تدهور صورة أميركا عند العرب، وبدلا من أن يتحقق الاستقرار ازدادت المنطقة اضطرابا وسادتها أجواء الحروب لا السلام، وثانيتها أنها تتعامل مع منطقة معقدة المصالح والأهواء والثقافات الفرعية والبناء الاجتماعي والميراث التاريخي، ومن ثم فإن أطرافها المباشرة هي الأقدر فعلا على أن تحل مشكلاتها بنفسها لأنها هي التي تستطيع تحديد الممكن وغير الممكن، ولذلك فإنها لا تخضع لتصورات خارجية جاهزة مسبقا، بل يتعين التعامل معها بحكمة وبالتشاور وثالثتها أن ما تعتبره أي إدارة أميركية مصدرا لعدم استقرار المنطقة يتفهمه جيدا أي نظام عربي مهما تكن توجهاته السياسية، وهو الجمود السياسي الداخلي، والإرهاب (التطرف) والصراع العربي - الإسرائيلي، ويعمل من جانبه على محاصرة تداعياته، فالجميع لا يختلف على تحقيق الإصلاح واقتلاع جذور الإرهاب والتطرف الفكري وإقامة السلام العادل والشامل مع إسرائيل، ورابعتها أن الشرق الأوسط ليس حكرا على الولاياتالمتحدة، وإنما هو ملتقى مصالح أطراف دولية عديدة خصوصا على الصعيد الاقتصادي ومنها أوروبا والصين والهند واليابان وروسيا، ولا تستطيع أي إدارة أميركية تجاهل هذا الوضع مما يفرض ضرورة أن تكون سياستها تجاه المنطقة حصيلة تشاور بناء مع هذه الدول، تماما مثلما هو كذلك مع أطرافها المباشرة. ولكن طريق الديمقراطيين المفترض في الشرق الأوسط لن يكون سهلا لأسباب عديدة في مقدمتها أن إدارتي بوش (الأولى والثانية) ستترك تركة ثقيلة لأي رئيس ديمقراطي قادم ما بين حرب فاشلة في العراق راح ضحيتها الآلاف من العراقيين والأميركيين وانهيار في قدرات العراق وبين مناخ من حروب الكراهية في لغة الخطاب وانقسامات داخلية في البلدان العربية على قواعد إحياء النزعات العنصرية والطائفية وإشعال الفتن الدينية، ومن ناحية أخرى عدم الثقة العربية في نيات إسرائيل تجاه أي تسوية سياسية كبرى لقضية الشرق الأوسط والتي من الممكن أن تتزايد في ظل التعاطف التقليدي من جانب الديمقراطيين تجاه اليهود ودولة إسرائيل، ومن ناحية ثالثة عدم جاهزية الوضع العربي للاتفاق على أجندة واحدة للتعامل مع السياستين الأميركية والإسرائيلية بغض النظر عمن يتخذ القرار فيهما. عن صحيفة الوطن القطرية 14/10/2007