فى الخطاب المرصّع بعبارات بليغة تكاد تكون فلسفيّة، قال باراك أوباما إنّ الولايات المتّحدة مهمومة، أوّلًا بأوّل، بداخلها. وهذا الخطاب الذى تُدشَّن به الولاية الأوباميَّة الثانية يعيد التذكير بإحدى الحقائق البارزة فى الحياة السياسيَّة الأميركيَّة، وهى أنّ الديمقراطيّين، فى الغالب، أكثر انعزاليّة وأقلّ تدخّليّة من منافسيهم الجمهوريّين. فحتّى إيران و"ملفّها النووىّ" يبدو أنّ الإدارة القديمة – الجديدة ستعالجهما بالاحتواء لا بالمواجهة، ولا تكفى شهادة جون كيرى لإقناعنا بغير ذلك. وهذا، ما دام الكلام على إيران، يحمل على تذكّر إدارة ديمقراطيّة أخرى كان على رأسها جيمى كارتر: يومذاك، وحسب نقّاده الكثيرين، كان لتركيز كارتر على "حقوق الإنسان" أن أسهم فى إسقاط أحد أبرز حلفاء واشنطن، وهو شاه إيران. لقد كان التحليل المرتكز على حسبة جغرافيّة سياسيّة باردة يقول إنّ كارتر قد يفعل كلّ شىء إلاّ ترك الشاه يتهاوى، هو المقيم جنوب الاتحاد السوفييتى فى مناخ من احتدام الحرب الباردة. وكان أصحاب هذا الرأى يحتكمون إلى تجربة الأميركيّين مع محمد مصدق فى 1953 حيث بلغ تدخّلهم، فى ظل إدارة أيزنهاور الجمهوريّة، حدّ الإعداد لانقلاب عسكرى نفّذه الجنرال زاهدى، بعدما رفضت إدارة ترومان الديمقراطيّة فكرة انقلاب كهذا. والآن يقول التحليل الجغرافى السياسى البارد إنّ أوباما لا بد أن يتدخّل فى سوريا، إن لم يكن لحسابات إنسانية فمن أجل إسقاط الجسر الإيرانى مع المشرق العربى. هكذا ستكون إطاحة بشّار الأسد خدمة كبرى تُسدى إلى واشنطن التى لا يمكن إلا أن تساعد وتردّ مسبقًا بخدمة مماثلة. لكنْ لا. فى المقابل، فإنّ أوباما ذو همّة لا تفتر فى ما خصّ مطاردة "القاعدة" وإرهابها أو انتشار السلاح الكيماوى. وهذا، فى العرف الأميركى، وبعد تجربة 11 سبتمبر وما تبعها فى لندن ومدريد وسواهما، شأن داخلى، لا خارجى. صحيح أن مكافحة الإرهاب فى نظر الرئيس الحالى ينبغى أن لا تقود إلى حروب كالتى انساق إليها سلفه جورج دبليو بوش، إلا أنها ينبغى أن تُستأنف بالإصرار نفسه ولو بأدوات أخرى كالقواعد البعيدة والحلفاء المحليّين والطائرات من دون طيّارين. ما يُستنتج من أيّة مقارنة بين الموقف من إيران وسوريا والموقف من "القاعدة" هو أنّ الخارجى ينبغى أن يصبح داخليّاً من أجل أن تتدخّل الولاياتالمتحدة، أو أن هذه المعادلة هى، على الأقلّ، الحكمة الأوباميّة التى سيُعمل بها فى السنوات الأربع المقبلة. وبطبيعة الحال فإنّ العمل بموجبها فى ولاية ثانية لن يترشّح بعدها الرئيس سيكون أسهل وأقلّ تعرّضاً للابتزاز. وهذه معادلة حتّى لو وضعنا جانبًا ضعفها الإنسانى وقلّة اكتراثها بمصائر السوريّين، تبقى قصيرة النظر، خصوصًا حين تعتنقها الولاياتالمتحدة التى هى أكثر دول العالم تداخلًا بين ما هو داخلى وما هو خارجى. لكن إذا طبّقنا المعادلة إيّاها على سوريا بتنا أمام حصيلة كارثيّة تستدعى تأمّل قوى الثورة وتمعّنها. ذاك أنّ أكثر أوجه قوى الثورة السوريّة قابليّة لأن تُعدّ خارجيّة هو وجهها المتعلّق ب"جبهة النصرة"، وشقيقاتها لأنّها، أمريكيًّا تندرج فى الإرهاب. وهذا، كما نعلم، دأب النظام والصورة التى يعمل على تصديرها إلى العالم. فإذا تمادينا مع هذا المنطق وجدنا أنّ أفضل ما قد تصل إليه واشنطن هو الجمع بين تأييد معنوى وسياسى للثورة السوريّة لا يكلّف الكثير وبين إجراءات عملية ضدّ "جبهة النصرة" وشقيقاتها. وأغلب الظن أن صورة قاتمة كهذه تحضّ على ضرورة الإبداع السياسى الذى لا تبدو أدواته متوافرة كثيرًا، سيّما فى ظل القناعة التى باتت مكرّسة بأنّ الثورة لن تستطيع بذاتها إسقاط نظام مجرم يحظى إجرامه بدعم روسى وإيرانى كثيف. فليس مقبولاً أن "تنجح منظّمة ك(جبهة النصرة)»" فى أن تصبح همًّا أميركيًّا، وأن لا تنجح الثورة السوريّة فى ذلك. هنا فى الأمر خطأ ما لا يسعف التبرير فى علاجه. نقلاً عن الحياة اللندنية