\r\n \r\n وأصر بوش على أن أميركا، أمام تهديدات كتلك، تحتاج إلى استراتيجية من شأنها \"نقل المعركة إلى أرض العدو وتشويش خططه ومواجهة أسوأ التهديدات قبل أن تظهر\". وأطلق بوش على هذا المنهج اسم الضربات الاستباقية، ثم وسّعتها إدارته في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الرسمية التي تعهدت ب\"ردع الدول المارقة وحلفائها الإرهابيين\" قبل أن تتمكن من تهديد الولاياتالمتحدة. وشكّل الردع والاحتواء تعريفاً للسياسة الأمنية الاستراتيجية لأكثر من أربعة عقود. لكن سياسة الضربات الاستباقية تبدو مهترئة بعد أقل من عامين على إطلاقها. \r\n \r\n ويصر آيفو دالدر، وهو أحد المساعدين في مجلس الأمن القومي إبان عهد كلينتون، على أن تلك السياسة \"كعقيدة، باتت ميتة تماماً\". لا بل إن أحد الاستراتيجيين الجمهوريين المطلعين على التفكير الاستراتيجي في البيت الأبيض يعترف بأن أي رئيس يتطلع إلى تطبيق تلك العقيدة مرة أخرى، سيجد أن \"الحاجز مرتفع، وأن البلاد أكثر ممانعة\". \r\n \r\n والسبب بالطبع هو العراق الذي صار أول اختبار لتلك العقيدة. ففي البداية، بدا أن الحرب المعنية بخلع صدّام عززت الحجة الداعمة لهذه العقيدة. \r\n \r\n لقد أدى الغزو إلى تحرير العراق من الطاغية الوحشي وربما أنتج في نهاية المطاف مجتمعاً مستقراً وإنسانياً. لكن كل الأحداث منذ سقوط صدّام أضعفت الحجة الداعمة لعقيدة الضربات الاستباقية التي وضع بوش تعريفاً لها في \"ويست بوينت\". \r\n \r\n وجاءت أول ضربة لعقيدة بوش عندما أخفق الائتلاف في العثور على أسلحة التدمير الشامل التي أصر بوش على أنها المبرر الرئيس للحرب. وكان لذلك ضرر كبير، وخصوصاً لأن رؤية بوش أعطت قيمة كبيرة للتنبؤ بالتهديدات الخفية التي تشكل مبررات تقليدية للهجوم الاستباقي ومنها حشد الجيوش على الحدود. \r\n \r\n واحتفظ الرؤساء الأميركيون دوماً، ككل القادة في كل الأمم تقريباً، بحق شن ضربة استباقية على العدو الذي يستعد لشن هجوم وشيك؛ أمّا ابتكار بوش فاقتضى تطبيق \"مفهوم التهديد الوشيك\" على الأمم أو الجماعات التي تطور \"مقدرات\" يمكنها ذات يوم أن تهدد أميركا. لكن بعد الهزيمة الاستخباراتية التامة في العراق، بات من المؤكد أن يواجه بوش أو أي خليفة له مطالب أقسى، في أميركا وفي الخارج، بتقديم الأدلة قبل القيام بأي عمل. \r\n \r\n ومن شأن بناء التأييد لحرب استباقية أخرى أن يكون أيضاً مهمة أصعب لأن العراق، وبكل المقاييس، برهن على أنه أكثر تكلفة بكثير مما توقعت إدارة بوش. \r\n \r\n فالآن وصلت حصيلة الجنود الأميركيين القتلى في العراق إلى أكثر من 770 جندياً. أما تكاليف الغزو والاحتلال التي تحمّلها دافعو الضرائب الأميركيون فبلغت أكثر من 127 مليار دولار، ومن المرجح أن يكون مطلوباً في هذه السنة دفع مبالغ إضافية تتراوح ما بين 67 و79 مليار دولار، \r\n وهذا على ذمة تقرير نشره الديمقراطيون في لجنة الموازنة التابعة لمجلس النواب الأميركي. فالحرب والاحتلال أرهقا قدرات الجيش الأميركي على نحو مؤلم، وأديا إلى إحداث التوتر في علاقات أميركا مع الأمم الأخرى في كل العالم، حتى قبل فضيحة سجن أبو غريب. \r\n \r\n فهل يعني هذا أن عقيدة الضربات الاستباقية قد ماتت؟ أجل، هذا مرجح، على الأقل من ناحية معناها التوسعي الذي وظفه بوش في العراق، والذي يقتضي قيام الجيش بخلع أية حكومة تعتبرها أميركا معادية لها وذلك دون تقديم أي دليل على وجود تهديد وشيك. \r\n \r\n وحتى إذا كانت الولاياتالمتحدة قادرة على إخماد الاضطرابات في العراق وعلى تأسيس حكومة تتصف بقدر معقول من الديمقراطية، فليس هناك رئيس أميركي يمكنه أن يتطلع إلى تكرار هذه التجربة، ولا سيما إذا خسر بوش في الانتخابات في الخريف القادم. ويقول أحد الاستراتيجيين من الحزب الجمهوري إنه \"إذا تم طرد المهندسين من مناصبهم، فسيعني ذلك أن البنيان سيتقلص\".\r\n \r\n لكن ذلك لا يعني أن الرئيس الأميركي المستقبلي سيرفض تماماً مبدأ بوش في الردع والاحتواء أو يستبعد عقيدة الضربات الاستباقية في ظروف أضيق نطاقاً. ومن الأمور المعبّرة أن جون كيري شجب منهج بوش الذي يقتضي شن الضربات الاستباقية، لكنه على رغم ذلك يصرّ على أنه \"كان لكل رئيس منذ بداية الزمان\" حق في المبادرة بشن الضربات على خطر وشيك. \r\n ويقول مساعدو جون كيري إنه سينظر في مسألة شن ضربة استباقية لخلع نظام يؤوي علناً إرهابيين يهددون أميركا. لا بل حتى المتشككين، مثل \"آيفو دالدر\"، يقولون إن من المستبعد قيام الولاياتالمتحدة بحشد الطاقات من أجل عملية \"تغيير نظام\" أخرى في المستقبل القريب، لكنها على رغم ذلك يمكن أن تشن ضربة استباقية على أي خطر مستهدف، كمنشأة نووية إيرانية مثلاً.\r\n \r\n وحتى في تلك الحالات، من المرجح أن يطالب العالم، وربما الجمهور الأميركي أيضاً، بأدلة أكثر بكثير من الأدلة التي حشدتها إدارة بوش في العراق. ويلوح ذلك في الأفق باعتباره التركة المليئة بالمفارقة، والناجمة عن محاولة بوش رفع مفهوم الضربات من المستوى التكتيكي إلى مستوى العقيدة التوجيهية. وبتعريف بوش لمفهوم الضربات الاستباقية على نحو أكثر عدوانية بكثير من التعريف الذي وضعه أسلافه في الرئاسة، فإنه ربما قلّص قدرة من سيخلفونه على توظيف ذلك المفهوم. \r\n \r\n \r\n دونالد براونشتاين \r\n كاتب ومحلل سياسي أميركي \r\n يُنشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"