لازال النظام القانوني والقضائي الفلسطيني مثقلٌ بالُحقبات القانونية والدستورية المتنوعة، بدءا من الحقبة العثمانية، ومرورا بالحقبة الانتدابية، ومن ثمّ حقبة الحكم الأردني في الضفة الغربية والإدارة المصرية لقطاع غزة، وصولا لحقبة الاحتلال الإسرائيلي، وحتى حقبة السلطة الوطنية الفلسطينية هذه الحقبات الدستورية والقانونية المتعددة جعلت من النظام القانوني الفلسطيني نظاما هجينا مختلطا حتى حاول المجلس التشريعي الفلسطيني بعد تشكيله أن يوحّد الإطار القانوني الفلسطيني بإصداره جملة من التشريعات، إلا أن هذه المحاولات على أهميتها لم تحقق الغاية المنشودة حتى اللحظة، لاسيما أنّ تعطل المجلس التشريعي الفلسطيني بسبب الانقسام أدى إلى توقف العجلة التشريعية الفلسطينية باستثناء بعض التشريعات التي أصدرها الرئيس الفلسطيني بمقتضى المادة 43 من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003. المسألة الأكثر إشكالية التي أورثنا إياها هذا النظام الهجين تتمثل في تلك الأوامر العسكرية التي أصدرها الحاكم العسكري الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث لا زال النظام القانوني والقضائي يعترف بتلك الاوامر العسكرية الاحتلالية باعتبارها تشريعا واجب التطبيق. السؤال الملح في هذا الجانب، هل تحوز الأوامر العسكرية الاسرائيلية قوة التشريع ذاته الذي أصدره المشرع الفلسطيني صاحب السيادة؟؟ إنّ الإجابة عن هذا التساؤل تستدعي تحديد ملامح مدى عدوان تطبيق الأوامر العسكرية على المادة 2 من القانون الأساسي الفلسطيني والتي تنص على (الشعب مصدر السلطات ويمارسها عن طريق السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على أساس مبدأ الفصل بين السلطات على الوجه المبين في هذا القانون الأساسي.) وفي هذا الجانب نستطيع القول أن الشعب الفلسطيني هو صاحب السلطة ومصدرها، وبالتالي فإنّ ّ قيام المحاكم بتطبيق أمر عسكري صدر عن جهة احتلالية غير شرعية قد يعد انتقاصا لمبدأ السيادة الشعبية وتجنيا على تخوم اختصاص السلطة التشريعية المنتخبة من الشعب، إذ أنه ومنذ صيف 1994، تولى مجلس السلطة الفلسطينية (السلطة التنفيذية منذ 5/7/1994، المجلس التشريعي منذ 7/3/1996) سلطة إصدار التشريعات المنظمة لمختلف جوانب الحياة العامة لأفراد المجتمع، وهذا أكده اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل الذي عرف باتفاق (أوسلو) أو اتفاق (غزة – أريحا حين نص البند التاسع: منه على : 1 - سيخول المجلس بالتشريع وفقاً للاتفاقية الانتقالية. في كل الصلاحيات المنقولة إليه. 2 - سينظر الطرفان معاً في القوانين والأوامر العسكرية المتداولة حالياً في المجالات المتبقية. ولا يغير من الأمر شيئا إصدار رئيس السلطة الفلسطينية الشهيد ياسر عرفات أول قرار له بتاريخ 20 أيار 1994 الذي قضى باستمرار سريان التشريعات والقوانين التي كانت سارية المفعول قبل 5/6/1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ أن هذا القرار لم يتحدث صراحة عن سريان الأوامر العسكرية وهو بالضرورة لا يلغي حق الشعب الفلسطيني بالسيادة على أرضه من خلال سلطاته الثلاثة. إنّ من الثابت وفق آراء الكثير من فقهاء في القانون الدولي والدستوري أنّ الاحتلال هو حالة فعلية مؤقتة تحتل فيها قوات مسلحة أجنبية أراضي دولة أخرى وليس حالة قانونية ، وإن الاحتلال الحربي الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ليس حالة قانونية بالقطع، وإنما هو أمر واقع نتج عن وجود القوات المسلحة في الأراضي المحتلة، ونتيجة لهذا الواقع الفعلي وليس القانوني، فإن الدولة التي احُتُلَّت أراضيها تبقى كما هي صاحبة الشخصية القانونية الدولية المستقلة التي لا يمسها وضع الاحتلال المؤقت، وهذا يقود إلى قاعدة مفادها أن عمل التشريع وتعديله وإلغاءه وإيقافه هو من أعمال السيادة تختص به دولة صاحبة الإقليم، وبناء على ذلك، ليس لسلطات الاحتلال أن تمارس تصرفا لا تملك ممارسته إلا السلطة الشرعية صاحبة السيادة القانونية على الإقليم المحتل، ذلك أن سلطات الاحتلال لا تملك سوى سلطة مؤقتة فعلية لا تجيز لها مباشرة أي عمل من أعمال السيادة، ولا يجوز للمحتل أن يباشر أي اختصاص تشريعي، وهذا ما أكدته قواعد لائحة اتفاقية لاهاي الرابعة وعلى الأخص المادة 43 منها التي حملت هذه القاعدة، ولكنها أوردت عليها استثناء مفاده أنه يحق لسلطات الاحتلال الخروج عن هذه القاعدة الملزمة في حالة تعذر ذلك، ويكون سبب التعذر كما أكدته أعمال مؤتمر لاهاي الأول لعام 1899 ضرورة حربية حقيقية التي يعرفها الدكتور وليم دواني بأنها » حاجة ماسة ملحة لا يحتمل التأخير تستلزم القيام بالأعمال النظامية العنيفة لإجبار العدو على الاستسلام السريع بشرط أن ألا تكون أعمال العنف هذه منافية لقوانين وأعراف الحرب»، وبهذا الصدد ، فسر فقهاء القانون الدولي هذه الضرورة الحربية بأنها"الظروف التي تضطر فيها سلطات الاحتلال إلى تعطيل القوانين أو إلغائها أو سن قوانين ولوائح جديدة من أجل تنفيذ واجباتها المكلفة بها، وهي حماية أمنها وكذا المحافظة على النظام العام والحياة العامة في الإقليم المحتل، وهذا إذا دعت الضرورة الحربية إلى ذلك"، وحيث أن الاحتلال لا ينقل السيادة، وحيث أن للشعب الفلسطيني مؤسساته الدستورية التي تزاول اختصاصاتها على الوجه المبين في القانون الأساسي، فإنّ الكثير من الأوامر العسكرية قد لا تعتبر شرعية لمناقضتها اتفاقية لاهاي الرابعة لعدم اتصالها بأية ضرورة حربية، ولما كان مبدأ احترام دولة الاحتلال للقوانين المعمول بها في الأراضي المحتلة قبل الاحتلال، من المبادئ الثابتة والمستقرة في القانون الدولي ، ولما كانت الدولة الفلسطينية التي اعترف بها العالم أجمع هي دولة خاضعة للاحتلال إلا انها صاحبة السيادة الفعلية، وحيث أكدت السوابق القضائية الدولية هذه القواعد حين رفضت محكمة الاستئناف الفرنسية الاعتراف بشرعية القرارات التي أصدرتها المحاكم الفرنسية في منطقة الراين، والتي طبقت فيها القانون الألماني في وقت احتلالها، وحيث رأى بعض الفقه الدولي ومنهم الدكتور عز الدين فودة أن المركز القانوني للأوامر والقرارات التي تصدرها سلطة الاحتلال - حتى في صفة القوانين لا تتجرد فيها عن الصلاحيات المنوطة بها - هي مجرد أوامر سلطة لا تأخذ صفة القوانين التي يظل حق إصدارها من اختصاص دولة السيادة القانونية على الإقليم، ذلك أن السلطة المحتلة تدير ولا تحكم، فإنّ تطبيق الأوامر العسكرية قد يشكل في رأي الكثيرين عدوان على حق الشعب الفلسطيني بالسيادة. إنّ قيام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتوقيع طلبات الانضمام إلى اتفاقيات جنيف الأربعة، وقيام وزير الخارجية الفلسطيني بالإعلان عن استلام اخطار من المجلس الفدرالي السويسري بالنفاذ الفوري وقبول دولة فلسطين طرفا ساميا في اتفاقيات جنيف المذكورة ، وبروتوكولها الاضافي، يجب أن يدفع الشعب الفلسطيني بكافة مؤسساته الرسمية والأهلية إلى السعي لتحرير القوانين من بصمات الاحتلال، والبحث في مدى شرعية تطبيق الأوامر العسكرية، وهذا يحتاج في الحقيقة إلى ورشة عمل وطنية كبيرة، تشارك فيها قطاعات واسعة من المؤسسات الحقوقية الرسمية والأهلية والمستغلين بالقانون والقضاء وخبراء القانون الدولي والدستوري، للبحث عن الآليات التشريعية الملائمة، والتطبيقات القضائية الملزمة، للخروج من عنق الزجاجة والاستعاضة عن هذه الأوامر بإطار تشريعي وممارسة قضائية تكفل عدم المساس بالمراكز القانونية للأفراد، لاسيما أنّ هذه الأوامر الجاري تطبيقها تتصل اتصالا وثيقا بكافة مناحي الحياة الفلسطينية، وإن العمل على عدم تطبيقها بحكم قضائي سيؤدي إلى الإخلال بمراكز قانونية للأفراد، وهذا ما يجب أن يكون في الوقت الراهن أولوية وطنية لتأكيد سيادة هذا الشعب على أرضه، باعتبار التشريع أحد مقومات هذه السيادة ومظاهرها. رابط المقال: متى سنحررُ القوانين من الاحتلال ؟