تاريخٌ طويل في علاقاتها بالسلطة، شدٌ وجذب أحيانًا، تعاون وتحالف أحيانًا أخرى، إنها الكنيسة الأرثوذكسية المصرية التي يجتمع كافة "الأقباط" تحت لوائها. يقول المؤرخون إن كلمة "قبطي" مشتقة من الكلمة اليونانية "أجيبتوس"، والتي إشتُقَّت بدورها من كلمة "هيكابتاه"، وهي أحد أسماء ممفيس، أول عاصمة لمصر القديمة، وهي الكلمة التي تصف حاليًا مسيحيي مصر. العلاقات الأولى تبدأ علاقة الكنيسة بالسلطة مع بدايات ظهور المسيحية في مصر في عهد الدولة الرومانية حيث تعرضوا لحملات تعذيب واضطهاد وقتل فيما عُرف ب "عصر الشهداء" وهو اصطلاح مسيحي عبر عن كثرة الضحايا الذين سقطوا في ظل حكم دقلديانوس الذي اضطهد المسيحيين. كان دقلديانوس يدعو نفسه رب وسيد العالم، ولم يكن يسمح لأحد بالإقتراب منه إلا وهو راكع، كان دقلديانوس في أول الأمر متسامحًا جدًا مع المسيحيين، وكان للمسيحيون شأن في دولته ولم يبدأ الاضطهاد إلا عام 303 عندما أصدر دقلديانوس مرسوم الاضطهاد. في عام 286 دعا دقليديانوس قائد الجيش مكسيمانوس ليشاركه الحكم وفي عام 292 دعا جاليريوس وقسطنطيوس من كبار قواد دولته للحكم معه، فقسم الإمبراطورية إلى أربعة ولايات، ولم يظهر دقلديانوس أي عداء للمسيحيين، بل كان لديه كثير من الموظفين المسيحيين في قصره ، وكان قسطنطيوس حاله كحال دقليديانوس، بينما أظهر مكسيمانوس وجاليريوس عداءً شديدًا نحو المسيحيين، والأخير هو الذي حث دقليديانوس على إصدار مرسوما ضد المسيحيين .. تردد دقليديانوس في البداية لكنه ما لبث أن رضخ في النهاية لضغوط شريكيه فأصدر المرسوم عام 303 . ونصت بنود المرسوم على هدم الكنائس المسيحية والإستلاء على ممتلكات الكنيسة وحرق كتب النصارى المقدسة ، هدم منازل المسيحيين في حالة الكشف عن نسخة للكتاب المقدس في المنزل ، منع الاجتماعات المسيحية ، سحب الحقوق المدنية لكل من يحتفظ بالإيمان المسيحي ، استرقاق أي عضوء في الأسرة المالكة في حالة قبوله المسيحية ، حرق كل من يرفض تقديم القرابين للآلهة الوثنية . أصدر دقليديانوس مرسوما آخر يأمر بالقبض علي رجال الدين وسجنهم فامتلأت السجون بالمسيحيين، والآخرون اجبروا علي تقديم القرابين للآلهة الوثنية، وهدمت الكنائس وبحسب المصادر المسيحية تم إعدام كل من يشارك في اجتماعات دينية، كما تم مصادرة كل أملاك الكنائس والمسيحيين، مع الحرمان من كافة الحقوق المدنية والطرد من الوظائف الحكومية، وحرق كل الكتب المقدسة . هذا فضلا عن القبض على الآلاف والتنكيل والتعذيب حتى الموت. وتذكر المراجع المسيحية أنه في عام 303 م بلغ عدد الذين استشهدوا حوالى 700000 وبلغ عدد الشهداء والمشردين في العام نفسه 840 ألف مسيحي . في أول ثورة في القرن العشرين وتمر السنون، وتجري في النهر مياه كثيرة ، فتح إسلامي عربي لم يشهد المسيحيين تحت ظله "عصر شهداء" حتى وقتنا هذا ، إلا أن علاقة الكنيسة بالسلطة هبطت وصعدت تزامنًا مع الأحداث التي شهدتها مصر. بين أيدينا سيرة بابا للإسكندرية عاش في جو سياسي متوتر للغاية ، عرف كيف يقود الموكب بروحٍ وطنيٍ دون أن يتجاهل جوانب الحياة الروحية والكنسية إنه البابا كيرلس الخامس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الذي ولد في عام 1824 وعاش حتى شهد ثورة 1919 . كانت مصر في ذلك الحين تعيش في صراع سياسي رهيب. فقد نُفي الخديوي إسماعيل، وتولى ابنه توفيق الحكم، إذ تدخّلت إنجلترا وفرنسا في شئون مصر بدعوى حق الإشراف علي ميزانية مصر. وعيّنت كل منهما مندوبًا مسئولًا عن "صندوق الدين". كان إسماعيل باشا قد أنشأ مجلس شوري للنواب وذلك قبل اضطراره إلى التنازل عن الحكم. حمل هذا المجلس روحًا وطنيًا وشعر الكل بمسئوليتهم كمصريين وطنيين ، وكان البابا كيرلس الخامس مساعدًا لهؤلاء الوطنيين في مواجهة الخديوي وضد الإنجليز. في عهده شبَّت نار الحرب العالمية الأولى سنة 1914 م. وفي آخرها أُعلِنت الحماية الإنجليزية على مصر، وعُقِدت الهدنة في سنة 1918 م.، وطالب المصريون باستقلال بلادهم، وكانت الثورة المصرية في سنة 1919 م. باتحاد المسلمين والأقباط وبعد جهاد دام سنوات تنازلت إنجلترا عن حمايتها في 28 فبراير سنة 1922 م. وأعلن السلطان فؤاد استقلال مصر في 15 مارس سنة 1922 م.، وأعلن نفسه ملكًا ووضع دستور البلاد، وأنشأ الحكم البرلماني بزعامة سعد زغلول باشا، وكان البابا كيرلس مؤيدًا لهذه الحركة. وإذا كان الحديث يأخذنا إلى ثورة 1919 فإن اسم القمص سرجيوس (1883- 1964م) يبرز كواحد من بين أشهر كهنة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى القرن العشرين. لاسيما وأنه كان مهتما بقضية الإصلاح الكنسى، إلى جانب اهتمامه بالكثير من شئون العمل العام، وفى مقدمة تلك القضايا التى اهتم بها قضية الوحدة الوطنية بين المصريين على مختلف انتماءاتهم الدينية، حيث آمن بتلك الوحدة وضرورة تدعيمها. ولعله ليس من باب المبالغة، وحسب عدد من المؤرخين، أنه كثيرا ما يتم استدعاء شخصية القمص سرجيوس، كرمز تاريخى، وذلك كلما وقعت أزمة فى العلاقة بين أبناء الوطن، ليبرهن على معانى الوحدة والاتحاد بين جموع المصريين. عمل القمص سرجيوس وكيلا للمطرانية القبطية فى السودان (1912- 1915م)، وهناك لعب دورا مهما مع عدد من العلماء المصريين المسلمين فى عودة روح التآخى والوئام بين المسلمين والمسيحيين فى السودان، حتى استطاعوا أن يعبروا أزمة اغتيال بطرس باشا غالى رئيس الوزراء (1908 1910م) والذى كان قد اُغتيل سنة 1910م، وما تلا ذلك من تأزم العلاقات بين المواطنين المسلمين والمواطنين المسيحيين من أهل مصر وانعقاد المؤتمر القبطى بأسيوط والمؤتمر المصرى (الإسلامى) بضاحية مصر الجديدة سنة 1911م. ولما قامت ثورة سنة 1919م، تطالب إنجلترا، بالخروج من مصر ليحصل المصريون على الاستقلال التام، وكان شعارها عاش الهلال مع الصليب، شارك فيها القمص سرجيوس، بل وعُرف بأنه خطيب الثورة، فقد اعتلى منبر الجامع الأزهر خطيبا من أجل استقلال مصر وتحقيق الجلاء مؤكدا وحدة المصريين.. مسيحيين ومسلمين. وهنا يذكر (قاموس التراجم القبطية) أن القمص سرجيوس توجه «إلى الجامع الأزهر حيث لقيه شيوخ الأزهر بالترحاب وأخذ يلقى خطبا وطنية تحض على الوحدة الوطنية تأييدا لسعد زغلول وثورة 1919 واستقلال مصر واستمر على ذلك مدة 59 يوما متتالية. كما ألقى عددا آخر من الخطب الحماسية فى جامع ابن طولون والكنيسة القبطية فى الفجالة مما دفع السلطات الإنجليزية إلى نفيه إلى رفح فى سيناء». لاسيما وأنه واجه ادعاءات الإنجليز الخاصة بحماية المواطنين الأقباط. ما أدراك ما الستينات ربما كانت فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هي من أزهى فترات العلاقة "السلطوية - الكنسية" على الإطلاق فالكاتدرائية القبطية الأرثوذكسية بالعباسية والتى تعتبر رمز المسيحية فى مصر، والتى بنيت فى الستينيات من القرن الماضي، شيدت في عهد الزعيم الراحل ، حيث تبرع الرئيس جمال عبد الناصر لبناء الكاتدرائية بعدة آلاف من الجنيهات وحضر حفل افتتاحها ومعه الإمبراطور هيلا سلاسي إمبراطور الحبشة "إثيوبيا". يذكر أن كان وقتها بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية هو الأنبا كيرلس السادس الذي انتخب بعده البابا شنودة الثالث. وفاز المهندسان عوض كامل وسليم كامل فهمى في مسابقة رسم وتصميم الكاتدرائية، وقام بالتصميم الإنشائى الدكتور ميشيل باخوم أشهر مهندس للإنشائيات في مصر، وقامت شركة النيل العامة للخرسانة المسلحة "سيبكو" بتنفيذ المبنى العملاقى للكاتدرائية، وتم تصميمها على شكل صليب. وفي 25 يونيو 1968م أحتفل رسمياً بافتتاح الكاتدرائية بحضور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والإمبراطور هيلا سلاسي إمبراطور إثيوبيا وممثلي مختلف الكنائس، وقد عبر الجميع عن مشاعر البهجة لهذا الحدث. في صباح الأربعاء 26 يونيه 1968 احتفل بإقامة الصلاة على مذبح الكاتدرائية، وفى نهاية القداس حمل البابا كيرلس السادس رفات القديس مارمرقس إلى حيث أودع في مزاره الحالى تحت الهيكل الكبير في شرقية الكاتدرائية. ثم جاء حفل تتويج البابا "شنودة" للجلوس على كرسي البابوية في الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالقاهرة في 14 نوفمبر 1971 وبذلك أصبح البابا رقم "117" في تاريخ البطاركة. في مايو 1977م تم الاحتفال بحضور رفات القديس أثناسيوس الرسولى وافتتاح قاعة القديس أثناسيوس الكبرى تحت الكاتدرائية تذكاراً بمرور 1600 سنة على نياحة القديس. السبعينات وبدايات الفتنة طوال سنوات الثورة الأولى لم يحدث احتكاك واضح بينها وبين الكنيسة، بل لعل الأقباط كان وحدهم الذين نجوا من حفلات الاعتقال التي دشنتها الثورة طوال سنوات الخمسينيات والستينيات وطالت كل التيارات والاتجاهات بما فيها الشيوعيون والإخوان المسلمين، ولم يكن الأمر هنا فيه شيء من صفقة بين النظام والأقباط، وإنما جرت الأمور على طبيعتها فلم يكن للأقباط -كتجمع ديني- أي طموح سياسي بعد قيام ثورة يوليو على عكس الحال مع باقي التيارات الأخرى التي اصطدمت رغباتها مع طموح رجال الثورة، لكن الأمر اختلف في السبعينيات بعد أن اعتلى "السادات" وخلفه البابا "شنودة" قمة الرئاسة والكنيسة على الترتيب. الاصطدام لم يأتِ مبكرا، وبخاصة أن السيد الرئيس "السادات" لم يكن في حاجة لتوسيع رقعة الأعداء الكثر أصلا، وبعد أن أزاح ما يعرف ب"مراكز القوى الناصرية" كان لابد وأن يلملم ولا يفرق لأنه مقدم على حرب حتمية مفروضة عليه لاسترداد الأرض، وبعد نصر أكتوبر عام 1973 بات "السادات" أكثر ثقة في نفسه وأكثر انفرادا بالقرار فكان قراره الأخطر بإطلاق يد الجماعات والتيار الإسلامي -دون قيد- في الجامعات والشارع السياسي المصري لمحاربة التيار اليساري والشيوعي فكان أن تحقق له هذا بالفعل. وعلى الرغم من أنه لا يوجد توثيق دقيق وحصر واضح لأسباب اشتعال فتيل الفتنة بين المسلمين والمسيحيين وبخاصة في صعيد مصر.. إلا أن النار قد التهبت وكان لابد من أن يكون للبابا "شنودة" رأيا فيما حدث. قبل هذا كان البابا "شنودة" قد سجل رفضه لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وأكد ذلك بأن قرر عدم الذهاب مع الرئيس "السادات" في زيارته إلى إسرائيل عام 1977، هذا بطبيعة الحال صنع حالة عدائية من السادات تجاه البابا لأنه لم يتصور أن يخالفه أحد في قرارته بعد الحرب فما بالك إذا كان هذا هو القيادة الكبرى لكل الأرثوذكس الذين يشكلون أغلبية المسيحيين في مصر؟! بات الصدام وشيكا.. وفي ظل اتهامات متزايدة من الأقباط بأن الدولة تغذي العنف تجاههم من قبل الجماعات الإسلامية، وعندما قام الرئيس "السادات" بزيارة إلى أمريكا كان الصدام.. إذ نظم الأقباط في أمريكا مظاهرة مناهضة ل"السادات" رفعوا فيها لافتات تصف ما يحدث للأقباط في مصر بأنه اضطهاد وهو بالقطع ما أضر بصورة "السادات" كثيرا فطلب من معاونيه أن يتصلوا بالبابا ليرسل من يوقف هذه المظاهرات، وعندما حدث هذا فعلا متأخرا بعض الشيء ظن "السادات" بأن البابا "شنودة" يتحداه، فكانت أن أصدرت أجهزة الأمن قرارا للبابا بأن يتوقف عن إلقاء درسه الأسبوعي, الأمر الذي رفضه البابا ثم قرر تصعيد الأمر بأن أصدر قرارا بدوره بعدم الاحتفال بالعيد في الكنيسة وعدم استقبال المسئولين الرسميين الذين يوفدون من قبل الدولة عادة للتهنئة.. بل وصل الأمر إلى ذروته عندما كتب في رسالته التي طافت بكل الكنائس قبيل الاحتفال بالعيد أن هذه القرارات جاءت "احتجاجا على اضطهاد الأقباط في مصر"، وكانت هذه المرة الوحيدة التي يقر فيه البابا علانية بوجود اضطهاد للأقباط في مصر ولم يفعلها بعد ذلك مطلقا.. أصبحت القطيعة بين "السادات" والبابا "شنودة" هي عنوان المشهد، ولذا كان من المنطقي أن يطول العقاب البابا في أيام "السادات" الأخيرة عندما أصدر في سبتمبر عام 1981 قراره بالتحفظ على 1531 من الشخصيات العامة المعارضة، لم يكن مصير البابا الاعتقال وإنما كان تحديد الإقامة في الدير بوادي النطرون، ولعل "السادات" فعل ذلك درءا لرد فعل مضاد من قبل الأقباط.