رئيس أكاديمية الشرطة: نطبق آليات لمكافحة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر    وزيرة الهجرة: آلية جديدة من التعليم العالي بشأن توثيق أوراق الطلاب العائدين من روسيا    البحوث الإسلامية يعقد ندوة مجلة الأزهر حول تفعيل صيغ الاستثمار الإنتاجي في الواقع المعاصر    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    بحضور وزير الخارجية الأسبق.. إعلام شبين الكوم يحتفل ب عيد تحرير سيناء    التعاون الاقتصادي وحرب غزة يتصدران مباحثات السيسي ورئيس البوسنة والهرسك بالاتحادية    مرصد الأزهر يستقبل سفير سنغافورا بالقاهرة لبحث سبل تعزيز التعاون المشترك لمكافحة الإرهاب    وزارة العمل تنظم ورشة لمناقشة أحكام قانون العمل بأسوان    بحث التعاون بين مصر وإندونيسيا في صناعة السيارات الكهربائية والوقود الاخضر    انخفاض غير متوقع في سعر الذهب مع بداية تعاملات اليوم الاثنين.. وعيار 21 مفاجأة    محافظ أسوان: مركز البيانات والحوسبة السحابية عمل قيادي يليق بالدولة    بقيمة 30 مليون جنيه.. «تنمية المشروعات» يوقع عقدا لتمويل المشاريع متناهية الصغر    المشاط: تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري يدعم النمو الشامل والتنمية المستدامة    9 مايو.. آخر موعد لتلقي طلبات استثناء «المنشآت والمطاعم السياحية» من دفع الحد الأدنى للأجور    وزيرة التعاون الدولي: التطورات الجيوسياسية بالمنطقة أثرت سلبًا على ميزان المدفوعات    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال المنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض| إنفوجراف    بدء مباحثات الرئيس السيسي ورئيس البوسنة بقصر الاتحادية    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    عبد الواحد السيد يكشف سبب احتفال مصطفى شلبي ضد دريمز    مولر يهدد ريال مدريد بالجحيم الأحمر    بعد الصعود لنهائى الكونفدرالية.. الزمالك يقرر صرف جزء من مستحقات اللاعبين المتأخرة    برشلونة أبرزها.. مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    كولر يحاضر لاعبي الأهلي بالفيديو استعدادا لمواجهة الإسماعيلي    تطور عاجل في مفاوضات تجديد عقد علي معلول مع الأهلي    بنزيمة يغيب عن الكلاسيكو ضد الهلال    ضبط 87 مخالفة متنوعة في حملات على المخابز البلدية والأسواق بالمنيا    إصابة عامل بطلقات نارية في ظروف غامضة بقنا    موعد إعلان أرقام جلوس الصف الثالث الثانوي 2023 -2024 والجدول    احالة 373 محضرًا حررتها الرقابة على المخابز والأسواق للنيابة العامة بالدقهلية    أمن القاهرة يضبط عاطلان لقيامهما بسرقة متعلقات المواطنين بأسلوب "الخطف"    ولع في الشقة .. رجل ينتقم من زوجته لسبب مثير بالمقطم    طارق الشناوي ينعى عصام الشماع: "وداعا صديقي العزيز"    منهم فنانة عربية .. ننشر أسماء لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائى فى دورته ال77    «ماستر كلاس» محمد حفظي بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير.. اليوم    مؤسسة أبو العينين الخيرية و«خريجي الأزهر» يكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين.. صور    قافلة طبية مجانية بالتعاون بين أورمان الشرقية والمستشفى الجامعي بالزقازيق    «كلبة» سوداء تتحول إلى اللون الأبيض بسبب «البهاق»    احتفاء بفوز باسم خندقجي بالبوكر: فلسطين ملء العين والسماء دائما    تعرف على الجناح المصري في معرض أبو ظبي للكتاب    أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على طلاقها من أحمد العوضي    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    خسائر جديدة في عيار 21 الآن.. تراجع سعر الذهب اليوم الإثنين 29-4-2024 محليًا وعالميًا    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    رئيس كوريا الجنوبية يعتزم لقاء زعيم المعارضة بعد خسارة الانتخابات    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    مصرع عامل وإصابة آخرين في انهيار جدار بسوهاج    من هي هدى الناظر زوجة مصطفى شعبان؟.. جندي مجهول في حياة عمرو دياب لمدة 11 سنة    "استمتع بالطعم الرائع: طريقة تحضير أيس كريم الفانيليا في المنزل"    مفاوضات الاستعداد للجوائح العالمية تدخل المرحلة الأخيرة    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    علييف يبلغ بلينكن ببدء عملية ترسيم الحدود بين أذربيجان وأرمينيا    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التاريخ الوطنى للكنيسة المصرية . .فى انتظار البابا 118
نشر في أكتوبر يوم 04 - 11 - 2012

اليوم.. تدق الكاتدرائية المرقسية بالعباسية أجراسها.. معلنة اسم البابا (118) للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.. للجلوس على عرش مار مرقس الرسول.
ولهذا الكرسى الدينى، تاريخ عريق منذ تأسيسه على يد القديس مرقس أحد حوارى السيد المسيح قبل ألفى عام، كانت الريادة خلالها لكنيسة الإسكندرية ليس فقط من الناحية الروحية فى العالم المسيحى - بل أيضًا لدورها الوطنى البارز فى الحفاظ على الهوية المصرية فى مواجهة الاستعمار، فوقف البابا أثناسيوس الرسول أمام الامبراطورية الرومانية كلها للحفاظ على الإيمان المصرى الأرثوذكسى، وظل البابا بنيامين الأول هاربًا لمدة 14 عامًا بعيدًا عن كرسيه من بطش المقوقس الحاكم الرومانى حتى أنقذه فتح عمرو بن العاص لمصر.
وفى العصر الحديث رفض البابا بطرس حماية قيصر روسيا للأقباط فى مصر فنال احترام وتقدير محمد على باشا، ورفع البابا كيرلس الرابع راية الإصلاح، فكان أول من نادى بمجانية التعليم، وأول من أنشأ مدرسة لتعليم النساء فى مصر,, كما واجه البابا كيرلس الخامس صديق الزعيم الراحل سعد زغلول الاحتلال البريطانى رافعًا شعار «يحيا الهلال مع الصليب»، وكانت صداقة كيرلس السادس والزعيم الراحل جمال عبدالناصر مضربًا للأمثال، خاصة بعدما تبرع أبناء الرئيس الراحل عبد الناصر بمصروفهم للمساهمة فى بناء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
وجاء رفض البابا شنودة الذهاب إلى القدس إلا ويده فى يد صديقه الشيخ محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر السابق.. لتمنحه لقب «بابا العرب».
وفى السطور القادمة تستعرض أكتوبر نبذة تاريخية لأبرز من جلس على عرش مار مرقس الرسول..
أثناسيوس بطل الأرثوذكس
فى إحدى المرات قال له المحيطون به “إن العالم كله ضدك” فاجابهم ببساطته المعهودة “وأنا ضد العالم”، وإذا كانت الاجابة صادمة للبعض خاصة أنها تصدر من رجل دين، ألا انها أفضل تعبير عن حياة هذا الرجل الذى لقبه الكثير من المؤرخين ببطل الأرثوذكسية، ولم لا وهو الرجل الذى وقف امام الامبراطورية الرومانية فى عز قوتها وجبروتها دفاعاً عن الايمان المسيحى الارثوذكسى ، وفى المقام الاول دفاعاً عن الكنيسة الوطنية، وعن الاستقلال المصرى امام النفوذ الرومانى الذى وإن كان احتل العالم القديم كله إلا انه ظل ينظر لمصر على انها العاصمة الحضارية والثقافية الأولى التى تجب السيطرة عليها.
نحن الآن فى القرن الرابع الميلادى وعلى الرغم من ان المسيحية أصبحت الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية، فقد أبت القسطنطينية وروما عاصمتا الامبراطورية الشرقية والغربية إلا محاربة الاسكندرية وبطركها الذى كان الوحيد الذى يحمل لقب بابا فى المسكونة، كانت حربا ثقافية وحضارية أكثر منها حرباً دينية، ودفع الباباوات والشعب المصرى كله الثمن غالياً، وحاول الاباطرة فرض مذهبهم الاريوسى على الكنيسة القبطية إلا انها ابت، ووقف باباواتها واساقفتها ومعهم الشعب كله فى وجه الامبراطورية الرومانيه وما ادراك ما هى الامبراطورية الرومانية وجيوشها وكان اثناسيوس رأس الحربة فى تلك الحرب الضروس.
تتلمذ اثناسيوس على يد الانبا انطونيوس أبو الرهبان فأحسن تعليمه وتثقيفه فى العلوم اللاهوتية والمسيحية، ثم صار تلميذاً للبابا الكسندروس الذى عندما رأى مدى علمه وتقواه رسمه شماساً ثم رئيس شمامسه وعمره لم يتعد 23 سنة، وهبت على الكنيسة بعدها رياح الاريوسية، واصطحب البابا تلميذه معه فى مجمع نيقية فوقف اثناسيوس الشاب يدافع عن إيمان الكنيسة القبطية ضد بدعة اريوس حتى اثار اعجاب كل من حضر المجمع وكانوا من شيوخ الكهنة والاساقفة حول العالم ممن يفوقوه سناً بكثير، ولكنهم بهتوا من سعة إطلاعه وقوة حجته حتى ان الملك قسطنطين الكبير نفسه قال له “انت بطل كنيسة الله”، وعلى الرغم من اقرار المجمع بإيمان الكنيسة الارثوذكسية وتكليفه لاثناسيوس بوضع قانون الايمان الذى صارت عليه الكنيسة حول العالم إلى الآن، وعلى الرغم من الحكم بقطع اريوس من الخدمة وتحريم تعاليمه، إلا ان اعداء اثناسيوس من الاريوسين ظلوا يكمنون له معتبرين انه عدوهم الأول.
ولم يكن عجيباً بعد ذلك انه عند نياحة البابا الكسندروس ان ينتخب اثناسيوس خليفة له بناء على وصية البابا المتنيح، وعلى الرغم من انه حاول الهروب من هذه الرتبة إلا ان الاساقفة والكهنة عثروا عليه وبالفعل تم تنصيبه بطريركياً عام 326 وعمره لم يكن يتجاوز ال 28 ربيعاً، ووضع اليد عليه 50 من الاساقفة وهم عدد كبير لم يسبق فى ذلك الزمن ان وضع على رأس احد البطاركة ممن سبقوه، على الرغم من محاولة الاريوسين المستميتة منع تنصيبه لانهم رأوا فى ذلك نهايه لهرطقتهم الا انهم لم ينجحوا.
ومع ذلك فإن عزمهم على عزله عن كرسيه لم يهدأ، وعلى الرغم من جلوسه على كرسيه لمدة طويلة وصلت إلى 46 سنة و15 يوماً الا انه تم نفيه خلالها 5 مرات، كان اولها فى عهد الامبراطور قسطنطين نفسه بعد ان اتهمه اعداؤه الاريوسين بتهم شتى، اهمها بالطبع انه يمنع مرور السفن المحملة بضريبة الحنطة من مصر إلى القسطنطينية، وهو ما اغضب الامبراطور فأمر بنفيه إلى جنوب فرنسا، ولم ينفع توسط الانبا انطونيوس له امام الامبراطور الذى وصف اثناسيوس ظلما بأنه رجل جسور ومتكبر، وفرح الاريوسين وحاولوا اعادة زعيمهم اريوس إلى الاسكندرية بعد رحيل خصمهم العنيد، إلا أن الشعب ثار ورفض وخاف الوالى من حدوث شغب فأمر اريوس بأن يهرب من المدينة الغاضبة لفقدان اسقفها.
وعلى الرغم من عودة اثناسيوس بعدها بحوالى عامين إلى الاسكندرية واستقبل وقتها استقبال الأبطال إلا ان حروب الامبراطورية الرومانية عليه لم تهدأ وتكرر النفى أربع مرات أخرى، وفى كل مرة تعين روما او القسطنطينية بطريركاً بديلا تابعاً لها الا ان الشعب يأبى الا ببطركة المصرى، وفى كل مرة يعود اثناسيوس إلى الاسكندرية ويستقبل استقبالا حافلاً وصفه احد المؤرخين بأنه لو قام الملك قسطنطين من الموت لما استقبله رعاياه بمثل هذا الاستقبال.
إلى ان عاد اخيراً فى عام 368 إلى كرسيه بعد النفى الخامس بعد ان خاف امبراطور القسطنطينية من غضب اخيه امبراطور روما الذى كان موالياً لايمان اثناسيوس الذى كان قد بلغ وقتها 72 عاماً، ولم تمنعه شيخوخته من استئناف العمل الروحى ورعاية شعبه لمدة 5 سنوات ليتنيح بسلام سنة 373، الا ان ذكراه بقيت فى الكنيسة كأحد أبطال الكنيسة القبطية الارثوذكسية على مر الزمان، ولم لا وهو الرجل الذى حفظ الايمان الارثوذكسى السليم واحتفظ باستقلالية الكنيسة بعيداً عن النفوذ الرومانى الشرقى والغربى معاً..
كيرلس الرابع أبو الإصلاح
على الرغم من ان الفترة التى قضاها البابا كيرلس الرابع كبابا للإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية كانت لا تتجاوز 6 سنوات، الا انها تعتبر واحدة من اكثر الفترات نهضة ليس فقط فى الكنيسة ولكن ايضاً على المستوى الوطنى كله، بعد ان اتخذ البابا الشاب الذى ارتقى كرسى الباباوية وعمره لم يتجاوز ال 39 ربيعاً، الاصلاح كمبدأ اساسى لبطريركيته حتى لقب بأبو الاصلاح الكنسى فى العصر الحديث.
وكمحمد على كان اهتمام كيرلس الاساسى ببناء الشخصية المصرية من خلال التعليم فأنشأ المدارس والمكتبات، ففى البداية أنشأ مدرسة الاقباط الكبرى بالأزبكية والتى كان فيها التعليم مفتوحًا لكل الشعب المصرى من مسلمين ومسيحيين ويهود، واستقدم لها أفضل المدرسين ووضع نظامها التعليمى على النسق الاوروبى، وكان التعليم فيها مجانيًا فكان يمنح الطلبة الكتب والأدوات المدرسية مجاناً، على الرغم من ان تكلفة إنشاء هذه المدرسة 600 ألف قرش أى ما يوازى 6 آلاف جنيه كانت مبلغا ضخما وقتها، وهو بذلك يكون قد سبق طه حسين فى الدعوة إلى مجانية التعليم، ومن اهتمامه بهذه المدرسة كان يحضر اليها يومياً على الرغم من المهام الكثيرة الملقاة على عاتقه وكان يباشر ادارتها بنفسه ويدخل الفصول للتعرف على مستوى الطلاب واحتياجاتهم.
ولم يقتصر نشاطه التعليمى على انشاء المدارس للرجال بل اهتم ايضاً بتعليم البنات، حيث كان يؤمن بأهمية دور المرأة فى تربية الجيل الجديد، وما يلزم ذلك من مستوى فكرى وثقافى يعينها على أداء رسالتها، فأنشأ مدرسة للبنات فى حارة السقايين كانت بمثابة ثورة فى مجال تعليم الفتيات خاصة فى ذلك العصر التى كانت التقاليد فيه تحرم خروج البنات من المنزل للتعليم، وبذلك يكون البابا الشاب قد سبق قاسم أمين فى أفكاره عن تحرير المرأة وتعليم البنات، وكالمدارس السابقة التى انشأها فقد كانت هذه المدرسة مفتوحة لكل بنات المجتمع المصري على مختلف دياناتهم..
كما انشأ مكتبة أطلق عليها دار الكتب جمع فيها كثيرًا من الكتب التاريخية وكذلك المخطوطات النادرة، ومع ضخامة كل هذه الأعمال استقر رأيه على شراء مطبعة لطباعة ونشر الكتب فى مصر وكانت المطبعة الثانية فى القطر المصرى كله بعد المطبعة الاميرية التى اشتراها محمد على ولاهتمامه بهذه المطبعة استقبل وصولها استقبالاً حافلاً، وإذ كان البابا فى الدير وقتئذ، أمر فخرج الكهنة والشمامسة بالملابس الكهنوتية والالحان الكنسية لأستقبال المطبعة، وعندما لامه البعض على هذا الاستقبال لمجرد “آلة” أجابهم “لست اكرم آلة من حديد ولكنى أكرم المعرفة التى ستنشر بواسطتها”..
ونتيجه لجهوده فى مجال التعليم والتنوير اشتدت الحروب عليه خاصة ان الانجليز كانوا يحاربون اى نهضة تعليمية تذكرهم بما فعله محمد على الذى كان التعليم الركيزة الأساسية فى دولته الحديثة، ولما كان الانجليز يتحينون الفرصة للانقضاض على مصر فقد كان أى تقدم أو نهضة تحققها مصر خاصة فى مجال التعليم ستؤخر تحقيق هدفهم، رافعين شعار “إن الشعب الجاهل أسلس قيادة من الشعب المتعلم”، كما ان محاربة كيرلس للارساليات الاوروبية التى تقوم بالتبشير بالمذاهب غير الارثوذكسية جعله هدفاً لعداء الانجليز الذين اخذوا يكيلون اليه عند أولى الأمر وخاصة عند الوالى سعيد باشا.
ولم يقتصر الدور الوطنى الذى لعبه البابا كيرلس الرابع على التعليم، بل كان له دور سياسى بارز حيث توسط بين الحكومتين المصرية والحبشية عند النزاع بينهما على الحدود، ولهذا قصة حيث اعتدى ملك الحبشة “ثيوذور” على اقليمى “هرر” و“زيلع” التابعين للحكومة المصرية، ولما كانت لبابا الاسكندرية وقتئذ السلطة الروحية على الحبشة نصح السلطان عبدالمجيد الوالى سعيد باشا بإرسال البابا كيرلس لحل الخلافات الحدودية، ويقال انه لما علم نجاشى الحبشة بقدومه خرج لاستقباله فى موكب حافل امتد على مسيرة 3 أيام، وبعد هذا الاستقبال الحافل طلب البابا من النجاشى ان يرد لمصر الاراضى التى على الحدود والتى أخذها عنوة فاجاب النجاشى طلبه مسروراً، ويقال إنه كان هناك مجموعة من المبشرين الانجليز قد تقربوا للنجاشى من خلال عمل المدافع ومصانع الاسلحة على ان يسمح لهم بتبشير مذهب مارتين لوثر فى الحبشة، فوافق لسابق خدماتهم فى تسليح الجيش، فطلب البابا كيرلس من النجاشى ترحيلهم من الحبشة، فاعتذر معللاً ذلك بانهم يعلمون جنوده فنون الحرب، فافهمه البابا ان الحال اصبحت غير داعية للحرب، وانه سيطلب من الوالى سعيد باشا ان يرسل اليه معلمين وصناع آخرين، فأمر النجاشى اكراماً له بترحيل هؤلاء الاجانب، فحقدوا عليه وعزموا على الانتقام منه وابلغوا قنصل الانجليز بذلك.
وكان البابا قد بعث بالفعل يطلب من سعيد باشا ارسال صناع ومعلمين لتعليم مواطنى الحبشة، فانتهز قنصل الانجليز فى مصر الفرصة واتهم البابا إمام سعيد بأنه يهدف من ذلك لنهضة الحبشة حتى يمكنها الاستيلاء على ملكه، ومازال القنصل يوسوس للوالى بهذا حتى قام على رأس جيش عظيم، فى الوقت الذى كان الانجليز يدسون للنجاشى ضد البابا من إن طلبه طرد الانجليز الذين كانوا يدربون الجنود ويصنعون الأسلحة هدفه الأول هو تمكين مصر من الحبشة، وجاء خروج سعيد بجيشه تأكيداً لهذه المزاعم، فأمر النجاشى بالقبض على البابا وحرقه خاصة ان الانجليز زعموا ان البابا يعد العدة لقتله من خلال زى مزركش بالجواهر كان قد اهداه اليه البابا بنفسه، مؤكدين ان الزى مسموم وانه يقتل من يلبسه فى الحال، وعلى الرغم من إحكام المكيدة إلا ان البابا استطاع اقناع النجاشى ببراءته خاصة عندما ارتدى الزى امامه لمدة 3 ايام لم يحدث خلالها له شىء، فعرف النجاشى مؤامرة الانجليز وعفا عن البابا وطلب الصفح منه، فى نفس الوقت ارسل البابا إلى سعيد باشا مؤكداً ان نجاحه فى مهمته يقتضى رجوع الباشا وجيشه إلى مصر، فاقتنع سعيد وعاد إلى مصر وبالتالى تم حل الخلاف وابطلت مكيدة الانجليز.
ومازال الانجليز يكيدون للبابا عند سعيد باشا، ويقال انه استمر فى هذه المحاربات حتى تنيح شاباً عن عمر يناهز ال 45 عاماً بعد ان قضى على كرسى البطريركية حوالى 6 سنوات كانت من ازهى عصور التعليم فى الكنيسة وفى مصر عموماً، ويقال إنه مات مسموماً، وبذلك ارتاحت انجلترا من ابو الاصلاح والتعليم الذى كاد يستكمل مسيرة محمد على.
البابا بنيامين والفتح العربى
مازال الرومان يعانون من عقدة النقص من الشعب المصرى وتفوقه الثقافى والحضارى على الرغم من تفوق الرومان العسكرى الذى مكنهم من السيطرة على معظم العالم القديم، ولكنهم كانوا يشعرون دائماً بالدونية امام عراقة المصريين وحضارتهم وثقافتهم التى جعلتهم محط أنظار العالم، وجعلت الاسكندرية عاصمة العالم القديم الثقافية، وجعلت كنيسة الإسكندرية والجالس على عرشها متقدم على كل اساقفة الكنائس فى العالم، ولم لا وقد كانت الاسكندرية هى أول من أسس للرهبنة، وهى التى قررت لها المجامع المسكونية تحديد مواعيد الاعياد المسيحية خاصة عيد القيامة، وخص رأسها بالاسم لكى يوجه رسالة العيد لكل العالم المسيحى، والاهم ان الجالس على عرش مارمرقس فى الاسكندرية هو الوحيد من اساقفة العالم الذى كان يتمتع بلقب «بابا»، على الرغم من ان الاسكندرية نفسها كانت تابعة للنفوذ الرومانى.
ولم يكف أسقف روما انه قسم الكنيسة فى مجمع خلقيدونية لكى يتمتع بلقب «البابا»، بل أصر ومن ورائه أباطرته بأن يقوم بتعيين بطاركة للكنيسة القبطية يتبعون للامبراطور الرومانى، وهو ما رفضه الشعب المصرى العظيم متمسكاً ب «البابا» المصرى ومعلنا رفضه التام والقاطع لبطاركة الرومان – الذى دعاهم «بطاركة الملكيين» – مهما كلفه ذلك من دماء غزيرة واضطهادات عنيفة للشعب وابيه الروحى.
وجاء الدور على هرقل ومقوقسه ليذيقان من نفس الكأس، ولأن هرقل كان ذكياً فقد حاول فى البداية التقريب بين مذهبه وبين مذهب الكنيسة المصرية إلا انه فشل، فعين المقوقس ليس فقط حاكما للبلاد ولكن ايضاً بطريركاً لها، وكسابقيه لم يعترف الشعب المصرى بالمقوقس فزدادت الاضطهادات لدرجة ان البابا بنيامين الأول وهو الذى كان جالسًا على الكرسى الباباوى وقتها ظل لمدة 13 عاماً كاملة هاربًا بعيدًا عن كرسيه، والعجيب انه طوال هذه الفترة الطويلة لم يرشد احد عنه قط السلطات الرومانية، على الرغم من محاولة المقوقس المستميتة القبض عليه ليخلو له الجو، الا ان الشعب كان يخبأ ابيه الروحى على الرغم من المغريات الكثيرة والاضطهادات الاشد التى وصلت بالمقوقس ان يقوم بالقبض على مينا شقيق البابا ويعذبه ليعترف عن مكان أخيه ولما لم يجد من ذلك نفعًا قتله غرقاً ليرهب الشعب، ولكنه كان واهماً فقد ظل الشعب صامداً محافظاً على كبريائه المصرى الذى لم تكسره أى امبراطورية فى العالم.
وجاء عدل الله من خلال عمرو بن العاص ليفر من امامه جنود الرومان ومقوقسهم قبلهم عقاباً لهم عما فعلوه بشعب مصر، وجاء الفاتح الجديد يريد ان يكتسب ثقة أهل مصر وعرف عمرو بما لحق ببابا القبط من ظلم، فاسرع وارسل كتابا إلى كل الاراضى المصرية يقول فيه :»الموضع الذى فيه بنيامين بطريرك القبط له العهد والأمان والسلام ، فليحضر آمناً مطمئناً ليدبر شعبه وكنائسه»، ولتصل الرسالة للبابا الهارب منذ 13 عاماً فيعود آمناً، ويستقبله عمرو استقبالا يليق بمقامه، ويكرمه إكراماً زائدًا على حد وصف مؤرخى هذه الايام، ويأمر بأن يتسلم املاكه وكنائسه لا يمسها أحد بسوء، بل انه اعطى الانبا بنيامين 1000 دينار لكى يبنى كنيسة فى الاسكندرية تحفظ فيها رأس القديس مارمرقس التى حاول احد الجنود سرقتها، لترتفع مكانة بن العاص فى عيون المصريين فأحبوه وأجلوه وأعتبروه تعويضاً من الله عن ظلم الرومان ، حتى عندما ترك الولاية ورحل عنهم طالبوا بعودته مرة اخرى وعندما مات حزن عليه المصريون حزناً كبيراً.
اما البابا بنيامين فقد تنيح سنة 359 بعد ان جلس على الكرسى البطريركى 39 عاماً كاملة.
بطرس يرفض حماية قيصر روسيا
أعتلى هذا البابا الكرسى الباباوى سنة 1810 ولذلك فقد عاصر عهد محمد على والدولة الحديثة التى اقامها فى مصر، والمطامع الخارجيه خاصة الاوروبية ومحاولتها بفرض الهيمنة على الدولة الناشئة، خاصة ان مصر فى ذلك الوقت كانت مازالت تحت الحكم العثمانى الذى كان يوصف وقتئذ بأنه رجل أوروبا المريض.
كان البابا بطرس رجلاً تقياً ورعاً وزاهداً وقليل الكلام، ولكنه فى نفس الوقت كانت له هيبة ووقار وحكمة فى التصرف والوطنية العالية ما مكنته من ان يتمتع باعجاب كل من يقابله، وأولهم الوالى محمد على، ولهذا قصة نرويها فى السطور التالية:
اخذت دولة محمد على فى التقدم والنهوض ووصلت مسامعها لاوروبا التى خشيت من المارد المصرى ان يقضى على مطامعها فى الشرق، وفى بقايا الدولة العثمانية، وأرادت أن تلعب على وتر فرق تسد وتستغل ورقة الاقباط فى الضغط على محمد على، فأرسل قيصر روسيا أحد أمرائه ليعرض حماية روسيا للأقباط، وبالفعل جاء الأمير الروسى إلى القاهرة وذهب إلى الدار البطريركية، وفى ظنه انه سيجد البابا فى كامل الآبهة والفخامة التى تليق بمنصبه الدينى الرفيع وعندما دخل من باب البطريركية، وجد رجلا بسيطاً جالساً على مقعد خشبى يقرأ فى الكتاب المقدس، فسأله المندوب أين البطريرك؟ فاجابه الرجل ومن يطلب مقابلته؟ فعرفه الامير الروسى انه مندوب قيصر روسيا، فرد عليه الرجل ببساطة: “أنا هو البابا بطرس”، فأندهش المندوب كثيراً من بساطة الرجل حتى إنه كاد يكذبه، الا ان ملامح الصدق كانت واضحة فى ملامح البابا وكلماته، فأخذ يسأله عن سبب معيشته هذه المعيشة البسيطة التى لا تليق بمركزه السامى، فأجابه البابا بطرس “ليس الخادم افضل من سيده فقد عاش السيد المسيح مع الفقراء ولم يكن له أين يسند رأسه”، فازداد انبهار الامير الروسى وتحير جداً من زهد محدثه، ثم بدأ يتحدث معه عن الغرض الذى جاء من اجله إلى مصر فسأله عن احوال الكنيسة القبطية، فأجابه البابا “انها بنعمة مخلصها فى خير مادام هو يرعاها فلابد ان تجتاز كل الصعاب”، فأخذ المندوب يظهر حزنه على حال الاقباط، وعرض على البابا بسط حماية قيصر روسيا على الشعب القبطى، فنظر اليه البابا بطرس وسأله ببساطه: “هل مليككم يحيا إلى الابد” فأجابه المندوب مندهشاً : «لا يا سيدى انه يموت كسائر البشر» فرد عليه البابا “ إذن انتم تعيشون فى رعاية ملك يموت أما نحن فنعيش تحت رعاية ملك لا يموت وهو الله”.
عندئذ لم يجد المندوب الروسى أمامه إلا أن ينحنى أمام البابا بطرس، وقد شعر بعظمة الرجل الروحية وحكمته العالية، وكان لابد للمندوب الروسى أن يزور الوالى طبقاً للبروتوكول، فذهب فى المساء إلى محمد على الذى سأله عما رأه فى مصر؟ فاجابه الامير الروسى لم تدهشنى عظمة الاهرامات ولا ارتفاع المسلات، ولم يهزنى كل ما رأيت فى هذا البلد من عجائب، بل اثر فى نفسى زياراتى للرجل التقى بطريرك الاقباط، ثم روى له ما حدث، فطفح السرور على محمد على وللوقت قام إلى الدار البطريركية، وقدم جزيل الشكر للبابا بطرس على ما ابداه من الوطنية والاخلاص لبلده، فرد عليه البابا : لا تشكر من قام بواجب نحو بلاده، فاجابه محمد على والدموع تنهمر من عينه: “لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك فليكن لك مقام محمد على بمصر ولتكن مركبه معدة لركبك كمركبته”..
وبالفعل ومنذ ذلك الوقت سارت صداقة ومحبة بين الرجلين، وامتدت هذه العلاقة بين البابا بطرس وابراهيم باشا ابن محمد على الذى احترم وأجل البابا كوالده، وتنيح البابا بطرس بسلام فى سنة 1852 بعد 42 سنة على الكرسى البباوى..
كيرلس الخامس وسعد زغلول صداقة فى الأرض .. ورحيل فى ذات الشهر
أكثر من نصف قرن جلس البابا كيرلس الخامس على العرش الباباوى وبالتحديد 52 عاماً و 9 أشهر و 6 أيام تمثل اطول فترة لبطريرك على عرش مارمرقس منذ تأسيسه قبل 20 قرنا من الزمان، عاصر خلالها الرجل العديد من الاحداث المهمة بل كان لاعباً اساسياً فيها بحكم منصبه.
كان كيرلس الخامس مؤمناً بعراقة كنيسته ومكانتها سواء وطنياً أو اقليمياً أو عالمياً لذلك واصل نهج البابا كيرلس الرابع أبو الاصلاح فى الاهتمام بالتعليم، وفى عهده اشتهر الارشيدياكون حبيب جرجس الذى قاد ثورة ثانية للتعليم الكنسى، فأسس الكلية الاكليريكية فى عام 1893 واصبح جرجس مديراً لها وكانت تحت رعاية وتدعيم مباشر من البابا الذى كان حبيب شماساً خاصاً له، ثم كانت النقلة الثانية للتعليم الكنسى عندما اسس حبيب مدارس الاحد سنة 1918، والتى اصبح البابا شنودة بعد ذلك احد تلاميذها، ومنها خرج جيل جديد قاد الكنيسة حتى وقتنا هذا.
أما على المستوى السياسى فقد كانت مصر تموج بالأحداث السياسية المهمة ويكفى ان نقول إن فترة جلوس البابا كيرلس قد شهدت ثورتين كبيرتين هما الثورة العرابية وثورة 1919، كذلك تغير نظام الحكم فيها عدة مرات من ولاية عثمانية إلى خديوية تحت الحكم العثمانى إلى سلطنه تحت الحماية البريطانية، واخيراً مملكة مستقلة حتى ولو كان ذلك على نحو شكلى، وبالطبع فقد تأثرت الكنيسة ورأسها – واثرت – فى كل هذه الاحداث..
وما لا يعرفه الكثيرون انه فى ذروة الثورة العرابية ووقت ان كان الخليفة العثمانى يطعن زعيمها احمد عرابى من الخلف ويصدر اعلاناً بعصيانه وخروجه على الطاعة السلطانية، كان الازهر والكنيسة بقيادة البابا كيرلس وكل الوطنيين المصريين يضعون ايديهم فى يد عرابى ضد الجيش الانجليزى القادم لاحتلال مصر بحجة حماية الخديوى، وكمثل باباوات الكنيسة اثناء الحملات الصليبية لم يهتم كيرلس بديانة الانجليز بل اعتبرهم مجرد غزاة طامعين فى خيرات بلاده لذلك نادى ابناءه بالتوحد خلف عرابى ومقاومة الغزاة الانجليز.
ووصل الدور الوطنى للبابا كيرلس الخامس ذروته فى جهاده ضد الانجليز اثناء ثورة 1919 حيث امر الاقباط بالمشاركة بالثورة مع اخواتهم المسلمين ضد الاحتلال الاجنبى، وامر بفتح الكنائس للشيوخ لإلقاء خطبهم من على منابرها، كما امر بذهاب الكهنة لإلقاء الخطب فى الأزهر الشريف، وامتزج الدم الوطنى لا فرق بين مسلم وقبطى فالكل كان تحت راية وشعار واحد «يحيا الهلال مع الصليب»، فالكل كان يتطلع وقتها لزعيم واحد كان هذه المرة هو سعد زغلول.
كان من عبقرية سعد انه عمل على توحيد الأمة المصرية كلها لتكون على قلب رجل واحد ليكون ذلك أهم أسلحته فى مواجهة الاحتلال الذى كان يشهر سياسية «فرق تسد» لينسى الجميع خلافاتهم فى بداية القرن العشرين والتى اسفرت عن مؤتمر قبطى سنة 1911 ، بعد حادثة مقتل رئيس الوزراء بطرس باشا غالى الذى حاول الاحتلال الانجليزى تصويرها على ان المسلمين لا يريدون رئيس وزراء قبطيا، وتبعه مؤتمر اسلامى روج كثيرون على انه ردًا على المؤتمر الاول، ليبدو واضحاً للعيان ان مصر على شفا انقسام طائفى رهيب، لكنها العبقرية المصرية التى تجد الحل فى قمة الأزمة، لتكون مصر بعد سنوات قليلة من هذه الاحداث على موعد مع سعد زغلول الذى استطاع أن يوحد الطرفين لينسى الجميع انتماءاتهم الطائفية وليتذكروا فقط انتماءهم الوطنى، ووجد سعد ضالته على الجانب الآخر وبالتحديد فى الجالس على كرسى مارمرقس صاحب الدور الوطنى فى مساندة عرابى، وكان من الطبيعى ان تنشأ صداقة محتومة بين رأس الكنيسة القبطية الذى حث اولاده على المشاركة فى الثورة وزعيم تلك الثورة، ولتخرج مقولة القمص سرجيوس خطيب ثورة 19 الشهيرة « إذا كان الانجليز يتحججون للبقاء فى مصر بحماية المليون قبطى، فليمت الاقباط ولتعش مصر حرة مستقلة».
وتعددت زيارات سعد للبابا الذى جعل كنائسه منابر لخطباء الثورة، وحث على تعاون القساوسة والشيوخ فى توعيه المصريين فى طلب الاستقلال، وليظل الصديقان على اتصال مستمر وليشهد سعد لصديقه بالوطنية وحب مصر فى كثير من احاديثه.
العجيب ان الزعيمين الجليليين لقا ربهم فى نفس الشهر، فتنيح البابا كيرلس فى 7 اغسطس عام 1927، ويلحق سعد بصديقه فى 27 من نفس الشهر، لتلتقى أرواحهم فى السماء كما كانت تتلاقى على ارض الكنانه فى حب مصر..
كيرلس السادس الصديق الوفى لعبد الناصر
ظلت الكنيسة لمدة 3 سنوات بعد نياحة البابا يوساب الثانى بدون بابا، تم خلالها إعداد لائحة 1957 لانتخاب البابا وعلى الرغم من ان هذه اللائحة – والمعمول بها حتى الآن– كانت تمنح المطارنة والأساقفة حق الترشح للكرسى الباباوى، فان قيادة الكنيسة كانت قد تعلمت الدرس جيدًا وأرادت أن تلتزم حرفياً بالقوانين والتقاليد الكنسية التى تمنع هؤلاء من الترشح للمنصب السامى خاصة بعد الاضطراب الذى وقع فى نهاية عهد الأنبا يوساب، ولذلك جمع نيافة الانبا اثناسيوس القائم مقام الباباوى وقتها المطارنة والأساقفة أعضاء المجمع المقدس وخاطبهم قائلا: اعلم تماما ان اللائحة تعطيكم الحق للترشح ولكن لا حل لمن يترشح للكرسى التزاما بقوانين الكنيسة، ولحسن الحظ اطاع جميعهم اوامر القائم مقام واتفقوا على عدم الترشح تاركين المنصب للرهبان فقط طبقاً للتقاليد الكنسية.
وفى مساء يوم غلق باب الترشح للمنصب اتصل الانبا اثناسيوس تليفونيا بالقمص مينا المتوحد فى كنيسة مارمينا التى اسسها بمصر القديمة وسأله القائم مقام عن سبب عدم تقديم تزكية لنفسه فى الانتخابات فرد عليه القمص مينا «يا سيدنا آبائى الرهبان كثيرون وتقدموا بتزكياتهم، وكلهم أهل لهذا المنصب الخطير»، فأجابه القائم مقام الذى كان يعرف مقدرة الرجل جيداً «يا أبونا مينا كان يجب الا يفوتك هذا الواجب، عموماً لقد قدمت تزكية باسمك فى الوقت المناسب»، فرد القمص مينا ببساطته المعهودة «حفظ الله حياتكم يا سيدنا راح يروح فين الصعلوك بين الملوك»، فأجابه القائم مقام» الله يرفع الفقير من المزبلة، ويجلسه مع رؤساء شعبه».
يقول التقليد الكنسى إن الذى يطلب هذه الرتبة لنفسه لا ينالها، وعلى الرغم من انه عندما اجريت الانتخابات جاء القمص مينا البراموسى المتوحد فى المركز الثالث والاخير من الناجحين، فإن القرعة الهيكلية التى أجريت فى 19 أبريل من سنة 1959 قد اسفرت عن فوز هذا الراهب البسيط لتكون الكنيسة على موعد مع واحد من اعظم من جلس على عرش مارمرقس بشهادة منتقديه قبل مؤيديه.
كانت مصر كلها وقتئذ تموج بالمشاعر الثورية والوطنية التى خلفتها ثورة 1952 ، وكان عبد الناصر قد اصبح محط أنظار العالم اجمع بقراراته الثورية ومشروعه للوحدة العربية، ولتكن مصر على موعد مع صداقة من نوع فريد قامت بين زعيمها السياسى جمال عبد الناصر، ورأس الكنيسة القبطية البابا كيرلس السادس وهو الاسم الذى حمله القمص مينا بعد رسامته.
كانت صداقة من نوع فريد ومنذ أول مقابلة بينهما عرف كل منهما ماذا يريد من الآخر، والأهم كان هدفهما واحدًا وهو رفعة وتقدم مصر، كان الهدف هو البناء اخذ عبد الناصر الجانب السياسى والوطنى، وتولى كيرلس الجانب الروحى فى الشأن الكنسى، وفى هذا اللقاء الاول قال البابا لناصر «إنى بعون الله سأعمل على تعليم ابنائى معرفة الله وحب الوطن ومعنى الاخوة الحقة ليشب ابناء هذا الوطن وحدة قوية لديها الايمان بالله والحب للوطن»، ولقد كان هذا ما يريده بالضبط عبد الناصر فأثنى على وطنية البابا ودعى كل منهما للآخر بالتوفيق.
كان عبدالناصر يعرف قيمة الكنيسة القبطية ومكانتها الروحية والتاريخية على مستوى العالم، وكان هدفه هو استعادة مكانة مصر اللائقة بين دول العالم، وبالطبع فقد كان لا يغفل الدور الحيوى الذى يمكن ان يقوم به الازهر والكنيسة لتحقيق هذا الهدف، خاصة فى افريقيا وآسيا سواء من خلال البعثات التعليمية للازهر، او الكنائس التابعة للكنيسة المصرية فى افريقيا وخاصة إثيوبيا مع العلاقة القوية التى نشأت بين البابا وامبراطور اثيوبيا هيلاسلاسى.
وبدأ البابا حركة الإصلاح فى الكنيسة، وكانت اولها الاعتماد على الجيل الجديد من الرهبان المتعلمين اصحاب الشهادات الجامعية فى قيادة الكنيسة، والذى كان معظمهم قد تربى على يديه فى كنيسته بمصر القديمة، فاستدعى بعضًا من هؤلاء الشباب الرهبان وكان منهم الاب انطونيوس السريانى وضمهم إلى سكرتاريته عام 62، فكان لهم دور مهم فى تفعيل دور السكرتارية البابوية الأمر الذى شجع البابا كيرلس لأن يختار اثنين منهم هما الاب انطونيوس السريانى والاب مكارى السريانى لرسامتهم اسقفين عامين، وهى المرة الاولى فى تاريخ الكنيسة التى يستحدث فيها منصب الاسقف العام، فكان الاول الانبا شنوده اسقف التعليم (البابا شنودة الثالث فيما بعد)، والثانى الاسقف صموئيل اسقف الخدمات العامه( الذى تولى مسئولية العلاقات الخارجية والايبراشيات حول العالم) وتمت الرسامة فى يوم واحد سنة 1964.
كانت الكنيسة القبطية قد بدأت تستعيد مكانتها العالمية، وكانت الوفود تأتى اليها من مختلف انحاء العالم، وبدأ البابا كيرلس يفكر فى بناء كاتدرائية جديدة تليق بمكانة وتاريخ مصر والكنيسة ووافقه الرئيس عبد الناصر بل قرر مساهمة الدولة فى المشروع بقيمة مائة ألف جنيه، وكانت مبلغ ضخمًا فى هذا التوقيت، بل إن أبناء الرئيس انفسهم وكانوا اطفالا صغارا فى ذلك الوقت قد تبرعوا بمصروفهم للمساهمة فى البناء، لم يكن مشروع بناء دينى فقط ولكنه كان مشروعا وطنيا فى المقام الاول، وذهب الرئيس بنفسه ليضع حجر الاساس للكاتدرائية المرقسية بالعباسية فى احتفالات يوليو سنة 1965، لتتلاقى المناسبة الوطنية مع المناسبة الدينية، ولتزداد الرابطة بين الصديقين..
وظلت الكنيسة واحدة من اهم ادوات تنفيذ السياسة المصرية طوال عهد عبد الناصر سواء على المستوى الداخلى فى خلق جيل يؤمن بالمبادئ الوطنية والقومية، أو على المستوى الخارجى من خلال علاقات البابا الطيبة بمعظم دول العالم، وهو ما تجسد وبشدة عقب العدوان الاسرائيلى فى يونيو 67 عندما لعبت الكنيسة دوراً فى إدانه دول افريقية كثيرة للعدوان وقطع علاقاتها باسرائيل خاصة اثيوبيا..
ومات عبد الناصر فى سبتمبر 1970 ليبكيه الشعب المصرى كله وفى مقدمتهم البابا، ولم تكد تمر 6 أشهر حتى لحق كيرلس بصديقه حيث تنيح فى مارس 1971، والعجيب ان اذاعة امريكا قد قالت فى تقرير لها يوم وفاة البابا لقد توفى الصديق الوفى لعبد الناصر..
شنودة الثالث بابا العرب الذى رفض زيارة القدس
ألقاب كثيرة حملها البابا شنودة الثالث، فهو بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وهو بابا التعليم، وهو رمانة الميزان فى الوحدة الوطنية، ولكن بالتأكيد فإن أحد أهم الألقاب التى حملها البابا الراحل كان «بابا العرب»، ولم لا وموقفه من رفض زيارة القدس الا ويده فى يد شيخ الازهر كان مضربًا للأمثال فى الوحدة الوطنية بل والعربية أيضاً، على الرغم من ان هذا الموقف قد جلب عليه متاعب كثيرة داخلياً وخارجياً، وخاصة غضب الرئيس الراحل انور السادات ليدفع البابا ثمناً باهظاً لموقفة الوطنى الذى جمع حوله المصريين والعرب.
كانت العلاقة بين البابا والسادات متوترة اصلاً، كان السادات قد بدأ فى استخدام التيارات الدينية لمواجهة التيارات اليسارية وخاصة الناصرية منها، فى محاولة لتحجيم شعبية سلفه، كانت لعبة سياسة برع فيها السادات على الرغم من انه دفع حياته ثمناً لها بعد ذلك، إلا انه لم يفكر فى خطورة ذلك على الوحدة الوطنية فمع نمو هذه التيارات ظهرت الحوادث الطائفية فى الخانكة وغيرها، وكان من الطبيعى ان تغضب الكنيسة ويحدث الصدام بين البابا والسادات، واستمر بعد ذلك التقارب والتباعد بين الرجلين إلا انه القشة التى قصمت ظهر البعير كان رفض البابا الشاب وقتها لطلب الرئيس السادات السماح للأقباط بزيارة القدس، وياللعجب ان هذا حدث بعد انتصار اكتوبر واعتقاد الجميع ان مصر ستتوحد أكثر وأكثر للانطلاق نحو عصر جديد من التقدم والرخاء.
كان السادات قد وقع اتفاقية كامب ديفيد مع اسرائيل التى أصرت ألا تقتصر بنودها على السلام وانهاء حالة الحرب بين البلدين مقابل انسحاب اسرائيل من سيناء، بل تمتد للتطبيع الكامل وتبادل الزيارات بين مواطنى البلدين، ولما كانت الاتفاقية مرفوضه شعبياً فلم يكن امام السادات الا ان يطلب من البابا شنودة ليأمر الاقباط بأن يذهبوا للتقديس فى الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس وبيت لحم، الا انه فوجئ بالبابا يرفض وبشدة قائلاً إنه يرفض الذهاب للقدس إلا ويده فى يد شيخ الازهر، وبعد أن تتحرر المدينة من الاحتلال الاسرائيلى بل انه سيأمر الاقباط بعدم الذهاب للقدس فى ظل الاحتلال، وهو ما اغضب الرئيس وبشدة واعتبر هذا الموقف تدخلاً من البابا فى شأن سياسى ليس من اختصاصه.
والواقع ان البابا الشاب الذى كان له العديد من المواقف الوطنية حتى قبل رهبنته، كان مثلة ككثير من الشعب المصرى رافضاً للاحتلال الاسرائيلى، وكان قد تطوع فى الجيش المصرى اثناء حرب 48، وحتى بعد توليه اسقفية التعليم كان كثيراً ما يفند فى محاضراته ادعاءات اسرائيل بأن اليهود هم شعب الله المختار، وفى احدى هذه المحاضرات والتى عقدت فى نقابة الصحفيين فى الستينيات وحضرها المئات من المثقفين والكتاب نال شنودة عضوية النقابة خاصة انه كان وقتها رئيساً لتحرير مجلة مدارس الاحد بحكم منصبه كأسقف للتعليم، والطريف انه بعدها بسنوات عندما تقابل البابا شنودة مع الرئيس جيمى كارتر فى المكتب البيضاوى وسأله الرئيس الامريكى المعروف بانتمائه للصهيونية المسيحية لماذا يعارض ان اليهود هم شعب الله المختار؟ ففند البابا امامه هذه المزاعم ومن الكتاب المقدس نفسه، وهو ما افحم كارتر وأقنعه فى نفس الوقت، ولكن بالطبع اغضب اسرائيل وقتها وجر على البابا متاعب كثيرة.
عمومًا دفع البابا ثمن رفضه السماح للاقباط زيارة القدس غالياً، بعد ان كان هذا سبباً فى وصول علاقته بالرئيس السادات إلى طريق مسدود، لتأتى قرارات سبتمبر التى حدد فيها السادات اقامة البابا وسحب التصديق على قرار تعيينه كبابا للكنيسة المصرية، وعين لجنة من 5 اساقفة لإدارة شئون الكنيسة، وعلى الرغم من ان قرارات السادات لم تكن ذى جدوى خاصة ان البابا طبقاً للتقاليد الكنسية لا يعزل من منصبه إلا بقرار من المجمع المقدس وبسبب واحد فقط هو الهرطقة، وعلى الرغم من الغضب الشعبى الا ان البابا استقبل الامر بهدوء بل ذهب بنفسه إلى دير الانبا بيشوى قبل اعلان القرار، لقد انحنى للعاصفة ووضع مصلحة البلد قبل مصلحته الذاتيه، ولتنتهى أزمة قرارات سبتمبر باغتيال الرئيس السادات نفسه فى اكتوبر 1981..
وحتى بعد مقتل السادات وخروج معظم معتقلى سبتمبر من السياسيين والمثقفين وكبار الكتاب والادباء، استمر البابا مبعداً فى دير الانبا بيشوى حتى يناير 1985، ليعود بعدها إلى كرسيه، ليمارس مسئولياته كبابا للكنيسة، ولكنه أصر مع ذلك على رفض زيارة القدس وهو ما منحه شعبية كبيرة ليس فقط بين المسيحيين بل ايضاً بين المسلمين، وليس فقط داخل مصر بل ايضاً فى الوطن العربى كله مما رشحه لكى يحصل على لقب بابا العرب عن جدارة واستحقاق.
ولم يتوقف دور البابا الراحل على رفضه زيارة القدس الا ويده فى يد شيخ الازهر، فقد كان له دور بارز فى تدعيم الوحدة الوطنية حتى لقب فى السنوات الاخيرة بأنه رمانة الميزان فى الحفاظ على الوحدة الوطنية فى مصر، حكمة السنين جعلته يعالج الأمور بروية ويرفع مصلحة الوطن عالية، خاصة مع هدوئه الشديد ومقابلته اصعب المواقف بابتسامة جميلة تنزع فتيل الازمات، وهو أول من ابتكر فكرة موائد الوحدة الوطنية اثناء شهر رمضان المبارك التى طبقت فى جميع الكنائس الارثوذكسية داخل وخارج مصر، بل انه كان حريصاً على تعليم ابناء المصريين المهاجرين فى الخارج اللغة العربية لربطهم بوطنهم الام مصر..
كانت هذه الروح الجميلة والوطنية العالية سبباً فى صداقته بالعديد من رجال الدين الاسلامى مثل الشيخ متولى الشعراوى التى كانت مقابلتهم الشهيرة حديثا للجميع لما اتسمت به من ود ومحبة، كذلك صداقته بالدكتور حمدى زقزوق، وكذلك الدكتور على السمان، الا ان صداقته العميقة مع شيخ الازهر الراحل فضيلة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوى فكانت وبحق مضرب الامثلة للصداقة الحقيقية بين رجلين تربعا على قمة مؤسستين هما وبحق منارة مصر للعالم اجمع وهما الأزهر والكنيسة، مما جعل البعض يؤكد إن علاقة الرجلين تشبه احتضان الهلال والصليب، ولقد كانا يتمتعان بصفات مشتركة كثيرة من الحكمة والسماحة والهدوء وبعد النظر والاهم حب مصر التى جعلوا خدمتها أساس كل قرارتهم ومواقفهم.
ولا ينسى الجميع انه عندما فقدت مصر الشيخ طنطاوى بوفاته فى عام 2010، أقام البابا مؤتمرًا صحفيًا كبيرًا لنعى صديقه العزيز فى سابقة لم تتكرر طوال عهد البابا شنودة، وظهر التأثر واضحًا على البابا فى مشهد يدل على عمق المحبة والصداقة بين القطبين، ولم يمض وقت طويل حتى كان البابا قد لحق برفيق دربه..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.