منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير ونجاحها في خلع مبارك في الحادي عشر من فبراير 2011، بدت في الأفق بوادر لتوتر في العلاقات الأمريكية – المصرية؛ للتغير الحادث في السياسة الخارجية لمصر الثورة على الصعيدين الإقليمي والدولي بما يؤثر فى المصالح الأمريكية بالمنطقة. غير أن هذا التوتر بدأ يطفو على السطح مع مداهمة السلطات الأمنية لمنظمات المجتمع المدني، وإحالة السلطات القضائية 43 من العاملين بتلك المنظمات، بينهم 19 أمريكياً، إضافة إلى أجانب من جنسيات أخرى ومصريين، إلى محاكمة جنائية. وفي الوقت الذي مارست فيه واشنطن كافة وسائل الضغط على النظام الانتقالي آنذاك إبان حكم المؤسسة العسكرية في مصر للتراجع عن قراره بتقديم أمريكيين للقضاء المصري ضمن متهمين آخرين بسبب تمويل منظمات المجتمع المدني العاملة في مصر ، رفضت القاهرة تلك المطالب الأمريكية، وهو مايطرح تساؤلات حول كيفية تعاطي واشنطن مع أزمة التمويل الخارجي لمنظمات العمل المدني في مصر، في ظل تلويح واشنطن بورقة المعونة والمساعدات. بوادر الأزمة كانت قوات الشرطة والجيش بصحبة عناصر من النيابة العامة قد هاجمت صباح يوم 29 ديسمبر 2011 مقار كل من: المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، ومرصد الموازنة العامة لحقوق الإنسان، والمنظمات الدولية لحقوق الانسان والديموقراطية ، وأعربت منظمات حقوقية عن إدانة تلك الهجمة واسعة النطاق والمستمرة على مؤسسات حقوق الإنسان والمجتمع المدني ، لتلقيها تمويلات من جهات خارجية. وشكلت هذه الخطوة بداية لحملة أمنية طالت عشرات من المؤسسات الحقوقية، في إطار حملة أوسع أطلقها المجلس العسكري للنيل من كافة النشطاء الحقوقيين، والعديد من القوى المنخرطة في فعاليات ثورة الخامس والعشرين من يناير. فقد اتهمت سلطات التحقيق المصرية أربع منظمات أمريكية، هي: "المعهد الجمهوري الدولي" - الذي يترأسه السيناتور عن ولاية أريزونا، "جون ماكين"، المرشح الرئاسي السابق-، و"المعهد الديمقراطي الوطني" - الذي أسسته وزيرة الخارجية السابقة "مادلين أولبرايت"-، ومنظمة "بيت الحرية"، و"المركز الدولي الأمريكي للصحفيين" باختراق القوانين المصرية، وممارسة أعمال سياسية وليست حقوقية، ودفع أموالا طائلة لشخصيات وجهات مصرية، حسبما أشار قاضيا التحقيق في ملف المنظمات غير الحكومية ، أشرف العشماوي وسامح أبو زيد، في المؤتمر الصحفي الذي عقد في الثامن من فبراير 2012. ومن أبرز التسعة عشر أمريكيا متهما في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني "سام لحود"، مدير مكتب "المعهد الجمهوري الدولي" في القاهرة، ونجل وزير النقل الأمريكي "راي لحود". والملاحظ أن أزمة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني المصري ليست وليدة المداهمات الأمنية لعدد من المنظمات العاملة في مصر، وتقديم مسئوليها للقضاء المصري، ولكنها بدأت تلوح في الأفق مع إعلان السفيرة الأمريكية لدى مصر "آن باترسون" أمام لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكية، أثناء جلسة استماع لها للموافقة على تسميتها سفيرة للولايات المتحدةبالقاهرة لخلافة "مارجريت سكوبى"، أن 600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول على منح مالية أمريكية لدعم المجتمع المدني. وأضافت أن الولاياتالمتحدة قدمت 40 مليون دولار خلال خمسة أشهر لمنظمات المجتمع المدني لدعم الديمقراطية في مصر، بمعدل 8 ملايين دولار كل شهر . وفي كلمة لها أمام لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشعب بخصوص أزمة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، قالت وزيرة التخطيط والتعاون الدولي "فايزة أبو النجا" في حكومة الجنزوري وقتها إن الفترة من مارس حتى يونيو 2011 (4 أشهر) شهدت تمويلا أمريكيا لمنظمات المجتمع المدني، بلغ 175 مليون دولار، بينما لم يتجاوز هذا التمويل في 4 سنوات (من 2006 حتى 2010) مبلغ 60 مليون دولار فقط. انعكاسات الأزمة انعكس التوتر الحادث في العلاقات الأمريكية – المصرية، على خلفية أزمة تمويل منظمات المجتمع المدني، في تهديد الكونجرس الأمريكي ومسئولي الإدارة الأمريكية، وفي مقدمتهم وزيرة الخارجية الأمريكية "هيلاري كلينتون"، التي هددت أثناء حضورها مؤتمر "الأمن" بمدنية ميونيخ الألمانية بقطع المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية للقاهرة، والتي تقدر ب 1.3 مليار دولار، فضلا عن 250 مليون دولار كانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت تخصيصها لمصر العام الحالي. لم تكن تحذيرات وزيرة الخارجية الأمريكية بقطع المعونة عن مصر هي الأولى من نوعها، فقد سبقها تحذير السيناتور "باتريك ليهي"، رئيس اللجنة الفرعية بمجلس الشيوخ، المسئولة عن الاعتمادات، من خطورة المسلك الذي تتخذه القاهرة، مؤكدا أن "بوسع الكونجرس وقف كل أشكال المساعدات الأمريكية لمصر، ما لم تتوقف هذه الحملة الشرسة على جماعات ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية العاملة في مصر بتمويل من الإدارة الأمريكية". وأضاف ليهي أن "زمن الشيكات على بياض انتهى". وفي سياق متصل، حذر أكثر من 40 نائبا أمريكيا، في رسالتين مشتركتين، وزيرة الخارجية "هيلاري كلينتون"، ووزير الدفاع "ليون بانيتا"، والمشير "محمد حسين طنطاوي"، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من أن المساعدات الأمريكية لمصر في وضع خطير. كما أشار البيت الأبيض علناً إلى أنه طرح موضوع مراجعة المساعدات الأمريكية، فقال الناطق باسم البيت الأبيض "جاي كارني" إن الخطوات المصرية ضد منظمات المجتمع المدني ستكون لها تداعيات على العلاقات الأمريكية – المصرية، بما في ذلك برنامج المساعدات الأمريكية لمصر. وتطرقت أيضا الناطقة باسم الخارجية الأمريكية "فيكتوريا نولاند" لهذا الملف، قائلة "نحن في وضع صعب جداً للغاية على صعيد الدعم الذي نرغب في تقديمه لمصر". ولأول مرة، تتفق مؤسسات الحكم الأمريكية على ضرورة تخفيض وتعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر. نتيجة لتصاعد الدعوات والمطالب داخل الكونجرس الأمريكي وباقي مؤسسات الحكم الأمريكية بقطع المساعدات الأمريكية للقاهرة، بما فيها العسكرية، على خلفية احتجاز الأمريكيين في مصر، ألغى الوفد العسكري المصري بشكل مفاجئ اجتماعا كان مقررا له مع عدد من أعضاء مجلسي الكونجرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ). وستكون هذه الأزمة على أجندة لقاءات رئيس أركان قيادة الأركان الأمريكية المشتركة، الجنرال "مارتن دمبسي" – الذي سيزور القاهرة في الأيام القادمة - برئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة، المشير "حسين طنطاوي"، ونائبه الفريق "سامي عنان". محددات العلاقات لا يمكن فصل ضغوط واشنطن على القاهرة بورقة المعونة مصر عن المتغيرات الجديدة في مصر بعد ثورة 25 يناير والتي قد تؤثر في شكل العلاقات بين البلدين ، ولعل ذلك دفع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى التصريح عقب زيارتها للقاهرة ولقائها عدداً من المسئولين المصريين "إنه سيكون هناك قرارات مختلفة في سياسات مصر الخارجية الجديدة عما كانت عليه إبان نظام مبارك". ومن أبرز المتغيرات الجديدة على الساحة المصرية: أولاً: تزايد دور الرأي العام كمحدد في السياسات المصرية عقب نجاح ثورة 25 يناير، وهو الأمر الذي كان غائبا طوال الثلاثين عاماً إبان حكم مبارك، وهو ما قد يدفع السياسة الخارجية لمصر ما بعد مبارك نحو "الشعبوية" ومعارضة القوى الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، بهدف نيل استحسان الداخل المصري بعد فترة طويلة من تراجع الدور المصري إقليمياً ودولياً. ثانياً: تزايد نفوذ القوى الإسلامية وبخاصة جماعة "الإخوان المسلمين" ، عقب ثورة 25 يناير إثر فوز ذراعها السياسي "حزب الحرية والعدالة" بأغلبية مقاعد مجلس الشعب، وهو ما قد يؤثر على العلاقات المصرية – الأمريكية ، لاسيما في ضوء رفض الإسلاميين الاعتراف بإسرائيل وعدم حسم موقفهم من معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية ، وبالتالي لن يتخلى الإسلاميون عن مواقفهم تلك لأنها مصدر شرعيتهم وقوتهم في الشارع المصري. ثالثا: التوجه المصري لإعادة تشكيل العلاقات المصرية - الإسرائيلية بعد مؤشرات التوتر بين البلدين على خلفية أزمات ما بعد الثورة مثل التوتر على الحدود بين مصر وإسرائيل، والاقتحام الشعبي للسفارة الإسرائيلية، واستبدال العلم المصري بالإسرائيلي، وهو الأمر الذي دفع أعضاء اللوبي الإسرائيلي داخل الولاياتالمتحدة – خصوصاً منظمة "إيباك" - إلى الضغط على صانعي القرار الأمريكي لاتخاذ سياسات متشددة تجاه مصر. رابعا: الانفتاح المصري على قوى إقليمية تعتبرها واشنطن مناوئة لها ولمصالحها في المنطقة، وفي مقدمها إيران - إبان تولي نبيل العربي قيادة وزارة الخارجية المصرية - والعلاقات مع تركيا الحليف الأمريكي المعارض لكثير من سياسات واشنطن في المنطقة. ولهذا بدأ الحديث داخل الأوساط الأكاديمية والبحثية الأمريكية عن مساع مصرية لإعادة تشكيل العلاقات المصرية الأمريكية. سيناريوهات متوقعة اتهام منظمات أمريكية قريبة من مؤسسات صنع القرار الأمريكي، خاصة المعهدين "الجمهوري الدولي"، و"الديمقراطي الوطني" المرتبطين بعلاقات قوية بأعضاء في الحزبين الجمهوري والديمقراطي في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني المصري، لتغيير في شكل العلاقات الأمريكية – المصرية بلا جدال، لاسيما في ظل التغير الحادث في السياسة الخارجية لمصر بعد الثورة، وانتهاجها سياسات قد تتعارض مع المصالح الأمريكية في المنطقة. وتعددت سيناريوهات المراقبين حيال الأزمة ، ولخصوها في ثلاث احتمالات السيناريو الأول: تعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر ، وقيمتها 1.3 مليار دولا ، أما السيناريو الثاني يتمثل في إلغاء المساعدات العسكرية الأمريكي ، والسيناريو الأخير يشمل التركيز على قضايا التحول الديمقراطي. الانبطاح المهين في نهاية المطاف ، أطلقت السلطات سراح الأمريكيين المحتجزين في قضية التمويل الأجنبي ، لتنهي بذلك أخطر أزمة تضرب علاقات الحليفين السابقين (القاهرةوواشنطن) ، وقد تحملت الولاياتالمتحدة الكفالة وقدرها نحو 4 ملايين دولار لموظفيها الذين كانت تحتجزهم القاهرة على ذمة القضية. وقالت وزارة الخارجية الأمريكية آنذاك إن 13 عاملا أجنبيا بينهم 6 أمريكيين غادروا مصر على متن طائرة خاصة، وحددت الكفالة التي دفعت للافراج عن المواطنين الأمريكيين بنحو 330 ألف دولار للفرد. وثار عقب الإفراج عنهم لغط في الشارع المصري بشأن الأطراف المضطلعة بالأزمة ، وكيفية السماح للمتهمين إي كانت جنسيتهم بالرحيل ، وطالما أنه سيتم الإفراج عنهم في نهاية المطاف لما تم تفجير القضية من الأساس. وذهب البعض إلى أن خروج المتهمين مجرد صفقة بين الإخوان المسلمين والأمريكان ، بعدما وجه جون ماكين الشكر لجماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي الحرية والعدالة، مشير الى أن بيانهم في العشرين من فبراير الماضي كان مهما في حل الأزمة ، وهو الأمر الذي نفاه على الجانب المقابل حزب الحرية والعدالة مؤكدا أنه لم لم يكن له أي دور في السماح بسفر المتهمين الأجانب في قضية التمويل الأجنبي ، قائلين "هناك محاولة من السياسية الأمريكية للوقيعة بين الإخوان والشعب، والإدارة الأمريكية تاريخها أسود في الوقوف مع الحكام الظلمة".