مع نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير في الإطاحة بنظام مبارك في الحادي عشر من فبراير2011, ظهرت في الأفق بوادر لتوتر في العلاقات الأمريكية المصرية, للتغير الحادث في السياسة الخارجية لمصر الثورة علي الصعيدين الإقليمي والدولي بما يؤثر في المصالح الأمريكية في المنطقة. بيد أن هذا التوتر بدأ يطفو إلي السطح مع مداهمة السلطات الأمنية المصرية لمنظمات المجتمع المدني, وإحالة السلطات القضائية المصرية43 من العاملين بتلك المنظمات, بينهم19 أمريكيا, إضافة إلي أجانب من جنسيات أخري ومصريين, إلي محاكمة جنائية. وفي الوقت الذي تمارس فيه واشنطن جميع وسائل الضغط علي النظام الانتقالي في مصر للتراجع عن قراره بتقديم أمريكيين للقضاء المصري ضمن متهمين آخرين بسبب تمويل منظمات المجتمع المدني العاملة في مصر, رفضت القاهرة تلك المطالب الأمريكية, وهو ما يطرح تساؤلا حول كيفية تعاطي واشنطن مع أزمة التمويل الخارجي لمنظمات العمل المدني في مصر, في ظل تلويح واشنطن بورقة المساعدات؟. بوادر أزمة منظمات المجتمع المدني أزمة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني المصري ليست وليدة المداهمات الأمنية لعدد من المنظمات العاملة في مصر, وتقديم مسئوليها للقضاء المصري, ولكنها بدأت تلوح في الأفق مع إعلان السفيرة الأمريكية لدي مصر آن باترسون أمام لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي, أثناء جلسة استماع لها للموافقة علي تسميتها سفيرة للولايات المتحدةبالقاهرة لخلافه مارجريت سكوبي, أن600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول علي منح مالية أمريكية لدعم المجتمع المدني. وأضافت أن الولاياتالمتحدة قدمت40 مليون دولار خلال خمسة أشهر لمنظمات المجتمع المدني لدعم الديمقراطية في مصر, بمعدل8 ملايين دولار كل شهر. وفي كلمة لها أمام لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشعب بخصوص أزمة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني, قالت وزيرة التخطيط والتعاون الدولي فايزة أبو النجا إن الفترة من مارس حتي يونيو2011(4 أشهر) شهدت تمويلا أمريكيا لمنظمات المجتمع المدني, بلغ175 مليون دولار, بينما لم يتجاوز هذا التمويل في4 سنوات( من2006 حتي2010) مبلغ60 مليون دولار فقط. تتهم سلطات التحقيق المصرية أربع منظمات أمريكية, هي: المعهد الجمهوري الدولي الذي يترأسه السيناتور عن ولاية أريزونا, جون ماكين, المرشح الرئاسي السابق, والمعهد الديمقراطي الوطني الذي أسسته وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت, ومنظمة بيت الحرية, المركز الدولي الأمريكي للصحفيين باختراق القوانين المصرية, وممارسة أعمال سياسية وليست حقوقية, ودفع أموال طائلة لشخصيات وجهات مصرية, حسبما أشار قاضيا التحقيق في ملف المنظمات غير الحكومية, أشرف العشماوي وسامح أبو زيد, في المؤتمر الصحفي الذي عقد في الثامن من فبراير2012. ومن أبرز التسعة عشر أمريكيا متهما في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني سام لحود, مدير مكتب المعهد الجمهوري الدولي في القاهرة, ونجل وزير النقل الأمريكي راي لحود. مؤشرات توتر العلاقات الأمريكية المصرية انعكس التوتر الحادث في العلاقات الأمريكية المصرية, علي خلفية أزمة تمويل منظمات المجتمع المدني, في تهديد الكونجرس الأمريكي ومسئولي الإدارة الأمريكية, وفي مقدمتهم وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون, التي هددت أثناء حضورها مؤتمر الأمن بمدينة ميونيخ الألمانية بقطع المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية للقاهرة, والتي تقدر ب1,3 مليار دولار, فضلا عن250 مليون دولار كانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت تخصيصها لمصر العام الحالي. لم تكن تحذيرات وزيرة الخارجية الأمريكية بقطع المعونة عن مصر هي الأولي من نوعها, فقد سبقها تحذير السيناتور باتريك ليهي, رئيس اللجنة الفرعية بمجلس الشيوخ, المسئولة عن الاعتمادات, من خطورة المسلك الذي تتخذه القاهرة, مؤكدا أن بوسع الكونجرس وقف كل أشكال المساعدات الأمريكية لمصر, ما لم تتوقف هذه الحملة الشرسة علي جماعات ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية العاملة في مصر بتمويل من الإدارة الأمريكية. وأضاف ليهي أن زمن الشيكات علي بياض انتهي. وفي سياق متصل, حذر أكثر من40 نائبا أمريكيا, في رسالتين مشتركتين, وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون, ووزيرة الدفاع ليون بانتيا, والمشير محمد حسين طنطاوي, رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة, من أن المساعدات الأمريكية لمصر في وضع خطير. كما أشار البيت الأبيض علنا إلي أنه طرح موضوع مراجعة المساعدات الأمريكية, فقال الناطق باسم البيت الأبيض جاي كارني إن الخطوات المصرية ضد منظمات المجتمع المدني ستكون لها تداعيات علي العلاقات الأمريكية المصرية, بما في ذلك برنامج المساعدات الأمريكية لمصر. وتطرقت أيضا الناطقة باسم الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند لهذا الملف, قائلة نحن في وضع صعب جدا للغاية علي صعيد الدعم الذي نرغب في تقديمه لمصر. ولأول مرة, تتفق مؤسسات الحكم الأمريكية علي ضرورة تخفيض وتعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر نتيجة لتصاعد الدعوات والمطالب داخل الكونجرس الأمريكي وباقي مؤسسات الحكم الأمريكية بقطع المساعدات الأمريكية للقاهرة, بما فيها العسكرية, علي خلفية احتجاز الأمريكيين في مصر, ألغي الوفد العسكري المصري بشكل مفاجئ اجتماعا كان مقررا له مع عدد من أعضاء مجلسي الكونجرس( مجلس النواب ومجلس الشيوخ). وستكون هذه الأزمة علي أجندة لقاء رئيس أركان قيادة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارتن دمبسي الذي سيزور القاهرة في الأيام القادمة برئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة, المشير حسين طنطاوي, ونائبه الفريق سامي عنان. تغير العلاقات المصرية الأمريكية بعد الثورة لا يمكن فصل ضغوط واشنطن علي القاهرة بورقة منع المعونة عن مصر عن المتغيرات الجديدة في مصر بعد ثورة25 يناير والتي قد تؤثر في شكل العلاقات بين البلدين, ولعل ذلك دفع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلي التصريح عقب زيارتها للقاهرة ولقائها عددا من المسئولين المصريين إنه سيكون هناك قرارات مختلفة في سياسات مصر الخارجية الجديدة عما كانت عليه إبان نظام مبارك ومن ابرز المتغيرات الجديدة علي الساحة المصرية: أولا: تزايد دور الرأي العام كمحدد في السياسات المصرية عقب نجاح ثورة25 يناير, وهو الأمر الذي كان غائبا طوال الثلاثين عاما إبان حكم مبارك, وهو ما قد يدفع السياسة الخارجية لمصر ما بعد مبارك نحو الشعبوية ومعارضة القوي الغربية وعلي رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية, بهدف نيل استحسان الداخل المصري بعد فترة طويلة من تراجع الدور المصري إقليميا ودوليا. ثانيا: تزايد نفوذ القوي الإسلامية وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين, عقب ثورة25 يناير إثر فوز ذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة بأغلبية مقاعد مجلس الشعب, وهو ما قد يؤثر علي العلاقات المصرية الأمريكية, لا سيما في ضوء رفض الإسلاميين الاعتراف بإسرائيل وعدم حسم موقفهم من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية, وبالتالي لن يتخلي الإسلاميون عن مواقفهم تلك لأنها مصدر شرعيتهم وقوتهم في الشارع المصري. ثالثا: التوجه المصري لإعادة تشكيل العلاقات المصرية الإسرائيلية بعد مؤشرات التوتر بين البلدين علي خلفية أزمات ما بعد الثورة مثل التوتر علي الحدود بين مصر وإسرائيل, والاقتحام الشعبي للسفارة الإسرائيلية, واستبدال العلم المصري بالإسرائيلي, وهو الأمر الذي دفع اعضاء اللوبي الإسرائيلي داخل الولاياتالمتحدة خصوصا منظمة إيباك إلي الضغط علي صانعي القرار الأمريكي لاتخاذ سياسات متشددة تجاه مصر. ويذكر ان أي تأثير سلبي في العلاقات المصرية الإسرائيلية ينعكس علي العلاقات المصرية الأمريكية سلبا ايضا, لكون العلاقات بين القاهرةوواشنطن ثلاثية علي عكس طبيعة العلاقات بين الدول التي تكون ثنائية في العموم وهناك مقولة تصف العلاقات المصرية الأمريكية مفادها أن الطريق إلي البيت الأبيض لابد أن يبدأ من تل أبيب. رابعا: الانفتاح المصري علي قوي إقليمية تعتبرها واشنطن مناوئة لها ولمصالحها في المنطقة, وفي مقدمها إيران إبان تولي نبيل العربي قيادة وزارة الخارجية المصرية والعلاقات مع تركيا الحليف الأمريكي المعارض لكثير من سياسات واشنطن في المنطقة ولهذا بدأ الحديث داخل الأوساط الأكاديمية والبحثية الأمريكية عن مساع مصرية لإعادة تشكيل العلاقات المصرية الأمريكية. سيناريوهات أمريكية تجاه مصر سيؤدي اتهام منظمات امريكية قريبة من مؤسسات صنع القرار الأمريكي, خاصة المعهدين الجمهوري الدولي و الديمقراطي الوطني المرتبطين بعلاقات قوية بأعضاء في الحزبين الجمهوري والديمقراطي في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني المصري, للتغيير في شكل العلاقات الأمريكية المصرية بلا جدال, لا سيما في ظل التغير الحادث في السياسة الخارجية لمصر بعد الثورة, وانتهاجها سياسات قد تتعارض مع المصالح الأمريكية في المنطقة, مما سيؤثر في شكل العلاقات بين البلدين, والتعاطي الأمريكي مع التحولات الحادثة في مصر خلال الفترة القادمة والذي يأخذ ثلاثة سيناريوهات مستقبلية, هي علي النحو التالي: السيناريو الأول تعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر: يربط الكونجرس الأمريكي بين تقديم المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر لعام2012, وقيمتها1.3 مليار دولار, بعدد من الإجراءات علي المجلس العسكري الحاكم اتخاذها. وتتمثل تلك الإجراءات في الحفاظ علي اتفاقية السلام مع اسرائيل, والسماح بانتقال السلطة الي جهة مدنية, وحماية الحريات الأساسية, ويضيف مشروع قرار الكونجرس فقرة إلغاء هذه الشروط لأسباب أمنية. ولاستمرار تلقي مصر تلك المعونات, علي وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أن تقدم للكونجرس بما يفيد التزام المجلس العسكري بتنفيذ تلك الشروط, وهو أمر من الصعب القيام به من جانب وزيرة الخارجية الأمريكية, أو أي مسئول أمريكي, أو إلغاء تلك الشروط لأسباب أمنية لافتقاد النظام المصري مؤيديه داخل الكونجرس الأمريكي بعد تلك الأحداث الأخيرة. ويضاف الي ذلك الانتقادات التي توجه داخل واشنطن لشركات العلاقات العامة التي تعتمد عليها القاهرة في تحسين صورتها من أعضاء في الكونجرس الأمريكي, وفي مقدمتهم جون ماكين وجوزيف ليبرمان. كما أن النظام المصري فقد إحدي أهم جماعات الضغط المؤثرة في أروقة صنع القرار الأمريكي, وهي منظمة إيباك التي كانت تقوم بالدفاع عن النظام المصري في مناسبات كثيرة داخل الكونجرس الأمريكي للسياسات المصرية الموالية للولايات المتحدة وإسرائيل. فمؤخرا, شهدت العلاقات المصرية الإسرائيلية حالة من التوتر, علي خلفية أحداث السفارة الإسرائيلية, ناهيك عن التقارب المصري من حركة المقاومة الإسلامية حماس وتدعيم الخطوات الفلسطينية لنيل عضوية الأممالمتحدة وفتح معبر رفح أمام الفلسطينيين, وتعرض خط الغاز المصري إلي إسرائيل لهجمات مسلحة متكررة, وهي تصرفات تثير استياء اللوبي الإسرائيلي. السيناريو الثاني الغاء المساعدات العسكرية الأمريكية: إذ بدأ يتردد في واشنطن دعوات لوقف المساعدت العسكرية والاقتصادية الأمريكية لمصر ويستند أنصار هذا التيار علي عدد من الحجج هي: أولا: الأزمة التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي, عقب الأزمة المالية العالمية في منتصف عام2008, والتوجه الي ترشيد الإنفاق. ثانيا: إن وقف المعونات سيعفي الولاياتالمتحدةالأمريكية من انتقادات داخلية من قبل دافعي الضرائب بتقديم مساعدات لدولة ترفض المساعدات الأمريكية, وتكن العداء لها. فقد أظهر استطلاع لمركز جالوب لاستطلاعات الرأي أن71% من المصريين يعارضون المساعدات الاقتصادية الأمريكية لمصر,74%منهم يرفضون توجيه الولاياتالمتحدة مساعدات مباشرة الي منظمات المجتمع المدني المصري. ثالثا: أن النظام المصري لايشارك الولاياتالمتحدةالأمريكية في قيم الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان. رابعا: سيتيح إلغاء المساعدات العسكرية فرصة لتغييرات مطلوبة في العلاقات العسكرية الأمريكية المصرية, بحيث تدفع الولاياتالمتحدة فقط مقابل الخدمات التي تحصل عليها من مصر, والمتعلقة بالسماح بالمرور من قناة السويس. خامسا: تمكين الولاياتالمتحدة من تقديم العون والمساعدات لدول أخري تحتاج لمساعدة واشنطن مثل تونس والمغرب وبعض الدول الإفريقية, والتي ستكون شاكرة للمساعدات التي تقدمها لهاواشنطن علي عكس مصر التي لاتقدر. حسب عديد من المسئولين الأمريكيين المساعدات الأمريكية لها. السيناريو الثالث التركيز علي قضايا التحول الديمقراطي: حيث يرفض عديد من المحللين والكتاب الأمريكيين تقديم المعونات العسكرية, قائلين إن التغيير الذي ترغب الولاياتالمتحدة في أن تراه في مصر لن يتحقق بالمساعدات العسكرية, وإنما باتفاق المصريين حول خطوات المرحلة المقبلة من التحول الديمقراطي في مصر, وان الحل ليس في الضغط علي قبول النظام المصري منظمات غير حكومية, ولكن تشجيع الأطراف علي حلول واقعية لدول مدنية, لكون انتهاج النظام المصري مسارا غير ديمقراطي ستكون له عواقب أخطر بكثير, وتحتاج الي معالجات أكثر جدية من قضية المنظمات غير الحكومية وتقديم أنصارها الي المحاكمات, علي الرغم من أهميتها وتأثيرها في العلاقات الأمريكية المصرية. وفي التحليل الأخير, فإن السيناريو الأول الخاص بتعليق المساعدات العسكرية الأمريكية للقاهرة لفترة زمنية هو الأكثر احتمالا حال تأزم العلاقة بين البلدين, ولكن التعليق لن يكون لفترة زمنية طويلة, لإيقان الطرفين المصري والأمريكي بأهمية المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر, خاصة للأمن والمصلحة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط, وهي أهمية دفعت مايك مولين, رئيس هيئة الأركان المشتركة الأسبق لتحذير الكونجرس من خطأ تخفيض المساعدات العسكرية لمصر, مؤكدا أنها ذات قيمة عالية جدا للولايات المتحدة ولا تستطيع دولة أخري أن تقوم بما تقوم به مصر من خدمة للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.