أشفق على الذين يعلقون آمالاً على وصول الرئيس بوش إلى المنطقة غداً، لأن الدلائل تشير إلى أن الرجل لم يجئ لأجل خاطرهم، ولا هومشغول بهم، ناهيك عن أنه لم يخطر على باله يوماً ما أن يكون حكماً عدلاً يسعى لإنصافهم.
(1)
حين قتل الإسرائيليون البدوى المصري حميدان سويلم في رفح يوم الخميس الماضى أثناء وجوده في فناء منزله، فإن الرصاصات التى اطلقت عليه كانت محملة برسالتين. إحداهما تصب في مجرى التصعيد النسبى الحاصل في علاقات تل أبيب والقاهرة. أما الثانية فكانت تعبر عن عدم الاكتراث بزيارة الرئيس الأمريكى والإعلان الضمنى أنها لن تثنى إسرائيل عن عزمها على المضى في مخططاتها المرسومة. والرسالتان تعكسان حالة الاستقواء والتصعيد التى تمارسها الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً بعد مؤتمر أنابوليس، الذى أعتبره أهم تقرير استراتيجى صدر عن المخابرات العسكرية (امان)، أحد أبرز حدثين خدما إسرائيل في (عام 2007 الحدث الثانى هو أزمة الرئاسة في لبنان التى شغلت حزب الله وسوريا مما أبعد خطر اندلاع حرب إقليمية في المنطقة).
تجليات الاستقواء والتصعيد الاخرى متعددة على الجبهة المصرية، منها إثارة موضوع الانفاق الذى أدعت إسرائيل أن الأمن المصري يتستر عليها لتهريب السلاح إلى غزة، ومنها أيضاً التحريض الذى مورس ضد مصر في واشنطن وأريد به تخفيض المعونة الأمريكية التى تقدم لها بمبلغ مائة مليون دولار. وهوما فتح الباب للتلاسن بين القاهرة وتل أبيب، خصوصاً بعد التصريحات غير اللائقة التى صدرت عن وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبى ليفنى. وكان الاحتجاج الإسرائيلى الاخير على فتح معبر رفح لعبور الفلسطينيين وعودتهم إلى غزة من تجليات تلك الحالة.
(2)
ممارسات الاستقواء بحق الفلسطينيين بعد أنابوليس كانت أفدح وأشد جسامه. إذ في حين تصورت السلطة الفلسطينية أن المؤتمر فنح الباب للتسوية، فإن الحكومة الإسرائيلية نسفت هذا الأمل، واعتبرت أن المؤتمر حقق لها نقاطاً اضيفت إلى رصيدها، على النحوالذى عبر عنه تقرير " أمان" الاستراتيجى. الأمر الذى يشجعها على الثبات في موقفها وليس التراجع عنه.
من باب ترطيب الأجواء، فإن رئيس الوزراء إيهود أولمرت قبل بتجميد الاستيطان قبل يوم واحد من انعقاد المؤتمر، وبعد العودة الى تل ابيب أعطت الحكومة الإسرائيلية الإشارات الخضراء، التى أطلقت ثلاث خطط استيطانية لبناء أكثر من ألف وحدة سكنية جديدة في مستوطنتى "هار حوما" و"معاليه أدوميم" المقامتين على أراضى القدسالشرقية. ومن ثم فإنها استأنفت العمل في خطة (E1) التى تعتبر أكبر مخطط لتهديد القدسالمحتلة عبر ربطها بمستوطنة معاليه أدوميم، التى تعد أكبر مستوطنات الضفة. وهذا القرار لا يشكل فقط تقويضاً واستخفافا بمتطلبات التسوية التى يعددها ممثلو السلطة الفلسطينية صباح مساء، وإنما تمثل أيضاً تجاوزا فظاً لتعهدات إسرائيل لبوش بشكل شخصى، لأن رئيس الوزراء السابق آرييل شارون كان قد التزم أمام الرئيس الامريكى بتجميد هذه الخطة. ليس ذلك فحسب، وإنما قررت إسرائيل قبل الزيارة أن تستأنف الحفر بالقرب من باب المغاربة في القدس. وهوقرار يتناقض مع تقرير لجنة الفحص التركية التى زارت المدينة بدعوة من الحكومة الإسرائيلية، وأكدت أن تلك الحفريات تشكل تهديداً خطيراً لوجود المسجد الأقصى، حيث قد تؤدى إلى تهاوى أساساته.
وفي حين واصلت إسرائيل غاراتها الجوية على غزة. التى تقتل كل يوم أعداداً من الفلسطينيين، واستمرت في إجراءات خنق القطاع وتقويض مقومات استمرار الحياة فيه، فإنها ظلت محتفظة ب640 حاجزاً في الضفة الغربية يظل أمامها الفلسطينيون طوال الوقت، رغم أنها أعلنت أكثر من مرة نيتها إزالة عدد منها. وفى الوقت ذاته فإنها لم تتوقف عن ملاحقة الناشطين في الضفة، وإلقاء القبض على أعداد منهم بين الحين والآخر.
لم تبال الحكومة الإسرائيلية باحتجاجات ممثلى السلطة الفلسطينية، التى أصبحت في حرج شديد خصوصاً بعد استئناف الخطط الاستيطانية ولم تكترث بالتهديدات التى اطلقها ممثلو السلطة وتحدثوا فيها عن وقف التفاوض حول ملف التسوية. حتى ذكرت الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية في 25/12 أن وزيرة الخارجية تسيبى ليفنى قالت لأحمد قريع رئيس الوفد الفلسطينى في ختام جولة المفاوضات الثانية ما نصه: إن "إسرائيل لا ترى أنها ملتزمة بوقف الأنشطة الاستيطانية، وأنابوليس لم يفرض عليها أية قيود في هذا الجانب. ومن لا يعجبه هذا الموقف فهو ليس شريكاً لنا في المفاوضات".
من أسف أن السيد قريع ابتلع الإهانة ولم يستطع الفلسطينيون وقف المفاوضات، التى واصلها رئيس السلطة السيد محمود عباس مع أولمرت، وفشل اللقاء بدوره في ايقاف الهجمة الاستيطانية الجديدة.
إسرائيل الواثقة من ميل الميزان في المنطقة لصالحها تتصرف من موقع القوة، حتى في مواجهة الولاياتالمتحدة ذاتها. إذ هى مطمئنة إلى رسالة الضمانات التى وجهها الرئيس بوش لشارون، وأكد فيها دعمه لبناء المستوطنات بزعم أن "الوضع الديموجرافى (الإسرائيلى بطبيعة الحال) يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في اتفاق التسوية -ليس ذلك فحسب، ولكن وزير الدفاع إيهود باراك ذهب إلى أبعد حين هاجم الرئيس الأمريكى علناً حين أبدى تحفظاً بسيطاً على موقف الحكومة الإسرائيلية. وقال عنه في جلسة عقدها مركز أبحاث الأمن القومى الإسرائيلى وبثها التليفزيون الإسرائيلى في 2007/12/20" هذا رجل أخرق لا يعرف عما يتكلم. ونحن لن نتراجع عن موقفنا قيد أنملة ".
(3)
هذا الاستقواء الظاهر في الجانب الإسرائيلى يقابل بموقف مناقض تماماً من جانب ممثلى السلطة الفلسطينية في رام الله. إذ فضلا عن تراجع رئيس السلطة عن كل الشروط التى أعلنها قبل الذهاب إلى أنابوليس، فإنه وجماعته لم يستطيعوا أن يتخذوا موقفاً من التوسعات الاستيطانية الإسرائيلية، كما ذكرت توا، واكتفوا برفضها في التصريحات الصحفية، وبإبلاغ واشنطن والرباعية الدولية بما يجرى، لتتخذ من جانبها ما تراه "مناسباً". وبعدما أصبح الأمريكيون هم المرجع والحكم في الموضوع، طبقاً لما أعلن في أنابوليس، فقد بدا واضحاً أن رموز السلطة أشد ما يكونون حرصاً على استرضاء الإدارة الأمريكية، واقناعها بأنهم يقومون بما عليهم من التزامات قررتها المرحلة الأولى من خريطة الطريق، وعلى رأسها تجريد المقاومة من سلاحها. ولأجل ذلك فإن جهاز الأمن الفلسطينى عمل جاهداً على ترتيب نزع سلاح بعض المقاومين، والحصول منهم على تعهدات بعدم الانخراط في أية أنشطة ضد الاحتلال. واستخدمت لذلك العديد من وسائل الإغراء، التى تراوحت بين تأمين مكافآت مالية لهم وضمان عدم ملاحقة إسرائيل لهم مروراً بالحاقهم بالأجهزة الأمنية الفلسطينية.
وفي سياق إثبات حسن النوايا ومحاولة الفوز بشهادة لحسن السير والسلوك، فإن الأجهزة الأمنية الفلسطينية أعادت "التعاون" مع الأجهزة الإسرائيلية المقابلة في أمور كثيرة، في مقدمتها ملاحقة عناصر المقاومة، الأمر الذى شجع جيش الاحتلال على مواصلة حربه اليومية ضد حركات المقاومة في حدث الضفة الغربية. ومن أغرب النتائج التى ترتبت على هذا الوضع، أن الأجهزة الفلسطينية اصبحت تداهم بيوت النشطاء الذين يرفضون إلقاء سلاحهم، خصوصاً عناصر حماس والجهاد الإسلامى خلال النهار، بينما تتولى قوات الاحتلال نفس المهمة في الليل- لا يقل عن ذلك غرابة أنه في الوقت الذى تلاحق فيه أجهزة السلطة المقاومين وتنكل بهم بمختلف الوسائل، فإن الحكومة الإسرائيلية لا تغض الطرف فقط عن اعتداءات المستوطنين ضد الفلسطينى، بل أن جيش الاحتلال يوفر كل الظروف من أجل مساعدة أولئك المستوطنين على مواصلة اعتداءاتهم، كما يحدث بصورة يومية في الخليل والقدس.
أما الأشد غرابة من هذا وذاك، فهوما أذاعه التليفزيون الإسرائيلى في 2007/12/22 عن أن حكومة السلطة أصبحت تنظم للمنسق الأمريكى الجنرال كيت دايتون زيارة يومية لإحدى مدن الضفة الغربية، لكى يتأكد من أنها جادة في حربها ضد المقاومة، خصوصاً ضد حركة حماس. وفى تلك الزيارات فإن الجنرال دايتون أصبح يتفقد سجون السلطة ويطلع بنفسه على عمليات الاستجواب والتحقيق والتعذيب التى يتعرض لها المقاومون، إلى جانب إطلاعه المستمر على جمهور السلطة في إغلاق جميع المؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية التى يشك في أن لها علاقة بحركة حماس.
وليس من قبيل المصادفات أن يحرص الرئيس أبومازن خلال الأسابيع التى سبقت زيارة الرئيس بوش على استخدام اللغة التى يتبناها الرئيس الأمريكى في خطاباته، مثل الدعوة إلى ضرورة التوحد في مواجهة "قوى الظلام"، التى لا يقصد بها الإسرائيليين بطبيعة الحال، ولكن يقصد عناصر مقاومة الاحتلال. وفى مناسبات عدة اعتبر الرجل أن ركائز برنامجه الإصلاحى تتمثل في نبذ الفوضى والإرهاب، وهوالوصف الذى يطلقه الأمريكيون على المقاومة الى جانب سيادة القانون واقامة الحكم الرشيد (الذى لم يوضح كيف يمكن أن يقوم في ظل الاحتلال).
وحتى يرفع أسهمه لدى الإدارة الأمريكية فإن الرئيس الفلسطينى أعلن مزيداً من التشدد في التزامه بمواصلة القطيعة مع حركة حماس. فلم يعد يكتفي بمطالبتها بالتراجع عن سيطرتها على غزة، وإنما أصبح يطالب بأن تتبع ذلك انتخابات تشارك فيها فقط الفصائل والأحزاب التى تقبل باتفاقات أوسلو.
(لاحظ أنه لا يفرض أى شروط على التفاوض مع الإسرائيليين الذين قتلوا في العام الماضى 400 مواطن فلسطينى).
(4)
عبر الدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطيين عن رأى السلطة في رام الله حين قال إنهم يريدون من الرئيس بوش وقف الاستيطان وجعل عام2008 عام الاتفاق. وهذا صحيح لأن السلطة لم يعد لها خيار آخر. إلا أن ذلك يعد إفراطاً في حسن الظن، لأن بوش هوصاحب الضمانات التى أعطاها لإسرائيل واستجاب فيها لما طلبه من شارون. ثم أنه يتبنى فكرة الدولة الفلسطينية التى تخدم مصالح إسرائيل التى تحدد هى مواصفاتها. أكثر من ذلك فإن هذا الكلام يتجاهل حقيقة أن الرئيس الأمريكى ليس معنياً بقضية السلام في المنطقة إلا بالقدر الذى يسهم في إنقاذ سمعة حزبه الجمهورى في الانتخابات الرئاسية القادمة، بعدما وصلت إلى الحضيض في عهده، وذلك عن طريق الإيحاء بتحقيق إنجاز في السياسة الخارجية، بعدما منيت سياسته الداخلية بالفشل الذريع.
ليس معنى ذلك أنه لن يتطرق في رحلته إلى أمور أخرى، مثل مستقبل الدولة الفلسطينية التى يتبناها والمشروع النووى الإيرانى أوالوضع في لبنان، لأنه من الطبيعى ما دام موجوداً في المنطقة أن يتعرض لهذه العناوين، لكنه وهو يجاملنا باسماعنا ما نريد، سيظل مشغولاً بمصير حزبه بأكثر من انشغاله بمصيرنا، وهولايلام في ذلك، لأن الذى يستحق اللوم حقا هم الذين يراهنون على الطرف الغلط في أمور المصير، التى ينبغى أن تكون المراهنة فيها على أصحاب القضية بالدرجة الأولى.
اما «أم الفواجع» فهي ان أصحاب القضية لم يصبحوا متفرجين عليها فحسب، وانما صاروا مشغولين عنها بالاقتتال فيما بينهم. عن الشرق القطرية