مهداة إلى الشعب التونسى.. المنتصر صاحب ثورة الخبز والحرية. - يا سيف الإسلام.. يا سيف الإسلام. أسرعت إلى أبى ملبيا نداءه: - نعم.. نعم يا بابا. - اجلس هنا بجوارى. وجدتنى أحدق فى وجه أبى المشرق الضاحك الذى يقطر شبابا ويفيض حيوية، وأنا أتساءل فى ذهول: هل حقا هذا أبى؟! هل حقا ما أراه؟! وما الذى جعله يجلس هكذا منتشيا سعيدا.. بعد ذبوله لسنوات طوال؛ بسبب إجهاض حلمه كشاعر؟! مبتسما التفت إلىّ، بعد أن أجهد عينيه فى تفرس الوجوه السعيدة.. الضاحكة فى تلفاز بيتنا، انساب صوته ناعما كنسيم الصبح: - انظر.. انظر يا سيف الإسلام.. انظر كيف بدأت ثورة الخبز والحرية، كانت البداية الشرارة.. عندما أشعلها أحد الشباب فى نفسه؛ تعبيرا عن ظلم الحاكم، ثم تبعتها الثورة، ثم هروب الظالم خارج البلاد، انظر.. انظر جيدا يا سيف الإسلام. رحت أحدق فى وجه التلفاز كما طلب أبى.. لقطات سريعة ومختلفة راح يبثها تلفازنا الصغير الذى راح يتراقص فرحا هو الآخَر، جمع غفير من الرجال والنساء والأطفال، يصطفون وراء قائدهم الذى يمسك ب(ميكروفون) صغير الحجم، وراح يصرخ فيه بشدة: - (نموت.. نموت ويحيا الوطن). ومن خلفه راحت تردد فى قوة وسعادة الجموع الغفيرة الواقفة من خلفه: - (نموت.. نموت ويحيا الوطن). وفى الجانب الآخر من البث السريع، رأيت البلدة تخرج عن بكرة أبيها؛ كل منهم يحمل صورة، تلك الصورة التى ولدت فوجدتها تجلس فى شموخ وكبرياء فوق حائط بيتنا، إنها صورة الشاعر التونسى الراحل (أبى القاسم الشابى).. وهم يرددون فى صلابة وشموخ: - (إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدرْ ولا بد لليل أن ينجلى *** ولا بد للقيد أن ينكسرْ). ومن جانب آخر، راحت تصرخ فرحا مجموعة من الشعب الذى تحرر: - (تونس حرة.. بن على برة). التفت إلىّ أبى.. الدموع فى عينيه مخنوقة تود الفرار، فتح فمه وهم يقول: -............................. ماتت على شفتيه الكلمات فجأة.. - (إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدرْ ولا بد لليل أن ينجلى *** ولا بد للقيد أن ينكسرْ). ظل تلفازنا يصرخ بهذه الكلمات.. - آه ه ه ه ه ه ه ه ه قالها أبى وهو يمسح دموعه التى خانته وسقطت فجأة.. أردف يقول: - هل رأيت يا سيف الإسلام كيف انتصر الشعر؟! هل رأيت رغم موت الشاعر التونسى (أبى القاسم الشابى) منذ سنوات طويلة؟! وبرغم هذا الموت الأزلى الطويل فإن شعره لم يزل حيا، وهو الذى أيقظ فى جموع الشعب التونسى هذه الثورة التى أطلقوا عليها (ثورة الخبز والحرية) وها هم يخرجون أفرادا وجماعات ليعبروا عن انتصارهم على الظلم الذى ظل جاثما فوق أحلامهم قرابة ثلاثة وعشرين عاما.. صمت برهة وعاد يقول والابتسامة تجلس فى شموخ على صفحات وجهه: - وبرغم شنق الكلمات الصادقة.. الصافية.. الخالصة، وموت الضحكة قبل خروجها ذَائبة فى الأفواه كقطع السكر، وتتلاشى أمام الخوف لتمسكّنا بالحياة، وبرغم.. وبرغم.. هذا وأكثر من هذا، فلا بد للقيد أن ينكسر ولا بد للظلم أن ينجلى. حدقت فيه بشدة، ورحت أبحث عن كلمات كى أنتشله من بحر أحزانه التى اعتاد عليها منذ أن هجر كتابة أشعاره، قمت مسرعا حيث مكانها، فتحت عليها محبسها، رأيت الأحرف والكلمات تتراقص فرحا، وراحت بعض القصائد تتحدث إلى أختها فى سعادة غامرة: - إفراج.. إفراج.. رحت أخرجها دفعة واحدة -رغم كثرتها- من درج محبسها الطويل. قصائد كثيرة.. كثيرة جدا كتبت جميعها فى حب هذا الوطن الذبيح كما عنونها أبى (قصائدى فى حب الوطن الذبيح)، وقصائد لم تكتمل بعد، وأوراق كثيرة بيضاء، وأقلام رصاص قد تآكلت حتى المنتصف، أخرجت كل هذا، حملته بين يدى، وضعته أمام أبى الذى راح يحدق فيها طويلا، تبسما له.. تبسم لها وعيناه تذرفان الدموع، وسرعان ما تحركت أصابعه فى بطء شديد.. شديد جدا، وراحت تتلمسها.. تهدهدها فى حب وشوق، حملها بين يديه كأب ينتظر وليده الأول منذ سنوات طوال، وكعاشق ولهان ضمها إلى صدره ودموع أحلامه راحت تغسلها من الأتربة العالقة بها. أرى فى قصائد أبى أحلامه.. كل أحلامه التى كادت تموت.. ولا يملك لها الحياة، أمسكت بكفه.. فتحته.. وضعت بداخله قلما، ورحت أقول بفرح طفولى: - اكتب.. اكتب ما يحلو لك.. فباب سماء الحرية انفتح على مصراعيه. رفع رأسه.. مبتسما.. فرحا راح يحدق فى وجه ثوار الخبز والحرية، وهم لا يزالون يرفعون صور (أبى القاسم الشابى).. ثم اتجه ببصره هناك خارج (شباك) حجرة صالتنا المفتوح على مصراعيه، حيث الظلام القاتم ضاربا بجناحيه فوق بيوت حارتنا الفقيرة، وظل يحدق فى علم بلدنا الذى بهت لونه تماما، ذلك العلم الساكن فى مكانه فوق مدرسة (أحمد عرابى) -القريبة من مسكننا- وجدت القلم وهو يخطو أولى خطواته فوق الورق فاتحا قوسين، كاتبا (إلى أبى القاسم المبتسم فى قبره..)!.