هل كان شاعر مصر الكبير صلاح عبد الصبور فى مسرحيته العظيمة "ليلى والمجنون" مُنذرا أو محذرا أو متنبئا بكل ما حدث أم كان كل ذلكم معا حين أطلق أبياته تلك صارخة محذرة المدينة التى هى هى مصر بالطبع مثلما أن المخاطبين هم أهله وأهلها الذين أحبهم إلى حدّ العذاب وأقلقته أمورهم وهمومهم إلى حد اللوعة قبل يموت أو بالأحرى: قبل أن يقتله "المثقفون أصدقاؤه" بخناجر الاتهام الظالم وطعنات الظنون الباطلة ذات ليلة صيفية حارقة مكتومة من ليالى أغسطس 1982 وقد كنت شاهدا –ليس على وقائع الحدث الآثم– بل عليه هو نفسه وعلى مقابلة قبلها بيوم واحد أفضى لى بأنها كانت شديدة الوطء على قلبه الرقيق وشرايينه المجهدة، لكنها ليست موضوع حديثنا الآن لأن حديثنا هو عن النبوءة ذاتها. النبوءة التى بدأها صارخا مستنفرا يحذرنا من موت بالقهر إن لم ننفجر؛ دون أن يتنبأ بأننا لو انفجرنا فسوف تنفجر القنبلة فى أيدينا وسوف يرتد سلاحنا إلى صدورنا بالخيانة مرة وبالمؤامرة معا ومرة أخرى. ليس كما انفجرت فى الماضى فى صدور أجدادنا بسبب أسلحة فاسدة وضعها نظام فاسد وغرب كاره متآمر فى أيديهم. ولكن لأنه بعد ذلك بأكثر من ستين عاما -وضعت بأيدينا قنابل أشد فتكا لا لكى نحارب مثلهم حربا مقدسة فى فلسطين- بل لأن نظاما أشد فسادا جثم على صدورنا ورقد على كواهلنا ثلاثين عاما فعلّمنا الكثير عن تدمير الذات وتدمير الوطن، بالإضافة إلى ما سبقه ومهّد له سواء عن حسن نية واستئثار بالسلطة وخيبة فى السعى أو عن قصد ورغبة ومؤامرة للمسخ والإفساد والتشويه! لكن خوف صلاح عبد الصبور مهما بلغ من تشاؤم وحدّة بصيرته مهما غاصت فى عمق الرؤية لم يكونا قادرين بالطبع على التنبؤ بما يحدث لأهله الآن بمصر التى تأكل نفسها أو تفترسها عصابات من يقال عنهم إنهم أبناؤها وخرجوا من أرحام أمهاتها. فالذى يحدث الآن هو "الهول" الذى صرخ من ثقل وطأته أخ شاعر له هو عبد الرحمن الشرقاوى فى "ثأر الله" قائلا: "كل ذاك الهول يا ربى.. ولم تسقط على الأرض السماء " -وهو يصف موقف استشهاد الحسين رضى الله عنه سيد شباب أهل الجنة– وكأنه يصف ما يحدث الآن فى سوريا وما يراد له أن يتكرر فى مصر وقد بدأت سحاباته الداكنة والدامية فى نفس الوقت فى الظهور معلنة أن "الكل آثم وقبض الريح"! الكل آثم وأولهم تجار السياسة ومشتهو الرئاسة والمذعورون من تغيير سوف يحاسبهم وأيام قادمة لو صفا جوّها وصحّت سوف تفتح أدراجهم العفنة وتفضح ملفاتهم الفاسدة وتكشف خزائن أموالهم المغموسة بدم ولحم الجوعى الذين استغلوهم والمرضى الذين أصابوهم والمستورين الذين أفقروهم. ومن هؤلاء -ممن سميناهم آثمين- من كانت مهمته محدودة وإلى خط معين وحتى هدف مدروس هو أن يقلّموا أطراف النظام المريض حتى يقوى جسده ويسترد عافيته بوجوه جديدة وأطراف أكثر صحة –هكذا قال المفكر الأمريكى الكبير ناعوم تشومسكى– الذى لا يشك فى نزاهة تحليلاته ولا يطعن فى عمق رؤيته ولا موضوعية أحكامه. وهكذا وأثبتت الأحداث اللاحقة والمتلاحقة أيضا. وحتى لا يختلط الأمر على أبرياء كثريين. فقد كان الهدف المحدد المسموح به والمرضى عليه من أمريكا وإسرائيل والغرب هو الإطاحة بمبارك الأب وعائلته التى زاد مؤشر فسادها عن الحد المطلوب. فلما استقوى السيل وتدفق التيار وأصبح الحدث الفريد البكر ثورة حقيقية؛ أصابهم الذعر فانتبهوا وخططوا وتحرشوا وتربصوا، وكأن لسان حالهم يقول –أو بالأصح قالوا ذلك فى ما بينهم-: (لقد تخلصتم من رئيسكم المخلوع ومن وريثه وابنه الآخر وزوجته وزدنا لكم على ذلك كثيرين من بلاطه وأعوانه وسدنته وتلك هى الثورة وفى ذلك ما يكفيكم). وفيه أيضا تفسير لمواقف من ظنناهم مبشرين بالثورة بينما كانوا فى الحقيقة دعاة للتمرد فقط. التمرد الذى يطيح بالأسرة وعملائها وينتج التغيير المحدود المطلوب. وفى ذلك أيضا تفسير لهيجانهم وانقلابهم على الشرعية واعتراض مسارات التغيير الذى لا بد وأن يستغرق وقتا، وأن يتطلب كثيرا من الهدوء بدون توقف النقد الصحى والمعارضة السلمية المستنيرة. كما أن فيه تفسيرا للتهييج والتحريض وإشعال حرائق الغضب وتجييش ضحايا العشوائيات وتشجيع التطاول وترويج البذاءة والتعدى على الممتلكات والأعراض والحرمات. مثلما فيه الكثير من علامات الدهشة وأدوات الاستفهام من نوع: لماذا وكيف وإلى متى ومن المسئول عن العجز فى إخلاء ميدان التحرير سيمون بوليفار والتقصير فى الدفاع عن مديريات الأمن؟... ثم عن المجزرة الكبرى لشهداء الكرة فى بور سعيد؟.. وما لحق ذلك من ردود أفعال بطيئة واستجابات غير مدروسة واستهانات مكشوفة بغضب الناس وخسائرهم فى الأرواح والأموال حتى وقعت الواقعة الأحدث والأخطر لأنها تنذر بما هو أكثر إجراما وأشد بطشا واستهتارا وفداحة- وهى إحراق مقر اتحاد الكرة ونادى الضباط الجزيرة علنا وتحت سمع وبصر الجميع بمن فيهم بعض أفراد الشرطة وعناصرها التى تعتصم وتتظاهر وتحتج لمطالب فئوية ربما كانت حقا لهم ولكن ليس هذا وقتها. وأيضا فيهم من يتظاهرون فى استنجاد مشروع -هو حق له - بالسلطات كى تضع فى أيديهم سلاحا يدافعون به عن أرواحهم فى مواجهة عصابات مسلحة وخارجين على القانون أدركنا الآن كم همم منظمون وممولون ويعرفون ساعة الصفر المناسبة للتجمع واللحظة المناسبة للانقضاض على مؤسسات حيوية كان لا بد للقيادات الكبيرة المدربة ذات الخبرة أن تتوقع مهاجمتها والانقضاض عليها كما توقعت أغلبية البسطاء!. (ألم يتحول الكثيرون بعد الثورة إلى خبراء أمن مثلما تشدق الكثيرون أيضا بكونهم خبراء إستراتيجيون على شاشات التلفزيون المدفوعة والمجانية دون أن يقدموا تحذيرا واحدا أو تنبؤا كاشفا مثلما فعل صلاح عبد الصبور؟!). (يتبع)