بقلم: د. فايز رشيد كان يوما حزينا ذلك التاسع من ابريل 2003 يوم دخلت دبابات الاحتلال الاميركي الى بغداد .. بغداد التاريخ والحضارة وعاصمة الخلافة الاسلامية إبان العهد العباسي . بكيت يومها - كنت استذكر التاريخ في زمن مضى أيام الطفولة حين كان استاذ التاريخ يحدثنا في المدرسة عن الفظائع التي ارتكبها هولاكو عندما احتل عاصمة بلاد الرافدين وكيف رمى المغول كل المخطوطات والكتب التي احتوتها خزائن المدينة في نهر دجلة حتى اصطبغت مياهه بلون الحبر ! هذا إضافة الى قتل حوالي المليونين من سكانها بمن فيهم الاطفال والنساء والشيوخ رغم حمل معظمهم المصاحف فوق رؤوسهم ! إضافة إلى احراق وهدم الكثير من بيوتها ومؤسساتها . اتذكر أيامها ما كان يجتاحني من ألم على عذابات أهلها وألم آخر مضاعف على ما تم رميه من كتب ومخطوطات في نهر دجلة وكان السؤال الذي يطرق ويدق بشدة على رأسي : وماذا لو لم يرموا الكتب ؟ كنت أسرح في خيالي باستعراض المؤلفات التي كانت ستغني مكتبتنا العربية بالتأكيد بصنوف شتى من المعرفة فطيلة حياتي ومنذ الصغر أقدس الكتاب واتعامل معه بمنتهى الاحترام . ولأن الحزن يستولد الحزن فإن منظر سقوط بغداد أعادني إلى عام 1967 وسقوط مدينتي الحدودية قلقيلية في أيدي القوات الاسرائيلية التي حرصت على طرد اهلها وترحيلهم والبدء في هدم منازلها لولا قرار سريع من الاممالمتحدة آنذاك أوقف عملية الهدم وأعاد سكانها الى مدينتهم بعد اسبوعين .. أذكر يومها عندما حضرنا إلى منزلنا ورأيته مهدوما ألمي الكبير وبخاصة على مسألتين : مجموعة الصور التي كنت احتفظ بها وكذلك الكتب التي كان يشتريها اخواني من عواصم كثيرة والتي احترقت ولم يبق منها سوى بقايا صفحات محروقة ! كان المظهر السائد بعد دخول القوات الأميركية الى العاصمة العراقية هو السلب والنهب الذي اجتاح المدينة وعلى الأخص متحف بغداد الذي كان يحتوي على كنوز أثرية لا تقدر بثمن ! كان ذلك يجري على مرأى ومسمع القوات الأميركية التي كانت بعض قطعاتها ترابط بالقرب من مدخله بالتالي فإن السؤال الطبيعي الذي يدور في الاذهان : هل أن الولاياتالمتحدة تحاول محيو التاريخ العراقي وتحديدا تاريخ مدينة الرشيد مثلما حاول هولاكو والمغول محوه بإلقاء الكتب في النهر ؟ ندرك أن الاحتلال هو الاحتلال فلا فرق بين هولاكو وبوش والتاريخ يعيد نفسه ولكن على شكل اكثر مهزلة هذه المرة وفقا للمقولة الفلسفية فادعاءات بوش من أجل شن العدوان على العراق ثبت بطلانها فلا اسلحة للدمار الشامل وجدت في العراق ولم يصبح ديموقراطيا ! وبعد أربع سنوات على احتلاله فإن المظهر السائد فيه هو القتل اليومي لمئات العراقيين حيث بدأت اعدادهم تقترب من الرقم الذي (أنجزه) هولاكو في العراق وخمس السكان العراقيين (وفقا لاحصائيات كثيرة) هجروا بلدهم تماما مثلما هاجر من بقي في بغداد حيا عندما احتلها المغول كل ذلك إضافة الى انعدام الامن والخطف والسلب والنهب وانعدام مقومات الحياة الاساسية كالمياه والكهرباء والنفط والغاز في بلد النفط والغاز ! بغداد هي اكبر مدن العراق وهي من كبريات مدن الشرق الأوسط وثاني اكبر مدينة عربية معاصرة بعد القاهرة . بغداد العمق الاستراتيجي للبلدان العربية اصبحت مرتعا للمخابرات والنفوذ الاسرائيلي السري الذي يتزايد تأثيره يوما بعد يوم . كان سقوط مدينة المنصور أمام هولاكو في التاسع من صفر عام 656ه 1258م وكان سقوطها أمام القوات الاميركية في التاسع من ابريل عام 2003 لكن المدينة التي كنست الاحتلالات : الفارسية ، العثمانية ، الانجليزية ومن قبلها المغولية ستكون قادرة على كنس الاحتلال الاميركي الذي يتعمق غوصه في المستنقع العراقي يوما بعد يوم وستظل درة المدن العربية . كاتب فلسطيني