يتملك المرء، وهو يستمع إلى تصريحات رايس وبوش وتشيني حول الشرق الأوسط، و«مبادراتهم لإحلال السلام»، رغبة في الضحك والبكاء في الوقت نفسه: الضحك من حقيقة أن من يمسكون بزمام الأمور، في أقوى دولة في العالم، لا يمتلكون أي معرفة في الأمور التي يقررّونها في هذه المنطقة، ورغبة في البكاء لأن نتائج قراراتهم وأعمالهم كارثيّة على حياة أهلنا، من ملايين المدنيين العزّل، في العراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان، كما هي طبعاً في أفغانستان أيضاً. وإذا كان للتشبيه مجال في فهم الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، فإن منظر عمير بيريتس، وزير الحرب الإسرائيلية، وهو يراقب المناورات في الجولان السوري المحتل بمنظار مغلق، ويومىء برأسه وهو لا يرى شيئاً سوى الظلام، هو منظر معبّر فعلاً، ليس فقط عن حالة حكام إسرائيل، بل عن الانسياق الأمريكي وراء منظور العدم الإسرائيلي، الذي يتخبط في الظلام ويسحب وراءه القوة العسكرية الأعتى في العالم، لتخوض حروباً غير مفهومة، وغير مبررّة في اعتبار العالم ومعظم الأمريكيين، وكارثية ومجرمة من منظور معظم العرب الذين تقع عليهم هذه الحروب.
كانت زيارة رايس الأخيرة للمنطقة فاشلة بمقياس أي دبلوماسي يرجو أن يكون لما يقول أو يفعل أي صدقية على الإطلاق، كما كان لزيارتها الأثر الكاشف عن النوايا الأمريكية الحقيقية، ليس حيال فلسطين فقط، وإنما حيال لبنان وحيال مستقبل العمل العربي برمته. فالقادمة من أجل «السلام»، وجدت في اتفاقية مكة، والتي تحقن الدم الفلسطيني ضربة لجهودها، لأن ما تريده بين الفلسطينيين وإسرائيل ليس سلاماً، بل استسلاماً لشروط أولمرت، وحين أصرّت الأطراف الفلسطينية على الاتفاق، اعتبر أولمرت ذلك «خيانة له». واستبدلت رايس جهودها الدبلوماسية، بجهود مخابراتية، فاجتمعت برؤساء الأجهزة الأمنية لأربع دول عربية، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات السياسية والدبلوماسية في العالم، وذكرت جيروزاليم بوست أن رايس طلبت منهم «إقناع حماس بالموافقة على شروط اللجنة الرباعية»! وكانت رايس قد أوجزت للصحفيين المرافقين لها بالقول: «أنا لا أريد من الآخرين الوقوف إلى جانب الطريق للقول ان أمريكا هي الملزمة باستكمال خارطة الطريق، إن على هذه الدول التزامات أيضاً وإن الأمر الذي سأتحدث للعرب عنه هو أن عليكم القيام بدور لكي تستكمل خارطة الطريق». والسؤال هو: أي خارطة وأي طريق؟ وأي عرب؟ وأي دور تريدهم أن يقوموا به نيابة عنها؟ هل تقصد رايس خارطة الدولتين اللتين تتحدث عنهما، كما أقرتهما الأممالمتحدة في القرار 181، أم الطريق إلى جدار الفصل العنصري، الذي تموله إدارتها، والذي يقضم كلّ يوم أرضاً فلسطينية جديدة من الضفة الغربية؟ أم تقصد الطريق لإيصال الشعب الفلسطيني إلى الحال التي وصلها اليوم: ثمانون بالمائة من الشعب الفلسطيني، الذين يعيشون اليوم تحت خط الفقر، وفق تقرير مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، والذي صدر في 29 ديسمبر 2007.
هل قرأت السيدة رايس في التقرير، أن الحصار الذي تفرضه إسرائيل على الشعب الفلسطيني، والذي تعمل رايس على استمراره، هو عقوبة جماعية لشعب كامل، وهو خرق فاضح لاتفاقية جنيف الرابعة ل 12 أغسطس 1949، وأن الاستخدام العشوائي للقوة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين المدنيين، أي القتل اليومي للأطفال وتهديم البيوت، وتحويل فلسطين إلى سجن كبير، إنما هي جرائم حرب؟ هل تعلم السيدة رايس، حين تدعو إلى «استمرار مقاطعة الشعب الفلسطيني»، واستمرار «الحصار المفروض عليه»، أنها تساهم في استمرار معاناة المدنيين العزّل من الشعب الفلسطيني! وهل قرأت السيدة رايس في التقرير، أن حكام إسرائيل اغتالوا، منذ عام 2000، أكثر من خمسمئة فلسطيني، عن عمد وسابق إصرار، ضمن سياسة حكومية رسمية! ومع ذلك، فإن رايس تريد «دوراً عربياً ضاغطاً على الفلسطينيين»، ولا تطالب إسرائيل بإيقاف جرائم القتل والاغتيال والاعتقال والحصار، كما لا تطالب إسرائيل بالاعتراف بحق الفلسطينيين كشعب في الحرية والاستقلال وبناء دولتهم الوطنية، ولا بحقهم في الأمن، بل هي تمارس ضغوطاً كي تستمر الدول الأوروبية وغيرها بفرض الحصار على شعب كامل، مما يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
وإذا كانت السيدة رايس تريد من حماس الاعتراف بإسرائيل، فأين اعتراف إسرائيل بحماس؟ بل أين اعتراف السيدة رايس بحق الفلسطينيين، بالعيش أحراراً كرماء على أرضهم وأرض أجدادهم؟ ولماذا لا تعترض السيدة رايس على توسيع الاستيطان، الذي يعني حرمان الفلسطينيين من أرضهم، وحرمان اللاجئين من العودة إلى وطنهم؟ ليت رايس تقرأ الصحف الإسرائيلية، وتطلع على موقع بيتسليم الالكتروني، وتقرأ يوري أفينري في يديعوت أحرونوت، لتطلع على بعض الجرائم البشعة، التي ترتكبها حكومة إسرائيل بحق شعب آمن، وترتكب إسرائيل، منذ بدء تأسيس عصاباتها الإرهابية، جرائمها ضدّه، لأنه ولد على أرض فلسطين. إن فشل مهمة رايس في إذكاء الحرب الأهلية بين الفلسطينيين، كالتي أشعلتها حكومتها في العراق والسودان، دفعها لتركيز جهودها على دفع الفرقاء اللبنانيين إلى حافة الهاوية.
بعد كلّ ما جرى ويجري في العراق، لايمكن وصف السياسة الأمريكية حيال الفلسطينيين بأفضل من وصف بوب ودوارد لعقلية الإدارة الأمريكية الحالية، بأنها «منغمسة في حالة إنكار»، حالة إنكار للواقع، وإنكار لحقوق العرب في أرضهم، وإنكار لكرامة العرب، وإنكار لذكاء العرب ومعرفتهم بمصالحهم، وإنكار لأي مقاربة عادلة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية على أسس الشرعية الدولية.
إن من تراهن عليهم رايس اليوم في المنطقة، هم توأم الذين وعدوا الإدارة وعوداً براقة في العراق، وها هي رايس اليوم، تشهد رحيل البريطانيين والدانماركيين من العراق، في تحرّك هو الاعتراف العمليّ بالهزيمة، فهل ستنتظر رايس كي تصل أعمال الإدارة إلى ذلك الحدّ، الذي يشعل المنطقة غضباً على كلّ ما يقومون به من الصومال والسودان إلى العراق وفلسطين ولبنان، أم أنها تقرأ النيوزويك 26 فبراير 2007، ومقالها المضلّل «كيف يمنع الاقتتال في غزة التوصل إلى سلام». إن الذي يمنع السلام في فلسطين هو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والذي يمنع السلام في العراق هو الاحتلال الأمريكي للعراق، ولابدّ لرايس من أن تخلع عن عينيها أغلفة ناظورها المعتمة، كي ترى فعلاً ما يحدث هنا في الشرق الأوسط، بدلاً من أن تنظر في الظلام، وتومىء كحليفها بيريتس برأسها، وكأنها ترى شيئاً!
لقد تركت رايس أمر الفلسطينيين بين أيدي أولمرت، الملطخة بالاغتيالات والقتل والحرب، ومارست ضغوطاً على الرباعية، كي يستمر الحصار الإجرامي ضدّ الشعب الفلسطيني، الذي يعتبر من جرائم الإبادة الجماعية، تحاسب عليها اتفاقات جنيف الرابعة. وإذا كان جيلنا لم يشهد بداية إبادة الابورجينز والهنود الحمر، فإن القصص من الباقين منهم تروي لنا الأساليب ذاتها، التي استخدمها العنصريون البيض والمتعصبون دينياً ضدّهم، من أجل إبادتهم وتدمير حياتهم، والاستيلاء على أرضهم وخيراتهم. وها هي رايس تعترف أن الدولة الفلسطينية لن ترى النور في عهد الرئيس بوش، والجميع يعترف أن إسرائيل والولاياتالمتحدة، بذلت كلّ جهد ممكن، منذ قرن، كي لا ترى هذه الدولة النور على الإطلاق. إن صمت السيدة رايس وإدارتها عن الاستيطان الإسرائيلي، وعن الجدار العنصري الذي يلتهم الأرض الفلسطينية، وعن سياسة الاغتيالات، وحرق محاصيل الفلسطينيين من قبل المستوطنين، وتسميم آبار القرى الفلسطينية، والعبث بحياتهم وكرامتهم ومقدراتهم، إنما هي إرادة أمريكية واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية حرّة، ومشاركة فعلية في محرقة القرن والواحد والعشرين، التي ترتكبها إسرائيل وحليفتها الولاياتالمتحدة ضدّ العرب. إن رايس توضّح في سياستها مبدأ يقوم على أن تحقيق أمن إسرائيل يعني القضاء على أمن كلّ فلسطيني، وتدمير أمن واستقرار كلّ العرب. والدليل هو إرث الإدارة الأمريكية وإسرائيل في العراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان، التي شهدت ارتكاب أبشع الجرائم ضدّ شعوب هذه البلدان.
إن من يختار ألا يرى سوى الظلام، سيحصد نتاج رؤيته، أما أجيال العرب الحالية، وفي المستقبل، فستسلك طريقاً سلكها أجدادهم تحت شمس بلادهم الساطعة، ألا وهي طريق الحريّة والعزّة والكرامة، مهما استخدمت إسرائيل والولاياتالمتحدة ضدّهم من جبروت القوة الغاشمة، ومهانة الظلم. إن قدراً عربياً آخر آخذٌ بالتشكّل، قدراً مصمماً على وضع الكرامة العربية في مصاف الكرامة الإنسانية المرموقة، قدراً يسمو أبناؤه فوق كلّ كلام طائفي، يزرعه الأعداء فتنة وخراباً في ديارنا، قدراً يؤسس لدول عربية ديمقراطية، حرّة، كريمة، ترفض الظلم والهوان والاحتلال، وترفض أن يبقى نفط العرب يبني حضارة الغرب على حساب دمائنا. حينذاك، لن تتمكن رايس وبوش أو تشيني من النظر في مرآة التاريخ، دون ان يروا شيئاً محرجاً يليق بأفعالهم ضدّ العرب.