استمر محافظ البنك المركزي طارق عامر في تصريحاته الاستعراضية، عندما قال مؤخرا أنه خلال اليومين التاليين لرفع سعر الفائدة بنسبة 2%، جاءت لمصر استثمارات أجنبية بنحو مليار دولار، بينما ما حدث هو مشتريات للأجانب لأذون الخزانة الحكومية التي تخطت فائدتها نسبة العشرين بالمائة بعد رفع سعر الفائدة الأخير. وعندما يجد الأجانب سعر الفائدة في دول اليورو التسعة عشر قصيرة الأجل سلبية، أى أنهم يحصلون على قيمة أقل مما أودعوها، في حين تبلغ الفائدة على أذون الخزانة المصرية قصيرة الأجل والبالغ مدتها 91 يوما 20.5%، ومضمونة من وزارة المالية، وتضمن لهم بنوكا حكومية الخروج عند البيع بنفس سعر الصرف الذي دخلوا به عند الشراء. فمن الطبيعى أن يستفيد هؤلاء من سعر الفائدة البالغ في الارتفاع، والذى لا يفوقه دوليا حاليا بالعالم سوى فنزويلا التي تشهد اضطرابات داخلية، فكلما زادت المخاطر في بلد زاد سعر فائدتها لتعوض المستثمر عن مخاطر التعامل معها. ويظل السؤال.. ما هى استفادة مصر من استثمار الأجانب في أذون الخزانة؟ والجواب أنها تساعد على سد العجز بالموازنة، لكن مهمة أى خبير مالى ولو كان في شركة صغيرة، أن يبحث عن التمويل لها بأقل تكلفة بالأسواق، بينما تتباهى وزارة المالية ومحافظ البنك المركزي بسد عجز الموازنة بتكلفة 20.5% في حين توجد وسائل للتمويل أقل كثيرا من تلك التكلفة الباهظة. وهي التكلفة التي حددتها وزارة المالية بنحو 381 مليار جنيه لفائدة الدين الحكومى خلال العام المالى القادم، وهي تكلفة تحددت قبل رفع الفائدة بنسبة 2%، بما يشير إلى كبر قيمة فوائد الديون بعد رفع سعر الفائدة، ولا مجال للقول أن وزارة المالية كانت تعرف برفع الفائدة قبل حدوثه وتحسبت لذلك عندما حددت تكلفة فائدة الدين، لأن تصريحات وزيرتى التخطيط والاستثمار بينتا أنهما لم تكونا على علم مسبق برفع الفائدة بتلك النسبة العالية. أرباح نازحة للخارج وبخلاف تكلفة فائدة الدين هناك تكلفة لأقساط هذا الدين خلال العام المالى القادم والبالغة 265 مليار جنيه، أى أن تكلفة الدين من فوائد وأقساط خلال العام المالى الجديد ستكون أكثر من 646 مليار جنيه وهو ما يعادل نسبة 43% من إجمالى الإنفاق بالموازنة الجديدة البالغ 1488 مليار جنيه، وهو أكبر مكون بالموازنة ويفوق كثيرا مخصصات كلا من الدعم البالغة 333 مليار والأجور 240 مليار والاستثمار الحكومى 135 مليار جنيه.
والمهم أن جانبا كبيرا من تكلفة الدين يذهب إلى خارج البلاد، بينما لو كان قد تمويل عجز الموازنة من الداخل، لاستفاد الداخل من تلك التكلفة عندما تذهب في صورة ربح للمؤسسات المالية وصناديق الاستثمار والشركات المحلية. وعندما يتباهى المحافظ ووزارة المالية ببلوغ مشتريات الأجانب من أذون الخزانة منذ ما يسمى بتعويم الجنيه، في الثالث من نوفمبر الماضى وحتى نهاية مايو الماضى نحو 136 مليار جنيه أى حوالى 7.5مليار دولار. يظل السؤال أى نوع من الاستثمار هذا؟ حيث تتجه تلك المبالغ لزيادة الاحتياطى بالبنك المركزي ليتباهى المحافظ باستمرار ارتفاعه ولا يتم ضخها للسوق، رغم أن تلك المبالغ تضاف في نفس الوقت للدين الخارجى الذي يفوق الاحتياطى بأكثر من الضعف. هو استثمار لا يترجم إلى إنشاء مصانع أو مزارع أو خدمات، وبالتالى لا يزيد من كم المعروض من السلع والخدمات، أى أنه لا يساهم في توليد فرص عمل تمتص جانبا من البطالة الحالية، وهو نفس الأمر لاستثمار الأجانب بالبورصة بعد تعويم الجنيه، والتى تدور حول النصف مليار دولار، والتى لا تضيف أيضا سلعا أو فرصا للعمل ولا تضيف شئيا للناتج المحلى الإجمالى، وإنما هي أموال تتداول ما بين المتعاملين بالبورصة. بل أنها تتسبب في نزوح كم كبير من الدولارات للخارج، متمثلة في الأرباح الضخمة التي يحققها تعامل الأجانب بالبورصة المصرية، والتى تكون على حساب صغار المتعاملين من المستثمرين المحليين عادة. مناخ الاستثمار غير جاذب وربما يقول البعض أن هناك استثمار أجنبى مباشر قد تحقق خلال العام الماضى قد بلغ 8 مليار دولار، وهنا يجب أن ندرك أن هذا الرقم يتضمن نوعيات من الاستثمار قد لا تترجم في صورة مشروعات جديدة أو فرص عمل، فهو يتضمن شراء الأجانب لنسب من أسهم الشركات المقيدة بالبورصة بنسبة 10% أو أكثر من أسهمها. كما يتضمن عمليات الاستحواذ على شركات مصرية من قبل أجانب، أى أنه لا يضيف جديدا سوى تغيير مسمى المالك للمشروع، أيضا تتضمن الأرباح غير الموزعة بالمشروعات التي يمتلك الأجانب حصة الأغلبية بها، إلى جانب مشتريات الأجانب للأراضى والعقارات. وليت وزارة الاستثمار تتحلى بالشفافية وتعلن تفاصيل الاستثمار الأجنبى المباشر، حتى يعرف المصريون الحجم الحقيقى لقيمة المشروعات التأسيسية، التي توفر سلعا وفرصا للعمل، وسواء استجابت الوزارة أو لم تستجب - وهو ما نتوقعه في ظل عدم الاستجابة لهذا المطلب منذ تولى محمود محيى للوزارة - يظل لدى الرأى العام المصري مؤشر واقعى يمكنهم من خلاله معرفة حجم المشروعات التأسيسية، وهو مدى تأثر مؤشرى التضخم والبطالة، فلو كان هناك مشروعات جديدة أنتجت سلعا جديدة لأثرت على زيادة المعروض السلعى، ولاتجهت الأسعار للتراجع، وكذلك لأثرت على معدل البطالة بالسلب. بينما يدرك الغالبية أن مناخ الاستثمار ما زال غير مهيئا لقدوم تلك المشروعات، في ظل استمرار الاضطراب الأمنى وتكرار حوادث العنف، وحالة عدم الاستقرار السياسى، وتغييب الحريات العامة والتضييق على وسائل الإعلام وعلى القضاة، إلى جانب معدلات التضخم العالية وفائدة الإقراض المرتفعة وكثرة حوادث المرور والبيرقراطية والفساد. لكن محافظ المركزي لن يتوقف عن تصريحاته المستفزة، والتى كان منها تصريحه منذ أسابيع قليلة بانتهاء مشكلة سعر الصرف، بينما قام بعدها برفع سعر الفائدة على الجنيه لدفع البعض من حائزى الدولار للتخلص منه وتحويله إلى جنيه للاستفادة بفارق سعر الفائدة، وهو ما لم يحدث بدليل ارتفاع سعر الصرف الرسمى بشكل محدود بعد رفع الفائدة عما كان قبله. كما استمر وزير المالية في اقتراضه الخارجى بعدها، ليقترض 3.2 مليار دولار الشهر الماضى في صورة سندات، وإعلانه استمرار طرح سندات خلال العام المالى القادم، ولعل أرقام زيادة الاحتياطى التي تقل عادة عن قيمة الاقتراض الخارجى سواء من المؤسسات الدولية أو في صورة سندات، خير دليل على استمرار أزمة نقص العملات الأجنبية. والتى ستسمر لشهور طويلة قادمة خاصة مع الحاجة لسداد مبالغ ضخمة من الدين الخارجى خلال العام المالى القادم، بخلاف الاحتياج الدولارى لاستيراد السلع الغذائية والبترولية ومصروفات السياحة الخارجية والمشتريات السيادية وخدمات النقل بأنواعها، فعندما يكون الاقتراض هو الرافد الأكبر لجلب العملات للبلاد فهذا أكبر دليل عل استمرار مشكلة نقص الدولار.