في لقائه بعدد من الصحفيين والمثقفين مؤخرا طرح اللواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع عددا من المشاهد الاقتصادية المؤلمة، أبرزها تجاوز العجز الكلي بميزان المدفوعات 18 مليار دولار. وتوقع استمرار تراجع الاحتياطيات من النقد الأجنبي، وزيادة معدلات العجز بالموازنة عن الأرقام المعلنة حاليا. وكان البنك المركزي قد أصدر بيانا حول أداء الميزان الكلي للمدفوعات، والذي يشير الى الفرق بين موارد النقد الأجنبي الواردة للبلاد، من كافة الأنشطة خلال العام الماضي مثل التصدير والسياحة والتحويلات وغيرها، وما بين مدفوعات النقد الأجنبي التي يتم دفعها للخارج مثل قيمة الواردات السلعية والبترولية ومدفوعات أقساط وفوائد الديون وغيرها. أشار فيه الى بلوغ ذلك العجز أكثر من 18 مليار دولار خلال عام واحد، وهو أمر غير مسبوق، حيث إن نفس الميزان كان قد حقق فائضا يزيد على المليار دولار خلال العام الأسبق، ومن الطبيعي أن يتم استنزال ذلك العجز من أرصدة الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزي، والتي بلغت نحو 15 مليار دولار بعد أن كانت 36 مليار قبل الثورة، ويتوقع استمرار انخفاضها. وتتعدد الآثار السلبية لانخفاض الاحتياطيات من النقد الأجنبي على التصنيف الائتماني للبلاد، وعلى سعر صرف العملات الأجنبية، وعلى تكلفة استيراد السلع والخدمات، وعلى معدل فائدة الاقتراض الخارجي والداخلي. ولعل عجز هيئة البترول عن تدبير 600 مليون دولار شهريا، لاستيراد الكميات الناقصة من البوتوجاز والسولار والبنزين خير شاهد على تلك الآثار السلبية. وها هي الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تكاد تكون قد توقف دخولها للبلاد بعد الثورة، تتحول للخروج من البلاد بنحو 483 مليون دولار خلال عام واحد، وذلك بخلاف خروج ما قيمته حوالي 11 مليار دولار كانت تمثل استثمارات للأجانب، في أذون وسندات الخزانة وأسهما بالبورصة وودائع بالبنوك. ورغم ذلك فقد حققت قيمة تحويلات المصريين العاملين بالخارج أكثر من 14 مليار دولار، كما تخطت ايرادات القناة الخمسة مليارات من الدولارات. كما أشار مساعد وزير الدفاع الى زيادة العجز المتوقع بالموازنة، فإذا كانت البيانات الرسمية للعجز تتحدث عن 144 مليار جنيه لقيمة العجز، فإنه في ضوء ارتفاع سعر الفائدة على أذون الخزانة وسندات الخزانة، أن ترتفع تكلفة فوائد الدين بالموازنة والبالغة 106 مليارات جنيه بنحو 20 مليار جنيه إضافية. وعلى الجانب الآخر وبسبب حالة الركود بالأسواق يتوقع انخفاض الإيرادات الضريبية بنحو 20 مليار جنيه، فما بالنا لو تم اضافة أقساط الديون البالغة 99 مليار جنيه كذلك الى رقم العجز الحقيقي بالموازنة؟. ولأن هناك ما يسمى بالحتميات في الإنفاق بالموازنة مثل الأجور والدعم وتكلفة الدين من فوائد وأقساط، فإن وزارة المالية كلما وجدت صعوبة في تحقيق الايرادات المعتادة للموازنة، فإنها ستلجأ رغما عنها للإقلال من الاستثمارات الحكومية، بما لذلك من آثار سلبية على حالة المرافق العامة والخدمات الصحية والتعليمية. ورغم أجراس الخطر تلك فقد استمرت الاضطرابات الفئوية والمظاهرات وحصار المنشآت العامة واحتجاز عدد من المسئولين في مقار أعمالهم. بما يعطي صورة سلبية مباشرة لأي سائح يفكر في القدوم الى بلادنا، والى أي مستثمر محلي أو أجنبي يفكر في الاستثمار لدينا. وواكب تلك المشاهد الاقتصادية اجراء انتخابات الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور، لتبدأ معها موجة متلاحقة من الانسحابات والبيانات والمظاهرات والإتهامات، رغم أن الجمعية لم تبدأ عملها بعد، وكان من الطبيعي تأجيل تلك الخلافات خلال وضع مواد الدستور. ولم يخل الأمر من نماذج علت مواقفها فوق الخلافات الضيقة مثل المعتز بالله عبد الفتاح وفاروق جويدة ومحمد عبد العليم، الذين أعلنوا استعدادهم للتنازل لغيرهم لتقليل الخلاف بين الإسلاميين والليبراليين. وهكذا وبدلا من أن توجه النخبة مجهودها للتنوير وتعبئة الجهود للتنمية، وتخفيف حالات الاحتقان المتتالية، وتوصيل مطالب أصحاب الحاجات والاعتصامات الى المسئولين والسعي للاستجابة لها، ومواجهة رموز الفساد الذين مازالت لهم السيطرة في مواقع عديدة، ضاع الجهد في الخلافات والمشاحنات والاتهامات. وأصبحت الساحة السياسية مليئة بالعديد من المعارك الساخنة، ما بين صراع بين الاسلاميين والحكومة، وخلاف حاد بين الإخوان والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وخلاف بين الاسلاميين والليبراليين، يواكبها إعلام فضائي يشعل الحرائق كل ليلة، معبرا عن كراهيته لكل ماهو اسلامي سواء من الأشخاص أو التصرفات. ليجد المواطن العادي الذي كان ينتظر من الثورة أن توفر له أو لابنه عملا مناسبا، وتعليما وخدمات صحية وسبل انتقال آدمية، وأسعار متوازنة، يجد نفسه حائرا حانقا مشمئزا محبطا، فاقدا الثقة في تلك النخب الحنجورية المعزولة عن الواقع المعيشي الصعب لعموم المصريين. نقلا عن جريدة الأهرام