قرن الله في كتابه النعم بالشكر في مواضع منها: قوله تعالى ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) (1)، أي: لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة(2).
وقوله تعالى في ثنائه على سليمان عليه السلام (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) (3) ، أي: ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي، من تعليمي منطق الطير والحيوان، وعلى والدي بالإسلام لك، والإيمان بك(4)، فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه(5)، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته بالاعتراف والعجز عن الشكر والاجتهاد في الثناء بها على الله، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم وذريتهم لأنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها، خصوصًا نعم الدين فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم (6).
وقوله تعالى في ثنائه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (15) (7).
قال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أسلم أبواه جميعًا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده(8)، طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه(9).
فهذا الدعاء "رَبِّ".. بهذا النداء القريب المباشر المتصل.. "أَوْزِعْنِي" اجمعني كلي، اجمع جوارحي ومشاعري، ولساني وجناني وخواطري وخلجاتي، وكلماتي وعباراتي، وأعمالي وتوجهاتي، اجمعني كلي، اجمع طاقاتي كلها، أولها على آخرها وآخرها على أولها (وهو المدلول اللغوي لكلمة أوزعني) لتكون كلها في شكر نعمتك عليّ وعلى والديّ(10).
قال مالك بن مقول– رحمه الله-: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية، وتلا: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (15) (11).
وقوله تعالى في معرض امتنانه على لوط عليه السلام ومن آمن معه بإنجائهم من قومهم الكفار: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) (12)، فالشّكر على نعم الدفع أتمّ من الشكر على نعم النفع- ولا يعرف ذلك إلا كلّ موفّق كيّس (13).
وقوله تعالى في مدحه لإبراهيم عليه السلام شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) (14).
أي: قائمًا بشكر نعم الله عليه (15)، فأثنى سبحانه على خليله إبراهيم بشكر نعمه.
فإن قيل: لفظ الأنعم جمع قلة، ونعم اللّه تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة، فلما قال: شاكِراً لِأَنْعُمِهِ؟ قلنا: المراد أنه كان شاكرًا لجميع نعم اللّه إن كانت قليلة فكيف الكثيرة (16)، فالشاكر على القليل يشكر إذا أتاه الكثير من باب الأولى فاشكروا الله اقتداء به ليزيدكم.
الاقتران في الحديث النبوي: كان صلى الله عليه وسلم يُعَلِم أصحابه أدعية الشكر، منها: عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: وَكَانَ يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُنَاهُنَّ كَمَا يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ: ... وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثْنِينَ بِهَا، قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا (17).
الهدايات المستنبطة من اقتران النعم بالشكر: 1- المؤمن إذا شكر نعم الله عليه، زاده الله سبحانه وتعالى. 2- نعمة دفع الكافرين والمفسدين والظالمين عن النيل من المؤمنين أعظم من نعم النفع، فعلى المصلحين أن يشكروا نعم الله عليهم بدفع مكر وكيد المفسدين عنهم. 3- حث الكتاب والسنة على طلب العون من الله على إلهام الشكر. 4- طلب العون من الله بلفظ (الرب) معناه أي المربي الذي يرب أوليائه على شكر نعمه، ولذلك كثُرَ في القرآن دعاء الأنبياء الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم. 5- أفضل الشاكرين الأنبياء، فيجب التأسي والاقتداء بهم في شكرهم لربهم على القليل والكثير. 6- الشكر حافظ للنعم، والكفر والجحود مُذْهِب لها قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) (18).
اللهم: َاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثْنِينَ بِهَا، قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا... آمين. ------------------------- الحواشي: 1- المائدة 6. 2- تفسير الطبري: 3/ 60. 3- النمل 19. 4- تفسير ابن كثير: 1/ 183. 5- تفسير السعدي: 602. 6- تفسير السعدي: 781. 7- الأحقاف 15 8- تفسير القرطبي: 16/ 194. 9- تفسير التحرير والتنوير: 26/ 27. 10- في ظلال القرآن: 5/ 2637. 11- تفسير القرطبي: 16/ 194. 12- القمر33- 35. 13- لطائف الإشارات: 3/ 498. 14- النحل 121. 15- تفسير ابن كثير: 4/ 611. 16- تفسير الرازي: 20/ 284. 17- سنن أبي داود: باب التشهد (971) قال الألباني صحيح. 18- إبراهيم 7.