لقد اشتهرت بلقيس ملكة سبأ بالشجاعة والجرأة وحسن اختيار القرار، وأحكمت قبضتها علي اليمن، فكانت حاكمة قوية، ولكنها كانت تستشير قومها في كل الامور، ومن هنا فقد برز اسمها في زمانها، وكانت معاصرة لنبي الله سليمان الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب وسليمان عليه السلام هو ابن داودا، ولد حوالي سنه 3401 قبل الميلاد، وكانت وفائه حوالي سنة سنة 579 قبل الميلاد. وقد ورث سليمان عن أبيه النبوة والعلم والملك ووهبة الله سبحانه وتعالي معرفة لغة الطير، كما سخر له الجن يعملون بأمره ، كذلك الريح تجري حيث يأمرها سليمان. ذات يوم بينما نبي الله سليمان يسير علي رأس جيشه، سمع نملة تحذر النمل وتطلب منه أن يهرب حتي لايهلكه جيش سليمان: »حتي إذا أتوا علي واد النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون«. النمل: 81 وماكاد سليمان يسمع كلام النملة حتي يبتسم ضاحكا من قولها، وتذكر هذه النعمة التي أنعم الله به عليها نطلب من ربه داعيا أن يدخله الله في رحمته »فتبسم ضاحكا من قولها، وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين«. النمل: 91 وفي مشهد هام يصف القرآن الكريم نبي الله سليمان عندما تفقد الطير، ولم يجد الهدهد، وكرر الانتقام منه لو لم يكن هناك سبب وراء هذا التخلف، وتوعده بالعذاب الشديد أوالذبح. وعندما جاء الهدهد أوضح لنبي الله سليمان عليه السلام السبب في تخلفه، فقد طار بعيدا الي أرض اليمن حيث شاهد منظرا عجيبا استوقفه، وهو أنه شاهد امرأة، تملك عرشا عظيما، وتحكم هذه القبيلة من بلاد اليمن.. قبيلة سبأ، وأن هذه المرأة وقومها يعبدون الشمس من دون الله. إني وجدت امرأة تملكهم »أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم - وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لايهتدون«. »ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ماتخفون وما تعلنون، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم«. النمل 32 -62 إن هذا المشهد يرينا كيف أن الهدهد علم ما لم يعلمه سليمان نفسه، وأخبره عن هذه المرأة التي تحكم الناس في اليمن، ولها عرش عظيم، وتسجد هي وقومها للشمس، ولاتعبد الخالق العظيم لأن الشيطان أضلهم عن العبادة الحقيقية التي لا تجور إلا لله سبحانه وتعالي، فالله يعلم كل شيء، وليس كمثله شيء. يقول القرآن الكريم: »سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون« النمل 72 - 82 وذهب الهدهد الي حيث أمره سليمان، ووضع كتاب نبي الله أمام ملكة سبأ. وقرآت الملكة الخطاب وعرفت أنه من سليمان، وماكان منها إلا أن جمعت أصحاب الكلمة في بلادها لتشاورهم في أن هذا الكتاب الذي جاء من سليمان، الذي يطلب منهم أن يسلموا لله رب العالمين، وقد أيدوا رغبتهم في موجهة سليمان عليه السلام، لأنهم يملكون من القوة ما تمكنهم من مجابهة سليمان، ولكن بلقيس كانت تملك من الحكمة والفطنة ما يجعلها تقنع قومها بأنهم لاقبل لهم بسليمان وجنوده، وأن الملوك عندما يدخلون قرية يفسدونها: »قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون«. سورة النمل 43 وقررت أن ترسل هدية لسليمان عليه السلام ولكن سليمان عليه السلام رفض هذه الهدية إنه يريد منهم الايمان بالله، فقد أعطاه الله الملك والمال الوفير، وهو ليس في حاجة الي هذه الهدية، وعاد رسل الملكة ليقصوا علي ملكتهم رفض سليمان الهدية ومطلبه منهم الايمان بالله تعالي فيقول الدكتور محمد سيد طنطاوي: ويأتي بعد ذلك مشهد جديد يقص علينا القرآن الكريم فيه ما حدث بين سليمان عليه السلام وبين جنوده من محاورات ومن مطالب طلبها سليمان - عليه السلام - من جنوده فقال تعالي: »قالت يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا أتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإن عليه لقوي أمين،، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم« النمل 83 - 04 قال الإمام ابن كثير رحمه الله »وحين وصل رسل ملكة سبأ اليها، واخبروها بما قاله سليمان لهم.. قالت: قد عرفت انه ليس بملك وما لنا به من طاقة، وبعثت الي سليمان - عليه السلام - اني قادمة اليك بملوك قومي لانظر في امرك وما تدعونا اليه من دينك، ثم توجهت اليه في اثني عشر الف رجل من اشراف قومها - بعد أن اقفلت الابواب علي عرشها فجعل سليمان يبعث بالجن يأتونه بمسيرها ومنتاها كل يوم وليلة حتي اذا دنت من حدود مملكته جمع ما عنده من الانس والجن ممن تحت يده فقال لهم: »أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين« أي قال سليمان مخاطبا من سخرهم الله تعالي- لخدمته من الجن والانس: ايكم يأتيني بالسرير العظيم لهذه الملكة قبل أن تحضر الي هي وقومها متقادين طائعين مستسلمين لما أمرتهم به؟ ولعل سليمان - علي السلام - قد طلب احضار عرشها من بلاد اليمن الي فلسطين حيث مقر مملكته بلدة القدس، ليطلعها علي عظيم قدرة الله تعالي وعلي ما اعطاه - سبحانه - له من ملك عريض، ومن نعم جليلة، ومن قوة خارقة، حيث سخر له الله - تعالي من يحضر له عرش تلك الملكة من مكان بعيد في زمن يسير، ولعل كل ذلك يحملها هي وقومها الي الايمان بالله رب العالمين. ويقول الدكتور محمد سيد طنطاوي أيضا في تفسيره: »وقد رد عفريت من الجن علي سليمان - عليه السلام - يقول: أنا اتيك بعرشه هذه الملكة قبل أن تقوم من مجلسك هذا، أو قبل أن تقف من جلوسك، واني علي حمله واحضاره من تلك الاماكن البعيدة اليك لقادر علي ذلك، بحيث لا يثقل حمله علي، ولأمين علي احضاره ودون أن يضيع منه شيء. وكأن سليمان - عليه السلام - قد استبطأ احضار عرش تلك الملكة في تلك الفترة التي حددها ذلك المارد القوي الشديد من الجن، فنهض جندي آخر من جنود سليمان، ذكره ووضعه القرآن الكريم يقوله: »قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك« قال بعض المفسرين: والمراد بالذي عنده علم من الكتاب: أصف بن برخيا وهو رجل من صلحاء بني اسرائيل اعطاه الله تعالي من لدنه علما واسعا، وكان وزيرا لسليمان. قالوا: وكان هذا الرجل يعرف اسم الله الاعظم، هذا الاسم الذي من دعا الله تعالي به اجاب الله له دعاءه. والمعني: قال الرجل الذي عنده علم من كتاب الله تعالي »يا نبي الله، أنا آتيك بعرش بلقيس ملكة سبأ قبل ارتداد اجفانك اذا تحركت للنظرفي شيء أو قبل أن تغمض عينك وتفتحها. واذن سليمان لهذا الرجل الصالح باحضار عرش ملكة سبأ فدعا الله تعالي فاجاب دعاءه، وجاء العرش من بلاد اليمن الي مقر مملكة سليمان بالقدس بتلك السرعة الفائقة، فلما ورآه سليمان لم يفتر ولم يبطر، بل قال: هذا من فضل ربي وعطائه، ومن شكر فان الله سيزيده من نعمه، ومن جحد فالله غني عنه وعن الناس أجمعين«. وتمضي المشاهد المعجزة التي وردت في قصة سليمان عليه السلام، وكيف اعطاه الله من الملك والتحكم في الجن، ومعرفة لغة الطير، وتسخير الريح له.. فماذا فعلت بلقيس عندما جاءت من ارض اليمن، وتري هذا الملك العريض لنبي الله سليمان، وكيف شاهدت عرشها امامها وهي قادمة من تلك البلاد البعيدة، وما رد فعلها أمام هذه المعجزة؟ وإلي العدد القادم