هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الخمس الأول من سورة سبأ, وهي سورة مكية, وآياتها أربع وخمسون(54) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قوم سبأ, وهم قبيلة من العرب سكنت بلاد اليمن, وسميت باسم جدهم( سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان). ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة سبأ, وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي ومضات الاعجاز التاريخي, والعلمي, والتربوي في ذكر نبي الله داود عليه السلام في هذه الآية الكريمة, وفي غيرها من آيات القرآن المجيد. من أوجه الإعجاز في الآية الكريمة في الأثر أن داود عليه السلام عاش في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد وتولي الملك علي جزء من أرض فلسطين في حدود سنة(1012) ق.م, وتوفي في حدود سنة(933) ق.م, وذكر القرآن الكريم له, وقد أنزل هذا الكتاب المجيد بعد وفاة داود عليه السلام بأكثر من(1500) سنة يعتبر من المعجزات التاريخية في كتاب الله, خاصة, وأن كتب الأولين التي أشارت إلي هذا العبد الصالح لم تعتبره نبيا, ولم تذكر من الوقائع التي أوردها القرآن الكريم عنه شيئا, وأثارت حوله ما شوه صورته تشويها شديدا, وهو الذي امتدحه القرآن الكريم في العديد من آياته, وامتدحه المصطفي صلي الله عليه وسلم بقوله الشريف:أفضل الصيام صيام داود, كان يصوم يوما ويفطر يوما, وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا, وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء, وكان يشفي بصوته المهموم والمحموم. جاء ذكر داود عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة(16) مرة علي النحو التالي: 1 منها ما وصف المعركة التي انتصر فيها داود علي جالوت. ألم تر إلي الملإ من بني إسرائيل من بعد موسي إذا قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين* وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا اني يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليهم* وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسي وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين* فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطمعه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزوه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين* ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين* فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء* [ البقرة:246-252]. 3 ومنها ما يؤكد أن داود عليه السلام كان نبيا رسولا, آتاه الله تعالي كتابا اسمه( الزبور) إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلي نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسي وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا( النساء:163) وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين علي بعض وآتينا داوود زبور ( الإسراء55). 3 ومنها ما جاء عن داود عليه السلام أنه لعن الذين كفروا من بني إسرائيل: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داود وعيسي ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون* كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون( المائدة78-79). 4 ومنها ما يؤكد أن داود كان من ذرية نوح: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم علي قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم* ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسي وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريا ويحيي وعيسي وإلياس كل من الصالحين* وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا علي العالمين (الأنعام79 78) 5 ومنها ما تحدث عن واقعة تحكيم بين رجلين من قومه قضي فيها داود برأيه, ثم استأذنه ابنه سليمان في قضاء آخر فأيده أبوه علي قضائيه ووصفه بالحكمة: وداود وسلميان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين*ففهمنها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (الأنبياء78 79) 6 ومنها ما يشهد بأن الجبال والطير كانت تسبح مع تسبيح داود عليه السلام وأن الله تعالي قد ألان له الحديد وعلمه كما علم ابنه سليمان منطق الطير, وآتاهما من لدنه علما, كما علمه صناعة الدروع من رقائق حديدية متداخلة متعرجة لا تحد حركة الجسم وتحميه, وكان ذلك من أسباب انتصاراته العسكرية العديدة: ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا علي كثير من عباده المؤمنين*وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (النمل15 16) ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه وال طير وآلنا له الحديد أن أعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ( سبأ10 11). اصبر علي ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب* إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق* والطير محشورة كل له أواب* وشددنا ملكة وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب* (ص17 20). 7 ومنها ما يروي أن الله تعالي علم داود عليه السلام ألا يصدر حكما إلا بعد الاستماع إلي الطرفين المتخاصمين وذلك في واقعة ابتلاء تربوية يرويها القرآن الكريم علي النحو التالي: وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب* إذ دخلوا علي داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغي بعضنا علي بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلي سواء الصراط* إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلينها وعزني في الخطاب* قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم علي بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربة وخر راكعا وآناب* فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفي وحسن مآب* يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوي فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب* ( ص21 26). وكل واحدة من هذه الوقائع السبع هي معجزة تاريخية في ذاتها, ومعجزة تربوية وعلمية في آن واحد, وذلك للأسباب التالية: أولا: إن معظم هذه الوقائع لم تذكرها كتب الأولين. ثانيا: إن في كل واقعة من هذه الوقائع عددا من الدروس والعبر المستفادة التي لها دورها التربوي الواضح في سلوك كل من يقرؤها أو يستمع إليها. ثالثا: إن العلم التجريبي يثبت أخيرا أن كل شيء في الوجود( من الخلق غير الملكف, مثل: الجمادات, والنباتات والحيوانات) له قدر من الذاكرة, والوعي, والإدراك والشعور والانفعال والتعبير, وإشارة القرآن الكريم إلي أن كلا من الجبال والطير كان يسبح مع تسبيح داود عليه السلام يسجل سبقا واضحا لجميع المعارف المكتسبة بأكثر من ألف وأربعمائة سنة, كما يثبت معجزة علمية واضحة لا ينكرها إلا جاحد, خاصة أن داود عليه السلام كان قد من الله تعالي عليه بصوت فائق العذوبة والجمال ويزيده جمالا مسحة من الوقار والجلال, فقد سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم صوت أبي موسي الأشعري رضي الله عنه وهو يقرأ من القرآن الكريم بالليل, فقال صلي الله عليه وسلم لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود واسماعيل الخلق غير الملكف هو درجة من درجات الصفاء الروحي, والإشراق القلبي, والسمو العقلي لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله سبحانه وتعالي وفي هذا السياق تأتي إلانة الحديد لنبي الله داود عليه السلام خارقة من تلك الخوارق التي وهبها الله تعالي لهذا العبد الصالح والرسول الصادق, كذلك كان من نعم الله تعالي علي عبده داود عليه السلام إلهامه بصناعة الدروع من رقائق وحلقات متداخلة من الحديد لا تثقل الجسم ولا تحول دون حرية حركته, وفي نفس الوقت تحميه من سهام الأعداء وهو ما وصفه القرآن الكريم بتعبير( التقدير في السرد). ولم يرد في كتب الأولين شيء عن أغلب الوقائع التي أوردها القرآن الكريم عن عبدالله ورسوله داود عليه السلام, والفارق بين كلام الله وكلام البشر أوضح من الشمس في رابعة النهار, فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آلة وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته علي يوم الدين وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين. المزيد من مقالات د. زغلول النجار